رد: حتى تنفقوا مما تحبون!
قال فؤاد لنفسه:
سوف أجرب اليوم.. سوف أنام مبكراً مثل مصعب، وسوف أستيقظ مبكراً مثل مصعب، وسوف أذهب مع مصعب إلى صلاة الجمعة..
وفي العاشرة من مساء الخميس، وليلة الجمعة، تسلل فؤاد إلى غرفته، فرأى أخاه مصعباً يطوي كتاباً كان يقرأ فيه، استعداداً للنوم، فبادره بقوله:
- سوف أجرب، يا مصعب، أن أنام اليوم مبكراً.
فأقبل مصعب نحوه متهلّل الوجه (أي مسروراً) وسأله في فرح:
- صحيح يا فؤاد؟
أجاب فؤاد:
- إن شاء الله.
فسأله مصعب مرة أخرى:
- وهل أوقظك لصلاة الفجر؟
وأجاب فؤاد:
- إن شاء الله.
وقبل أن يطفئ مصعب النور قال لأخيه:
- أنت أخي يا فؤاد، وأنا أتوسّم (أي أرى) فيك الخير، والأستاذ أسامة دائماً يذكرك بخير، ويدعو لك بالتوفيق والنجاح.. لأنه يريد لنا الخير، كما يريده لنفسه ولأهله ولسائر الناس.. وأنا أريد أن نكون كلنا في الجنة يا فؤاد.. أنت وأنا وأمنا وأبونا وأختنا هبة.. أريد أن يجمعنا قصر جميل في الجنة مثل هذا القصر الذي نسكن فيه، بل إني أطمع في قصر أجمل منه.
فابتسم فؤاد وقال:
- ولكن.. حتى تنفقوا مما تحبون.
فقال مصعب في تأكيد:
- أجل يا فؤاد.. حتى تنفقوا مما تحبون.. حتى ننفق مما نحب..
* * *
وعندما أذن المؤذن لصلاة الفجر، نهض مصعب من سريره إلى الحمام، وتوضأ، ثم حاول المستحيل لإيقاظ أخيه فؤاد، ولكنّ فؤاداً كان يغطّ في نوم عميق.. فكّر في رشّ قليل من الماء على وجهه، ولكنه خشي (أي خاف) من ردّة فعله.. خاف من انزعاجه، فتركه، ثم فكّر في إيقاظ أمه وأبيه، ولكنه خاف من ثورة أبيه وغضبه، فصلى وحده، ثم قرأ جزءاً من القرآن الكريم، ثم رفع يديه، وصار يبتهل (أي يدعو) إلى الله أن يهدي أباه وأمه وأخاه وأخته التي أكملت عامها السابع، ليؤدي كلّ واحد منهم حق الله عليه من صلاة وزكاة وصيام وحج، وأن يؤدوا حق العباد عليهم، وأن يؤدي أبوه حق المال، فيزكّي ويتصدق على الفقراء والمساكين، ويدفع لأسر الشهداء والمجاهدين، وكذلك أمه التي لها أموال يجب أن تزكيها.. وكانت عيناه تدمعان وصوته يرتجف وهو يدعو:
- اللهم اهد أبي.. اللهم اهد أمي.. اللهم اهد أختي وأخي.. واحفظهم جميعاً من كلّ سوء، واسترهم بسترك الجميل يا ستّير..
كان يكرر هذا الدعاء وهو جالس على سجادة الصلاة، وكان فؤاد يسمع هذا الدعاء وهو بين النائم واليقظان كأنه في حلم لذيذ، ثم شاهد أخاه مصعباً يتسلل من الغرفة بهدوء، حتى لا يزعجه، فازداد به إعجاباً، فقد كان يمشي مصعب على رؤوس أصابع قدميه.. فعاد هو إلى النوم، وهو يعجب من رقة أخيه مصعب، ومن أخلاقه الرضية، وتديّنه، ومن حبّه لفعل الخير..
كانت العصافير قد هبت من نومها، وانطلقت ألسنتها توحّد الله بأعذب (أي بأحلى) لغة، كانت تزقزق وهي تتقافز من شجرة إلى أخرى، ومن غصن إلى آخر، وكان مصعب يسبّح الله بصوت خفيض، وهو يستقبل خيوط نور الصباح الوليد، كما يستقبل زقزقة العصافير أو تسبيحها، عندما حضر البستاني أبو علي مع ابنه علي، ليعملا في حديقة القصر، يسقيان الأشجار ويشذبان أغصانها، وينظفان أرض الحديقة، ويحفر أبو علي هنا، ويلتقط عليّ بعض الأوراق الساقطة على ذلك البساط الأخضر الذي غطّى أرض الحديقة..
