أثر البصمة الوراثية في إثبات نسب الولد غير الشرعي
أثر البصمة الوراثية في إثبات نسب الولد غير الشرعي
|
أثر البصمة الوراثية في إثبات نسب الولد غير الشرعي(دراسة فقهية، اجتماعية، أخلاقية)
الدكتور نذير حَمَادُو
جامعة الأمير عبد القادر- قسنطينة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد النبي الأمي الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه إلى يوم الدين. وبعد. ..
فقد أدى اكتشاف البصمة الوراثية لما تتصف به من مزايا في الإثبات دخولها حيز التطبيق، وأصبحت وسيلة رائدة لدى المحاكم والجهات الأَمْنِيَّةِ، خاصة لدى الدول المتقدّمة، فأصبحت وسيلة مهمة في هذا العصر؛ لتعقب المجرمين والتعرف على الجثث المتفحمة أو المتحللة، خاصة أمام فشل الوسائل التقليدية المعروفة في التعرف على هُوية الْمَعْنِيِّينَ .
وإذا كان استخدام البصمة الوراثية في هذا المجال لا غبار عليه؛ فإن استخدامها في مجال النسب يُثِيرُ تساؤلا حول مشروعيتها في الفقه الإسلامي، ومدى أثر الأحكام المترتبة عليها من الناحية الاجتماعية والأخلاقية.
وللإجابة عن هذا التساؤل، بَاتَ من الضروري أن أركّز على المباحث الآتية:
- عناية الإسلام بالنسب.
- أهمية البصمة الوراثية في الإثبات.
- التكييف الفقهي للبصمة الوراثية في إثبات النسب.
- الحكم الشرعي للبصمة الوراثية في إثبات النسب.
- مَنْزِلَة البصمة الوراثية من أدلة إثبات النسب.
- أثر استخدام البصمة الوراثية في إثبات نسب الولد غير الشرعي.
أولاً: عناية الإسلام بالنسب: لقد اعتنى الإسلام بالنسب، وجعله رابطة سامية، وصلة عظيمة؛ حيث نظّمه، وأرسى قواعده؛ حفاظاً له من الفساد والاضطراب، وجعله من النعم التي امتن بها على عباده، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً﴾ [الفرقان 54]، وكرّم سبحانه الإنسان وفضله على كثير من خلقه، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء 70]، ومن هذا التكريم أن جعل له سبباً واضحاً للتوالد والتناسل يليق بمقامه وتكريمه وهو النكاح، وجعل حفظ النسب (ضمن كلي حفظ النَّسْلِ) الذي هو كلي من الكليات الخمس، ولم يتركه لأهواء الناس ورغباتهم، فأبطل طرقه غير المشروعة التي كانت شائعة في الجاهلية: من التَّبَنِّي، ومن إلحاق الأولاد عن طريق الفاحشة؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهْكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ﴾ [الأحزاب 4]، ويقول الرسول الكريمr: )الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ([1].
ومما تجدر الإشارة إليه أن الإسلام لما حرّم التبني؛ فإنه لم يمنع من كفالة الولد والإحسان إليه خاصة إذا كان يتيماً، ويثاب ويؤجر على ذلك، على أن يبقى هذا الولد محافظا على نسبه الحقيقي. وشدد النكير على الآباء الذين يجحدون نسب أبنائهم، فيقول النبيr: )وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ [2]، احْتَجَبَ اللهُ تَعَالَى مِنْهُ، وَفَضَحَهُ عَلَى رُؤُوسِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ([3]؛ لأن في الإنكار تعريضاً للولد وأُمِّهِ للذُّلِّ والعارِ.
كما توعّد الأبناء الذين ينتسبون إلى غير آبائهم بقولهr: ) مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ، فَالْجَنَّةُ حَرَامٌ عَلَيْهِ ([4]؛ لأن الانتساب إلى غير الآباء من أكبر العقوق لهم. قال الرملي في نهاية المحتاج: "إن حصول الولد نعمة من الله، فإنكارها جحد لنعمته تعالى، ولا نظر لما قد يعرض للولد من عقوق ونحوه"[5]. وكذلك حذّر النساء من أن يَنْسِبْنَ إلى أزواجهن مَنْ يَعْلَمْنَ أنه ليس منهم؛ فيقول الرسولr: ) أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَّن لَّيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللهُ جَنَّتَهُ([6].
ويتبيّن مما سبق ذكره أن الإسلام كان حريصا كل الحرص على صدق انتساب النسل إلى أصله، ووضع لذلك أحكاما. يقول الشيخ الطاهر بن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية: "وفي التحديدات التي جاء بها الإسلام – أي: التي سبق ذكرها- نظرة عظيمة إلى حفظ حقوق النسل عن تعريضها للإضاعة والتلاشي، وفساد النشأة التي لا تصاحبها الرعاية"[7].
