سلسلة أحاديث وقواعد منهجية في الدعوة إلى الله والتوجيه متجدد
(الدعوة في السنة النبوية)
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
المقدمه :
الحمد لله حمدًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، وأتباعه إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا باب جديد في الدعوة إلى الله تعالى معتمدًا فيه على الكتاب والسنة، وجاريًا على التقعيد العلمي، ونبدؤه بالمقدمة:
فمما لا شك فيه أن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم القدوة والأسوة في الأمور كلها: (لقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [الأحزاب: 21] وقال سبحانه عن نبيه صلى الله عليه وسلم : (وإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) [القلم : 4].
وقد بعثه الله سبحانه وتعالى بشيرًا ونذيرًا، وهاديًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا، ومبلغًا عن ربه سبحانه، فبلغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فكان على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
فكانت مهمته عليه الصلاة والسلام البلاغ عن ربه ليقوم الناس بعبادته قال تعالى: )إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ([الشورى: 48]، وقال سبحانه: )يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ([المدثر: 1-2]، وقال: )وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ([الشعراء: 214]، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]، وهكذا تتوالى الآيات في إيضاح المهمة والهدف.
وبهذا رسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته المنهاج العظيم في الدعوة ليقتفوا أثره، ويسلكوا خطاه، وينتهجوا نهجه.
فاجتهد الصحابة ن في ذلك، ومن بعدهم من التابعين وتابعيهم حتى ألّفوا في ذلك مؤلفات مستقلة وكتبوا كتابات مستفيضة بالإضافة إلى خبراتهم وتجاربهم، فجزاهم الله خيرًا على ما قدموا وسطروا للإسلام والمسلمين.
ومن المعلوم أن الدعوة الإسلامية مستمرة استمرار الزمن، ولها مستجداتها وقضاياها المتنوعة، ونوازلها المتكررة، مما يوجب على أهل العلم والدعوة أن يجتهدوا في البيان والتوضيح.
ولقد استقرأت كثيرًا من المناهج والأعمال الدعوية، فوجدت فيها خيرًا كثيرًا يشكرون عليه، ويدعى لهم بالتوفيق والتسديد، والأجر والثواب، كما وجدت بعض مواضع الاجتهاد – قولًا وعملًا – ما يستوجب إبداء الرأي والنصح والبيان، وبخاصة في هذا الوقت الذي نشطت فيه الدعوة كما نشط مخالفوها.
ولقد رأيت أن من أهم ما يجب بيانه هو جمع ما تناثر من المسائل وتسطيرها على شكل قواعد لتكوّن منطلقات يستوعبها الداعية وطالب العلم، فتكون ضابطًا لكثير من التصرفات، فجمعت ما تيسر، وحاولت جمع المتماثل أو المتقارب ليجتمع في قاعدة، فكان ما ظهر من هذه القواعد، وهو (بلا شك اجتهاد) أرجو أن يكون راجحة أكثر من مرجوحة، وهو قابل للرأي والزيادة والنقصان، ويبقى أنه اجتهاد بذل الجهد فيه بين التأمل والمراجعة والمناقشة مع البحث العلمي، كما اجتهدت في محاولة التأصيل الشرعي لهذه القواعد مع مراعاة عدم التطويل والإسهاب مكتفيًا بما يوضح المراد، وبالله التوفيق ومن يستمد التسديد.
وسنتحدث في الحلقة الثانية عن هدف هذه القواعد ومنهجيتها، نسأل الله تعالى أن ينفع به الكاتب والقارئ وأن يوفق الجميع للاستنارة بتعاليم كتابه وللاهتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله تعالى، وهو ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
والى لقاء قادم ان شاء الله
رد: سلسلة أحاديث وقواعد منهجية في الدعوة إلى الله والتوجيه متجدد
(الدعوة في السنة النبوية)
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (19)
القاعدة الثانية : وضوح الرؤية والهدف (4-7)
مواصفات الهدف أو ضوابط الهدف الصحيح
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد،،،،،
ففي هذه الحلقة نبين: مواصفات الهدف أو ضوابط الهدف الصحيح:
لكي يحقق الداعية هدفه من دعوته، ويصل إلى ما يصبوا إليه فعليه أن يحدد هدفه وفق مواصفات واضحة يمكن إجمالها فيما يلي:
1- أن يكون الهدف شرعيًا بذاته فلا يقوده حماسة معينة، أو خطأ اجتماعي، أو بعد كثير من الناس عن الهدى، أو عمل جاد لأهل الباطل، أو غير ذلك من العوامل إلى أن يجعل هدفه غير شرعي.