تقدم مصعب من البستاني وحيّاه تحية الصباح، فرفع أبو علي رأسه إلى مصعب، فطالعته عيناه الخضراوان كخضرة ذلك المرج الأخضر الذي يغطي أرض الحديقة، فردّ التحية بأحسن منها، ثم سأله مصعب:
- هل هذا الشاب ابنك يا عمي؟
أجاب البستاني:
- نعم يا ولدي.. إنه ابني عليّ.
ثم نادى ولده:
- تعال يا علي.. تعال سلّم على الأستاذ مصعب.
وجاء علي مسرعاً، وسلّم على مصعب في شيء من الخجل والارتباك، بينما كان سلام مصعب حاراً، ثم نظر إلى البستاني وعاتبه بقوله:
- لماذا لم تعرّفني إلى عليّ يا عمّي؟
أجاب البستاني، وهو ينفض يديه ليخلصهما مما علق بهما من طين الحديقة:
- أولاً لأنه خجول.. علي يستحي كثيراً، مثل بنت البيت.
نظر مصعب إلى علي، فرأى حمرة الخجل تصبغ خديه، ثم سأل:
- وثانياً؟
قال أبو علي:
- ثانياً لأنه طالب مجتهد، ولا أريد أن أضيع وقته بالعمل معي.
فقال مصعب:
- سبحان الله.. هل إذا جاء معك عليّ، فلابد أن يشتغل معك؟
قال علي:
- إذن لماذا آتي إذا لم يكن مجيئي لمساعدة أبي؟
قال مصعب:
- تأتي لنتعارف.. ثم.. في أي صفّ أنت؟
أجاب علي:
- في الصف التاسع.
قال مصعب:
- وأنا وأخي فؤاد في الصف التاسع.. يعني أننا ندرس معاً في صف واحد.
ثم التفت إلى أبي علي وسأله:
- أليس كذلك يا عمي؟
قال أبو علي الذي عاد إلى عمله، وكان ينكش الأرض:
- كما ترى يا مصعب يا طيّب يا ابن الطيبين.
قال مصعب:
- والآن.. هل تسمح لنا أن نتمشى في الحديقة يا عمي؟
- كما تحب يا ولدي..
وفيما كان مصعب وعلي يمشيان في الحديقة، ويتبادلان الأحاديث الودّية والمسائل المدرسية، كان عصفور جميل الألوان يقف على نافذة الغرفة التي نام فيها فؤاد، وينقر على زجاجها ويزقزق حتى أيقظه من نومه، فجَرّ فؤاد اللحاف فوق رأسه، لعله يبعد صوت العصفور عنه، ولكن العصفور كان مصمماً على إيقاظه بالنقر على زجاج النافذة، وبصوته الساحر.
نهض فؤاد، وطرد العصفور، ثم عاد إلى السرير، فعاد العصفور إلى النافذة ينقر ويزقزق في إلحاح، فنهض من جديد والغضب ظاهر عليه، ثم رمى بالوسادة نحو النافذة، فطار العصفور، ولكنه ما لبث أن عاد من جديد ينقر ويزقزق..
تعجب فؤاد من عمل هذا العصفور، فخرج إلى الشرفة ليطرد بقايا النوم من عينيه، فسمع صوت أخيه مصعب وهو يتحدث إلى فتى في مثل سنّه.. كان مصعب يقول لعليّ:
- عندما ترى أخي فؤاداً تحبّه.. إنه في عمرنا، وفي صفّنا، وهو إنسان طيّب جداً، وسوف يفرح بالتعرف إليك. وبصداقتك..
ثم سمع البستاني ينادي:
- أين أنت يا ولدي يا علي؟ تعال ساعدني..
فأسرع علي نحو أبيه، وكان يتبعه مصعب بخطوات هادئة، فعرف فؤاد أن هذا الفتى هو ابن البستاني..
فكّر فؤاد فيما يجب أن يفعله مع هذا الصبي، وشكر العصفور الذي أيقظه، وقال في نفسه:
"إن العصفور لم يوقظني إلا ليدلني على شيء.. على فعل الخير في هذا الصباح المبارك.. صباح يوم الجمعة.."
ثم أخذ يتطلع إلى ذلك الفتى ويتأمله (أي ينظر إليه متفحصاً) فرآه ولداً فقيراً، كان يلبس بنطالاً وقميصاً متواضعين فقرر أن يقدّم لابن البستاني بعض ملابسه القديمة، ولكنه تذكّر الآية الكريمة التي شرحها لهم الأستاذ أسامة: "حتى تنفقوا مما تحبون" فقال:"وأنا أحبّ البذلة الصيفية التي اشترتها لي أمي بالأمس، ولم ألبسها بعد..
" أخرج البذلة من خزانة ملابسه، ثم خرج يفتش عن كيس من النايلون ليلف به البذلة، فسألته أمه التي كانت قد استيقظت من نومها:
- عن ماذا تفتش يا فؤاد؟
أجاب فؤاد:
- عن كيس نايلون جميل.