ثانياً: أهمية البصمة الوراثية في الإثبات: قبل الخوض في أهمية البصمة الوراثية في الإثبات، علينا أن نعرّف معنى البصمة الوراثية أَوَّلاً، ثم نتكلم عن أهميتها في المجال التشريعي.
البصمة الوراثية تقنية علمية جديدة، وكثيراً ما نجد الذين كتبوا في هذا الموضوع يركّزون على الجانب العلمي المتعلق بها ويُغفلون تعريفها، وبعد البحث عن تعريف دقيق لها، وجدتُ محاولات جادة في تعريفها:
التعريف الأول: هو للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية: " البصمة الوراثية البنية الْجِينِيَّة التفصيلية التي تدل على هُوية كل فرد بعينه"[8].
التعريف الثاني: هو للمجمع الفقهي الإسلامي: "مركب كيميائي ذو شِقَّيْنِ؛ بها ينفرد كل إنسان عن غيره"[9].
التعريف الثالث: هو لمفتي جمهورية مصر العربية – سابقاً- فضيلة الشيخ فريد واصل: " البصمة الوراثية في اصطلاح العلماء: يُقصد بها تحديد هُوية الإنسان عن طريق جزء أو أجزاء من حمض ADN الحمض المتمركز في نواة، أي: خلية من خلايا جسمه"[10].
التعريف الرابع: للدكتور وهبة الزحيلي: " هي المادة المورثة، الموجودة في خلايا جميع الكائنات الحية، وهي مثل تحليل الدم أو بصمات الأصابع، أو المادة المنوية، أو الشعر، أو الأنسجة؛ تبيِّنُ مدى التشابه والتماثل بين شيئين أو الاختلاف بينهما"[11].
التعريف الخامس: للأستاذ عارف علي عارف: " المقصود ببصمة الجينات، هو الاختلافات في التركيب الوراثي لمنطقة الأنترون، وينفرد بها كل شخص تماماً وتورث"[12]
والمقصود بمنطقة الأنترون هنا المنطقة التي تظهر عليها الاختلافات، وهي مكان من الحمض النووي تظهر فيه هذه الاختلافات؛ لأن 99.9 % من الحامض النووي متماثل عند كل الناس، بينما يقع الاختلاف بين الأفراد في 0.1 % منه فقط[13].
هذه التعريفات وإن اختلفت في التعبيرات؛ فإنها لم تختلف في الاعتبارات، ويمكننا استخلاص مما سبق تعريفاً للبصمة الوراثية فنقول: " البصمة الوراثية هي البُنية الوراثية التي يتفرّد بها كل شخص عن غيره، والتي تمكّننا من التّحقق من الشخصية، والوالدية البيولوجية.
وتتجلى أهمية البصمة الوراثة في إثبات النسب أو نفيه، أنها قادرة على إثبات الأبوة البيولوجية أو نفيها، وبالتالي يمكن أن يستفاد منها في قضايا النسب، والنازعات التي يثيرها هذا الموضوع، كاختلاط المواليد في المستشفيات، وضياع الأطفال واختطافهم، وحالة ما إذا وقع خطأ في أطفال الأنابيب؛ فهي تمكننا من التحقق من الشخصية لأي فرد من ناحية، وتمكننا من التحقق من الوالدية البيولوجية من ناحية أخرى؛ لتمييزها عن الوالدية الشرعية، أو النسب الشرعي؛ لأن النسب الشرعي هو الذي يأتي ثمرة نكاح صحيح أو فاسد أو وطء بشبهة، أما النسب البيولوجي فيعني: صاحب الماء الذي تخلّق منه الولد، فلا يتعلق بوجود العقد من عدمه، ولا بنوع العلاقة بين الرجل والمرأة سواء أكانت شرعية أو غير شرعية.
ثالثاً: التكييف الفقهي للبصمة الوراثية في إثبات النسب: البصمة الوراثية كغيرها من النوازل التي ظهرت حديثاً بفعل تقدم العلوم بمجالاتها المختلفة، والتي فتحت باباً لإمكانية استخدام تقنيات جديدة كوسائل للإثبات أمام القضاء، كانت محل دراسة من قبل الفقهاء في السنوات الأخيرة؛ بهدف تحديد قيمتها الثبوتية، ومدى جواز العمل بها كدليل أمام القضاء. وتتميز البصمة الوراثية بأنها دليل مادي يعتمد الحسَّ؛ لذلك يمكن تكييفها شرعاً بأنها من القرائن، والتي ذهب فريق من الفقهاء إلى قبولها كدليل في الإثبات كابن قيم الجوزية؛ حيث ألف كتاباً في هذا المجال سمّاه " الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ". والقرينة شرعاً هي: "كل أمارة ظاهرة تقارن شيئاً خفياً، فتدل عليه"[14]. أو: "ما يدل على المراد من غير أن يكون صريحاً فيه"[15] . غير أن القرائن بدورها يمكن تقسيمها إلى قرائن قطعية وقرائن ظنية، والقرائن القطعية هي البالغة حَدّ اليقين، والتي تمثل دليلا مستقلا في الإثبات؛ بحيث تقوم مقام البَيِّنَةِ، أما القرائن الظنية فلا تمثل دليلا مستقلا، ويُستعان بها على سبيل الاستئناس والترجيح[16].
