اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو البراء محمد علاوة
فهنالك يظهر فيهم ما علمه الله سبحانه ويجزيهم على ما ظهر من العلم -وهو إيمانهم وكفرهم- لا على مجرد العلم.
جزاك الله خيرا اخى أبو البراء محمد علاوة على حسن الافادة
---- قال شيخ الاسلام بن تيمية فى[درء التعارض : 8: 430-473]:------------------- قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : « فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه » أنه أراد به مجرد الإلحاق في أحكام الدنيا ، دون أن يكون أراد أنهما يغيران الفطرة ، فهذا خلاف ما يدل عليه الحديث ؛ فإنه شبّه تكفير الأطفال بجدع البهائم ، تشبيهاً للتغيير بالتغيير .
وأيضاً ، فإنه ذكر الحديث لما قتلوا أولاد المشركين ، ونهاهم عن قتلهم ، وقال : « أليس خياركم أولاد المشركين ؟ كل مولود يولد على الفطرة ..» فلو أراد أنه تابع لأبويه في الدنيا ، لكان هذا حجة لهم . يقولون : هم كفار كآبائهم ، فنقتلهم .
وكون الصغير يتبع أباه في أحكام الدنيا هو لضرورة حياته في الدنيا ، فإنه لا بد من مربّ يربيه ، وإنما يربيه أبواه ، فكان تابعاً لهما ضرورة ؛ ولهذا متى سبي منفرداً عنهما صار تابعاً لسابيه عند جمهور العلماء ؛ كأبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، والأوزاعي ، وغيرهم ؛ لكونه هو الذي يربيه . وإذا سبي منفرداً عن أحدهما أو معهما : ففيه نزاع للعلماء .
واحتجاج الفقهاء كأحمد وغيرهم بهذا الحديث على أنه متى سُبي منفرداً عن أبويه يصير مسلماً ، لا يستلزم أن يكون المراد بتكفير الأبوين مجرد لحاقه بهما في الدين ، ولكن وجه الحجة أنه إذا ولد على الملة فإنما ينقله عنها الأبوان اللذان يغيرانه عن الفطره ، فمتى سباه المسلمون منفرداً عنهما لم يكن هناك من يغير دينه ، وهو مولود على الملة الحنيفية ، فيصير مسلماً بالمقتضى السالم عن المعارض . ولو كان الأبوان يجعلانه كافراً في نفس الأمر ، بدون تعليم وتلقين ، لكان الصبي المسبى بمنزلة البالغ الكافر ؛ ومعلوم أن الكافر البالغ إذا سباه المسلمون لم يصر مسلماً ، لأنه صار كافراً حقيقة .
فلو كان الصبي التابع لأبويه كافراً حقيقة ، لم ينتقل عن الكفر بالسباء ، فعُلم أنه كان يجزي عليه حكم الكفر في الدنيا تبعاً لأبويه ، لا لأنه صار كافراً في نفس الأمر .
يبين ذلك أنه لو سباه كفار ، ولم يكن معه أبواه : لم يصر مسلماً ، فهو هنا كافر في حكم الدنيا ، وإن لم يكن أبواه هوّداه ونصرّاه ومجسّاه .
فعُلم أن المراد بالحديث أن الأبوين يلقنانه الكفر ، ويعلمانه إياه . وذكر - صلى الله عليه وسلم - الأبوين لأنهما الأصل العام الغالب في تربية الأطفال ، فإن كل طفل غُيِّر ، فلا بد له من أبوين ، وهما اللذان يربيانه مع بقائهما وقدرتهما ، بخلاف ما إذا ماتا أو عجزا لسبي الولد عنهما أو غير ذلك .
ومما يبين ذلك قوله في الحديث الآخر : « كل مولود يولد على الفطرة ، حتى يعرب عنه لسانه ؛ فإما شاكراًُ وإما كفوراً » فجعله على الفطرة إلى أن يعقل ويميز ، فحينئذ يثبت له أحد الأمرين ، ولو كان كافراً في الباطن بكفر الأبوين ، لكان ذلك من حين يولد قبل أن يعرب عنه لسانه .
