نوادر فوائد تفسير الطبري (العقدية- الإيمان بالله)
الإيمان بالله
مَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ دَّلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى صَانِعِهِ لِكُلِّ مَنْ صَحَّتْ فِطْرَتُهُ، وَبَرِئَ مِنَ الْعَاهَاتِ قَلْبُهُ، وَلَمْ يَحْمِلْهُ هَوَاهُ عَلَى خِلَافِ مَا وَضَحَ لَهُ مِنَ الْحَقِّ
{إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 6].
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَوَلَا دَلَالَةٌ فِيمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى صَانِعِهِ إِلَّا لِمَنِ اتَّقَى اللهُ؟
قِيلَ: فِي ذَلِكَ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى صَانِعِهِ لِكُلِّ مَنْ صَحَّتْ فِطْرَتُهُ، وَبَرِئَ مِنَ الْعَاهَاتِ قَلْبُهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ الْخَبَرَ عَنْ أَنَّ فِيهِ الدَّلَالَةَ لِمَنْْ كَانَ قَدْ أَشْعَرَ نَفْسَهُ تَقْوَى اللهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِمَنْ اتَّقَى عِقَابَ اللهِ فَلَمْ يَحْمِلْهُ هَوَاهُ عَلَى خِلَافِ مَا وَضَحَ لَهُ مِنَ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ كُلَّ ذِي فِطْرَةٍ صَحِيحَةٍ عَلَى أَنَّ لَهُ مُدَبِّرًا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْإِذْعَانُ لَهُ بِالْعُبُودِيَّ ةِ، دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ.{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101].
{قُلِ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِكَ، السَّائِلِيكَ الْآيَاتِ عَلَى صِحَّةِ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ وَخَلْعِ الْأَنْدَادَ وَالْأَوْثَانَ.. {انْظُرُوا} أَيُّهَا الْقَوْمُ.. {مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ} [يونس: 101] مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى حَقِيقَةِ مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ مِنْ شَمْسِهَا وَقَمَرِهَا، وَاخْتِلَافِ لَيْلِهَا وَنَهَارِهَا، وَنُزُولِ الْغَيْثِ بِأَرْزَاقِ الْعِبَادِ مِنْ سَحَابِهَا.. {وَالْأَرْضِ} وَفِي الْأَرْضِ مِنْ جِبَالِهَا، وَتَصَدُّعِهَا بِنَبَاتِهَا، وَأَقْوَاتِ أَهْلِهَا، وَسَائِرِ صُنُوفِِ عَجَائِبِهَا؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ لَكُمْ إِنْ عَقَلْتُمْ وَتَدَبَّرْتُمْ مَوْعِظَةً وَمُعْتَبَرًا، وَدَلَالَةً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ مَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي مُلْكِهِ شَرِيكٌ وَلَا لَهُُ على تَدْبِيرِهِ وَحِفْظِهِ ظَهيرٌ يُغْنِيكُمْ عَمَّا سِوَاهُ مِنَ الْآيَاتِ..
{وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ} وَمَا تُغْنِي الْحُجَجُ، وَالْعِبَرُ.. {وَالنُّذُرُ} وَالرُّسُلُ الْمُنْذِرَةُ عِبَادَ اللهِ عِقَابَهُ.. {عَنْ قَوْمٍ}قَدْ سَبَقَ لَهُمْ مِنَ اللهِ الشَّقَاءُ، وَقَضَى لَهُمْ فِي أُمِّ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.. {لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101]بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُصَدِّقُونَ بِهِ،{وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}[يونس:97].
لَا تُدْرِكِ اللهَ الأَبْصارُ، لَا فِي الدُّنْيِا وَلَا فِي الآخِرَةِ
لَا تُدْرِكِ اللهَ الأَبْصارُ، لَا فِي الدُّنْيِا وَلَا فِي الآخِرَةِ
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ.. [الأنعام: 103].
لَا تُحِيطُ بِهِ الْأَبْصَارُ، وَهُوَ يُحِيطُ بِهَا، وَاعْتَلَّ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ لِقَوْلِهِمْ هَذَا بِأَنْ قَالُوا: إِنَّ اللهَ قَالَ: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ [يونس: 90]، قَالُوا: فَوَصَفَ اللهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ الْغَرَقَ بِأَنَّهُ أَدْرَكَ فِرْعَوْنَ، وَلَاا شَكَّ أَنَّ الْغَرَقَ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ رَآهُ، وَلَا هُوَ مِمَّا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ يَرَى شَيْئًا، قَالُوا: فَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُبِمَعْنَى: لَا تَرَاهُ، بَعِيدًا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يُدْرِكُ الشَّيْءَ وَلَا يَرَاهُ..
كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ أَصْحَابِ مُوسَى ﷺ حِينَ قَرُبَ مِنْهُمْ أَصْحَابُ فِرْعَوْنَ: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61]؛ لِأَنَّ اللهَ قَدْ كَانَ وَعَدَ نَبِيَّهُ مُوسَى ﷺ أَنَّهُمْ لَاا يُدْرَكُونَ لِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى [طه: 77]، قَالُوا: فَإِنْ كَانَ الشَّيْءُ قَدْ يَرَى الشَّيْءَ وَلَا يُدْرِكُهُ، وَيُدْرِكُهُ وَلَا يَرَاهُ، فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُمِنْ مَعْنَى لَا تَرَاهُ الْأَبْصَارُ بِمَعْزِلٍ، وَأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: لَا تُحِيطُ بِهِ الْأَبْصَارُ؛ لِأَنَّ الْإِحَاطَةَ بِهِ غَيْرُ جَائِزَةٍ..
قَالُوا: فَالْمُؤْمِنُون َ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ بِأَبْصَارِهِمْ ، وَلَا تُدْرِكُهُ أَبْصَارُهُمْ، بِمَعْنَى: أَنَّهَا لَا تُحِيطُ بِهِ، إِذْ كَانَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُوصَفَ اللهُ بِأَنَّ شَيْئًا يُحِيطُ بِهِ..
قَالُوا: وَنَظِيرُ جَوَازِ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ يُرَى وَلَا يُدْرَكُ جَوَازُ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ يُعْلَمُ وَلَا يُحَاطُ بِهِ..
وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة: 255]، قَالُوا: فَنَفَى جَلَّ ثَنَاؤُهُُ عَنْ خَلْقِهِ أَنْ يَكُونُوا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ، قَالُوا: وَمَعْنَى الْعِلْمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ:: الْمَعْلُومُ، قَالُوا: فَلَمْ يَكُنْ فِي نَفْيِهِ عَنْ خَلْقِهِ أَنْ يُحِيطُوا بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ نَفْيٌ عَنْ أَنْ يَعْلَمُوهُ، قَالُوا: فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي نَفْيِ الْإِحَاطَةِ بِالشَّيْءِ عِلْمًا نَفْيٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْيِ إِدْرَاكِ اللهِ عَنِ الْبَصَرِ نَفْيُ رُؤْيَتِهِ لَهُ..
قَالُوا: وَكَمَا جَازَ أَنْ يَعْلَمَ الْخَلْقُ أَشْيَاءَ وَلَا يُحِيطُونَ بِهَا عِلْمًا، كَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَرَوْا رَبَّهُمْ بِأَبْصَارِهِمْ وَلَا يُدْرِكُوهُ بِأَبْصَارِهِمْ، إِذْ كَانَ مَعْنَى الرُّؤْيَةِ غَيْرَ مَعْنَى الْإِدْرَاكِ، وَمَعْنَى الْإِدْرَاكِ غَيْرَ مَعْنَى الرُّؤْيَةِ، وَأَنَّ مَعْنَى الْإِدْرَاكِ: إِنَّمَا هُوَ الْإِحَاطَةُ..
قَالُوا: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُلَا تَرَاهُ الْأَبْصَارُ؟
قُلْنَا لَهُ: أَنْكَرْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّ وُجُوهًا فِي الْقِيَامَةِ إِلَيْهِ نَاظِرَةٌ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَخْبَرَ أُمَّتَهُ أَنَّهُمْ سَيَرَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا يُرَى الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَكَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ..
قَالُوا: فَإِذْ كَانَ اللهُ قَدْ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ بِمَا أَخْبَرَ، وَحَقَّقَتْ أَخْبَارُ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِمَا ذَكَرْنَا عَنْهُ مِنْ قِيلِهِ ﷺ أَنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22-23]، أَنَّهُ نَظَرُ أَبْصَارِِ الْعُيونِ للهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَكَانَ كِتَابُ اللهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ أَحَدُُ هَاذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ نَاسِخًا لِلْآخَرِ؛ إِذْ كَانَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْأَخْبَارِ..
عُلِمَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ غَيْرُ مَعْنَى قَوْلِهِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22-23]، فَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَنْظُرُونَ بِأَبْصَارِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى اللهِ وَلَا يُدْرِكُونَهُ بِهَا، تَصْدِيقًا للهِِ فِي كِلَا الْخَبَرَيْنِ، وَتَسْلِيمًا لِمَا جَاءَ بِهِ تَنْزِيلُهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فِي السُّورَتَيْنِ.