ومثال ذلك كأن يجعل هدفه تتبع أهل الباطل فيقوده ذلك إلى القدح فيما لا يُقدحون فيه، أو نقد ذواتهم، فهذا انحراف عن الهدف الشرعي إلى هدف غير شرعي.
ومثال آخر: أن يكون هدفه الإصلاح العام لكن يحدد هدفه الموصل إلى هذا الهدف بتدمير منشأة أو قتل معصوم.
ومثال آخر: أن يكون هدفه تربية الشباب على الخير، ونقلهم من حياة اللهو والعبث والضياع، فيحدد للوصول إلى ذلك أهدافًا أخرى منها: التساهل في السلوكيات الشرعية مثل سماع المعازف والجلوس في مجالس الغيبة النميمة بحجة استمالة قلوبهم.
ومثال آخر: أن يكون هدف الداعية رعاية الأيتام والأرامل فيحدد هدفًا للوصول إلى ذلك هو جمع المال ولو كان من الحرام فيتساهل في ذلك في ذلك حتى يصل إلى تكوين جمعية الأيتام.
فهذه نماذج لأهداف جزئية تحرف الداعية عن الأهداف الصحيحة وتوقعه في محظورات متنوعة في دعوته دنيا وأخرى (1) .
2- أن يكون الهدف واقعيًا وممكن التطبيق، فلا يكون خياليًا أو فوق طاقة الداعية، أو يجنح نحو مثالية لا يتصور تطبيقها في الواقع، أو يقلد آخرين تختلف إمكاناتهم عن إمكاناته، ووسائلهم المتاحة لديه تختلف عن وسائلهم ونحو ذلك.
مثل: أن يكون هدفه نشر العلم الشرعي فيجعل من نفسه مفتيًا أو موجهًا أو معلمًا شرعيًا وهو لم يتأهل التأهل الشرعي بحجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بلغوا عني ولو آية»، ومن ثم تراه يخبط في الأحكام الشرعية، ويتناقض فيها، ويتخذ المواقف من الأحداث مبنية على مجرد الحماسة، أو الهوى، أو نظرية العقلية المجردة.
ولا أبالغ إذا قلت إن كثيرًا من الفشل الواقع في بعض الدعوات ومن بعض الدعاة هو بسبب هذا الأمر.
3- أن يكون الهدف أو الغاية سليمة من حيث تطبيقها فلا تتعارض مع غيرها، ولا تضر غيره.
ومعنى ذلك أن الهدف قد يكون مباحًا، بل ومأمورًا به شرعًا لكنه يتعارض مع غيره عند تطبيقه، أو يضر بغيره، وذلك مثل أن يكون هدفه تربية النشئ على تحفيظ القرآن الكريم أو تعليمهم مبادئ الدين ، لكن هذا الداعية قد يحدد هذا الهدف مع معارضة هؤلاء النشئ لوالديهم، فيتعلق هذا النشئ بهذا المربي مع وقوعه في كبيرة من كبائر الذنوب وهو عقوق الوالدين.
ومثال آخر: أن يكون هدف الداعية أمرًا بمعروف أو نهيًا عن منكر لكنه يتعدى بهما إلى الضرب أو الإيذاء وهو ليس من سلطته ذلك.
وبناء على ما سبق يجب أن يكون هدف الدعوة والداعية شرعيًا، وواقعيًا، وممكن التطبيق، ولا يتعارض مع غيره حتى يصل إلى تحقيقه بإذن الله تعالى.
وسنبدأ في الحلقة التالية بإذن الله تعالى ببيان: ركائز الداعية في تحقيق أهداف الدعوة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1) لا يخفى أن الأهداف الجزئية قد يسميها البعض وسائل، والمهم إذا عرف المقصود فلا مشاحة في السميات.