وكذلك قوله في الحديث الآخر الصحيح : حديث عياض بن حمار ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه : { إني خلقت عبادي حنفاء ، فاجتالتهم الشياطين ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً } صريح في أنهم خُلقوا على الحنيفية ، وأن الشياطين اجتالتهم ، وحرمت عليهم الحلال ، وأمرتهم بالشرك . فلو كان الطفل يصير كافراً في نفس الأمر من حين يولد ، لكونه يتبع أبويه في الدين ، قبل أن يعلمه أحد الكفر ويلقنه إياه ، لم يكن الشياطين هم الذين غيروهم عن الحنيفية وأمروهم بالشرك ، بل كانوا مشركين من حين ولدوا تبعاً لآبائهم .
ومنشأ الاشتباه في هذه المسألة اشتباه أحكام الكفر في الدنيا بأحكام الكفر في الآخرة ، فإن أولاد الكفار لما كانوا يجري عليهم أحكام الكفر في أمور الدنيا ، مثل ثبوت الولاية عليهم لآبائهم ، وحضانة آبائهم لهم ، وتمكين آبائهم من تعليمهم وتأديبهم ، والموارثة بينهم وبين آبائهم ، واسترقاقهم إذا كان آباؤهم محاربين ؛ وغير ذلك - صار يظن من يظن أنهم كفار في نفس الأمر كالذي تكلم بالكفر وعمل به ، ومن هنا قال من قال : إن هذا الحديث - هو قوله : « كل مولود يولد على الفطرة » كان قبل أن تنـزل الأحكام ، كما ذكره أبوعبيد عن محمد بن الحسن ؛ فأما إذا عَرَف أن كونهم ولدوا عى الفطرة لا ينافي أن يكونوا تبعاً لآبائهم في أحكام الدنيا ، زالت الشبهة . وقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمن في الباطن يكتم إيمانه ، من لا يعلم المسلمون حاله إذا قاتلوا الكفار ، فيقتلونه ، ولا يُغسل ، ولا يُصلى عليه ، ويُدفن مع المشركين ؛ وهو في الآخرة من المؤمنين أهل الجنة . كما أن المنافقين تجري عليهم في الدنيا أحكام المسلمين ، وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار . فحكم الدار الآخرة غير حكام الدار الدنيا .
وقوله : « كل مولود يولد على الفطرة » إنما أراد به الإخبار بالحقيقة التي خلقوا عليها ، وعليها الثواب والعقاب في الآخرة ، إذا عمل بموجبها وسلمت عن المعارض ، لم يرد له الإخبار بأحكام الدنيا ، فإنه قد عُلم بالاضطرار من شرع الرسول أن أولاد الكفار يكونون تبعاً لآبائهم في أحكام الدنيا ، وأن أولادهم لا يُنتزعون منهم إذا كان للآباء ذمة ، وإن كانوا محاربين استرقت أولادهم ، ولم يكونوا كأولاد المسلمين .
ولا نزاع بين المسلمين أن أولاد الكفار الأحياء مع آبائهم ، لكن تنازعوا في الطفل إذا مات أبواه أو أحدهما هل يحكم بإسلامه ؟ فعن أحمد رواية أنه يحكم بإسلامه لقوله : « فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه » ، فإذا مات أبواه بقي على الفطرة .
والرواية الأخرى كقول الجمهور : إنه لا يحكم بإسلامه .
وهذا القول هو الصواب ، بل هو إجماع قديم من السلف والخلف ، بل هو ثابت بالسنة التي لا ريب فيها ، فقد عُلم أن أهل الذمة كانوا على عهد النبي - صلى الله على وسلم - بالمدينة ، ووادي القرى ، وخيبر ، ونجران ، وأرض اليمن ، وغير ذلك . وكان فيهم من يموت وله ولد صغير ، ولم يحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسلام يتامى أهل الذمة . وكذلك خلفاؤه ؛ كان أهل الذمة في زمانهم طبق الأرض : بالشام ، ومصر ، والعراق ، وخراسان ؛ وفيهم من يتامى أهل الذمة عدد كثير ، ولم يحكموا بإسلام أحد منهم . فإن عقد الذمة اقتضى أن يتولى بعضهم بعضاً ، فهم يتولون حضانة يتاماهم ، كما كان الأبوان يتولون حضانة أولادهما .