وهذا ما يدعونا للتساؤل حول موقع البصمة الوراثية ضمن القرائن، فهل هي قرينة قطعية أو هي قرينة ظنية؟ انقسم فقهاء في الإجابة عن هذا التساؤل إلى فريقين:
الفريق الأول: يرى أن البصمة الوراثية قرينة قطعية[17]. وفي ذلك يقول أحدهم: ويمكن القول بأن البصمة الوراثية هي ذات دلالة علمية قطعية يقينية؛ لإثبات هُوية الإنسان، وتُعَدُّ سبباً شرعياً؛ لحسم نزاع النسب"[18]. ويقول آخر: " فقد أثبتت التجارب العلمية المتكررة أن البصمة الوراثية إذا توفّرت شروطُها وأكثرُ عيّناتها مع ملاحظة الدقة والضبط والتكرار دليل قطعي وأكثر نتائجها 100 %"[19].
الفريق الثاني: يرى أن البصمة الوراثية لا ترقى إلى مستوى القرائن القطعية، وهو الرأي الذي تبنّاه الدكتور عمر بن محمد السبيل، حيث قال: " إن النظريات العلمية الحديثة من طبية وغيرها، مهما بلغت من الدقة والقطع بالصحة في نظر المختصين، إلا أنها تظل محل شك ونظر؛ لِمَا عُلِمَ بالاستقراء للواقع أن بعض النظريات العلمية المختلفة في طِبٍّ وغيره يظهر مع التقدم العلمي الحاصل بمرور الزمن إبطالُ بعض ما كان يُقطعُ بصحته علمياً"[20].
وقد برر مؤيدو هذا الرأي بأن الأصل في البصمة الوراثية القطع غير أن الظروف أهدرت من قيمتها؛ ذلك بأنها تفتقر إلى التأثير في نفسية القاضي؛ كون أن إجراء التحليل يتم في غيابه، وعدم وقوف القاضي على نوعية القائمين على المختبر، بالإضافة إلى أن الظروف المحيطة والإجراءات المعقدة عند التحليل أهدرت من قيمتها[21].
وقد ذهبت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية من خلال ندوتها الحادية عشرة المتعلقة بالهندسة الوراثية والجينوم البشري والعلاج الجيني، المقامة في الكويت في الفترة الممتدة بين 23-25 جمادى الثانية 1419 هـ/ الموافق 13-15 أكتوبر 1998 م إلى أن: " البصمة الوراثية من الناحية العلمية، وسيلة لا تكاد تُخطئ في التحقق من الوالدية البيولوجية، والتحقق من الشخصية، ولاسيما في مجال الطب الشرعي، وهي ترقى إلى مستوى القرائن القاطعة التي أخذ بها جمهور الفقهاء في غير قضايا الحدود الشرعية"[22]. وقد أَيَّدَ هذا الموقف المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، شريطة استيفاء شروطها الكاملة؛ حيث جاء في توصياته أن: " البصمة الوراثية إذا استوفت الشروط الكاملة، واجتنبت الأخطاء البشرية؛ فإن نتائجها تكاد تكون قطعية في إثبات نسبة الأولاد إلى الوالدين، أو نَفْيِهَا عنهما، وتصل نتائجُها إلى 99.9%"[23].
رأيي في المسألة: والذي أراه في هذه المسألة هو أن قطعية نتائج البصمة الوراثية مرهونة بمدى توفر شروطها من حيث سلامة الأجهزة وكفاءة القائمين عليها، واتباع الخطوات العلمية الصحيحة؛ لذلك فإنني أقول: إن الأصل في البصمة الوراثية اليقين والقطعية، إلا أن عامل اليد البشرية والمراحل المعقدة التي يتطلبها التحليل قللت من مصداقيتها، وجعلت نتائجها قريبة من القطع، بمعنى أنها قرينة قطعية من الناحية العلمية، وقرينة ظنية من الناحية العملية.
رابعاً: الحكم الشرعي للبصمة الوراثية في إثبات النسب: أدى اكتشاف البصمة الوراثية لما تتصف به من مزايا في الإثبات دخولها حيز التطبيق، وأصبحت وسيلة رائدة لدى المحاكم والجهات الأَمْنِيَّةِ، خاصة لدى الدول المتقدّمة، فأصبحت وسيلة مهمة في هذا العصر؛ لتعقب المجرمين والتعرف على الجثث المتفحمة أو المتحللة، خاصة أمام فشل الوسائل التقليدية المعروفة في التعرف على هُوية الْمَعْنِيِّينَ . |