رد: سلسلة أحاديث وقواعد منهجية في الدعوة إلى الله والتوجيه متجدد
(الدعوة في السنة النبوية)
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (20)
القاعدة الثانية : وضوح الرؤية والهدف (5-7)
ركائز الداعية في تحقيق أهداف الدعوة- المَعلم الأول
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد،،،،،
ففي هذه الحلقة نبين: ركائز الداعية في تحقيق أهداف الدعوة- المعلم الأول:
ويقصد بذلك المعالم التي يستعين بها الداعي لصياغة هدفه ووضوح رؤيته.
1-المعلم الأول: التخطيط الواعي:
إن الدعوة إلى الله بحاجة ماسة إلى تخطيط قويم يعنى به دعاة اليوم كما عني بها دعاة الأمس من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وسلف هذه الأمة رضوان الله عليهم.
إن المتفحص في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يرى أنه كان عليه الصلاة والسلام يُعنى بالتخطيط، فقد كان صلى الله عليه وسلم يختار النماذج الصالحة لأن تكون رسلًا بالبشارة بالإسلام وهداية الناس إليه، فقد أرسل مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة، وأرسل معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن، وحبيب بن زيد رضي الله عنه إلى مسيلمة الكذاب، وقد كان يخبرهم بأحوال هذه المجتمعات وما هي عليه وما يصلح لها من دعوة.
وقد أقام نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم دار الرقم بن أبي الأرقم لتربية الصحابة وتعليمهم أمور الإسلام، وقد عاش بدعوته السرية ثلاث سنوات حتى كثر أتباع هذه الدعوة وأصبح لها قيمة في المجتمع المكي، وكذا كانت الهجرة النبوية تمضي بخطة مدروسة محكمة آتت ثمارها الحسنة والإيجابية.
إن التخطيط الواعي للدعوة هو الذي يوصل إلى النتائج المثمرة بأقصر الطرق بعد توفيق الله سبحانه وتعالى باستخدام أفضل الوسائل، أرقى الأساليب، والإفادة من وسائل الاتصال المعاصرة والتقنية الحديثة المتطورة لتصل إلى كل قلب.
إن ما ينبغي بيانه والتأكيد عليه أن البذرة مهما كانت صالحة فإنها تحتاج في نمائها إلى صلاح الأرض، وطيب التربة، وملاءمة الطقس، وكذلك كلمة الحق رغم أنها تحمل في داخلها تأثيرًا طبيعيًا، فإنها تحتاج إلى أن يراعي الداعية عند عرض الدعوة أوضاع المخاطب النفسية، فإن القلوب والنفوس تختلف إقبالًا وإدبارًا وتقدمًا وتخلفًا ورغبةً وإعراضًا بفعل الملابسات والأحوال التي تتناوبها، كاختلاف المواسم والفصول تمامًا في الملائمة لشيء ما أو عدم الملائمة له.
والخلاصة: أن على الداعية أن يخطط لعمله الدعوي، ولا يعني التخطيط الإيغال في الكتابة والورق، أو الجلوس على الطاولة وقتًا طويلًا، وإنما يعني أن يدرك عمله، وماذا يريد أن يصل إليه، والخطوات الني يريد القيام بها في ضوء الوسائل المتاحة لديه.
ولنضرب لذلك مثالًا: معلم جعل هدفه تقويم سلوك تلاميذه مع مادته العلمية.
فالتخطيط أن يقيد الموضوعات التي يريد طرحها، والزمن الذي يستغرقه، ومدى قياس التأثر والتأثير، والأسلوب الذي يريد طرح أفكاره فيه هل هو القصة المؤثرة؟ أو أسلوب الاستفهام؟ أو الترغيب والترهيب؟ ونحو ذلك، وبهذا سيكون نتاج دعوته عظيمًا بإذن الله تعالى.
وسنبدأ في الحلقة التالية بإذن الله تعالى ببيان: المَعلم الثاني من ركائز الداعية في تحقيق أهداف الدعوة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.