و أحمد - رضي الله عنه - يقول : إن الذمي إذا مات ورثه ابنه الطفل ، مع قوله في إحدى الروايتين : إنه يصير مسلماً ، لأن أهل الذمة ما زال أولادهم يرثونهم ، ولأن الإسلام حصل مع استحقاق الإرث ، لم يحصل قبله . والقول الآخر هو الصواب كما تقدم .
والمقصود هنا أن قوله : « كل مولود يولد على الفطرة » لم يرد به في أحكام الدنيا ، بل في نفس الأمر ، وهو ما يترتب عليه الثواب والعقاب ، ولهذا لما قال هذا سألوه ، فقالوا : يا رسول الله : أرأيت من يموت من أطفال المشركين ؟ فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين ، فإن من بلغ منهم فهو مسلم أو كافر ، بخلاف من مات .
وقد تنازع الناس في أطفال المشركين على أقوال : فقالت طائفة : إنهم كلهم في النار ، وقالت طائفة : كلهم في الجنة ، وكل واحد من القولين اختاره طائفة من أصحاب أحمد . الأول اختاره القاضي أبي يعلى وغيره ، وحكوه عن أحمد ، وهو غلط على أحمد كما أشرنا إليه .
والثاني اختاره أبو الفرج بن الجوزي وغيره ، ومن هؤلاء من يقول : هم خدم أهل الجنة ، ومنهم من قال : هم من أهل الأعراف
، والقول الثالث : الوقف فيهم ، وهذا هو الصواب الذي دلت عليها الأحاديث الصحيحية ، وهو منصوص أحمد وغيره من الأئمة
، وذكره ابن عبدالبر عن حماد بن سلمة ، وحماد بن زيد ، وابن المبارك ، وإسحاق بن راهويه ؛ قال : وعلى ذلك أكثر أصحاب مالك ، وذكر أيضاً في أطفال المسلمين نزاعاً ليس هذه موضعه .
لكن الوقف قد يفسر بثلاثة أمور :
أحدها : أنه لا يُعلم حكمهم ، فلا يتكلم فيهم بشيء ؛ وهذا قول طائفة من المنتسبين إلى السنة . وقد يُقال : إن كلام أحمد يدل عليه .
والثاني : أنه يجوز أن يدخل جميعهم الجنة ، ويجوز أن يدخل جميعهم النار ، وهذا قول طائفة من المنتسبين إلى السنة من أهل الكلام ، وغيرهم من أصحاب أبي الحسن الأشعري ، وغيرهم .
والثالث : التفصيل ؛ كما دل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : « الله أعلم بما كانوا عاملين » . فمن علم الله منه أنه إذا بلغ أطاع : أدخله الجنة . ومن علم منه أن يعصي : أدخله النار .
ثم من هؤلاء من يقول : إنهم يجزيهم بمجرد علمه فيهم ، كما يُحكى عن أبي العلاء القشيري المالكي .
والأكثرون يقولون : لا يجزي على علمه بما سيكون حتى يكون ، فيمتحنهم يوم القيامة ، ويمتحن سائر من لم تبلغه الدعوة في الدنيا ؛ فمن أطاع حينئذ دخل الجنة ، ومن عصى دخل النار . وهذا القول منقول عن غير واحد من السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم .
وقد رُوي به آثار متعددة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حِسان ، يصدق بعضها بعضاً ، وهو الذي حكاه الأشعري في المقالات عن أهل السنة والحديث ، وذكر أنه يذهب إليه . وعلى هذا القول تدل الأصول المعلومة بالكتاب والسنة ، كما قد بُسط في غير هذا الموضع ، وبين أن الله لا يعذب أحداً حتى يبعث إليه رسولاً .