فسألته أمه، وبقايا نوم ما تزال عالقة في أجفانها:
- لماذا استيقظت مبكراً؟ ليس من عادتك.
قال فؤاد:
- هل عندك كيس نايلون جميل وكبير يا أمي؟
فسألته من جديد:
- لماذا؟ ماذا تريد أن تفعل به؟
أجاب فؤاد:
- أريد أن أقدم هدية.
- لمن؟ وفي هذا الوقت؟
أجاب فؤاد:
- لابن أبي علي، لعليّ ابن البستاني يا أمي.
- وهل تعرفه؟
- الآن رأيته.. إنه في الحديقة يعمل مع أبيه.
سألته الأم:
- وماذا تريد أن تقدم له؟
أجاب فؤاد:
- البذلة الصيفية.
- أي بذلة؟
- التي اشتريتها لي أمس.
فصرخت به أمه:
- ويلك.. داخ رأسي وأنا أفتش لك عن هذه البذلة.. والآن.. بكل بساطة تقدمها هدية لابن البستاني..
قال فؤاد:
- نعم يا أمي.. سوف أقدّمها له هدية.
فصاحت به:
- اخرس يا ولد.. أعطه من بناطيلك القديمة..
وكان مصعب قد عاد إلى البيت، ليسمع ويرى هذا النقاش الحامي بين أمه وأخيه، فتقدم منهما وهو يقول:
- لا يا أمي.. حتى تنفقوا مما تحبون.
التفتت الأم نحو مصعب وقالت له، دون أن تفهم ما قاله:
- تعال انظر يا مصعب.. المجنون أخوك يريد إهداء ابن البستاني هدية.
قال مصعب:
- سمعتكما تتناقشان.. وأنا سوف أحلّ المشكلة بينكما.. سوف أهديه أنا بدلاً من فؤاد.
قال فؤاد:
- أرجوك يا أخي لا تفسد عليّ قراري.
وسألت الأم في سخرية:
- وماذا ستهديه أنت يا مصعب؟
أجاب مصعب:
- البذلة الصيفية..
فصرخت به أمه:
- لا تكمل.. لا يمكن أن أسمح لكما بإهداء هذه البذلة.
فسأل مصعب:
- لماذا يا أمي؟
قالت الأم:
- لأنها بذلة أجنبية.. من باريس.. لأنها غالية.. اشتريت كلّ بذلة بالشيء الفلاني.. لأنها لا تلبق على غير مصعب وفؤاد.
قال فؤاد وهو يبتسم ويغمز أخاه بعينيه:
- إذا كان الأمر على هذا الشكل، فأنا أتنازل لأخي مصعب.. قدّم له يا مصعب بذلتك، وسوف أقدّم له حذائي الإيطالي، وقميصي الأمريكي.
وسمع الوالد صراخ زوجته، فهبّ من سريره مسرعاً يستطلع الخبر، وعندما عرف القصة قال لولديه:
- اسمعوا كلام أمكم يا أولاد.
فقال فؤاد:
- عندي سؤال صغير جداً.. تسمح به يا أبي؟
أجاب الأب:
- اسأل يا فؤاد.. هات ما عندك يا ولد.
وتوجّه فؤاد نحو أمه وسألها:
- هل تسمحين لي يا أمي أن أسأل، بلا غضب ولا زعل؟
قالت الأم وقد هدأت قليلاً:
- اسأل يا فؤاد:
قال فؤاد:
- إذا قال لك جدّي أو جدتي كلاماً، وقال لك أبي كلاماً، فكلام من تسمعين وتنفّذين؟
أجابت الأم بدون تردد:
- أسمع كلام أبي وأمي.. يعني كلام جدك وجدتك..
وعاد فؤاد يسأل:
- وإذا قال لك أبوك وأمك شيئاً، وقال الله تعالى قولاً آخر، فكلام من تسمعين وتنفّذين؟
قالت، وقد عرفت أنها وقعت في الفخ:
- أسمع كلام الله تعالى.
فسأل فؤاد متوجهاً نحو أبيه؟
- وأنت يا أبي؟
أجاب الأب:
- كلام الله طبعاً.. ثم.. هل هذا سؤال يا فؤاد؟
قال فؤاد وهو ينظر نحو أخيه:
- قل لهم يا مصعب، ماذا قال الله تعالى بهذا الشأن.
قال مصعب:
- قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون.
فقال فؤاد:
- صدق الله العظيم.. وأنا أحبّ هذه البذلة الجميلة، وأحبّ أن أهديها لذلك الصبيّ لابن البستاني.
وقال مصعب:
- لا يا فؤاد.. أنا أحب بذلتي أكثر منك، أنا سأهديه بذلتي، وأنت تهديه القميص والحذاء.. وبهذا نحصل كلنا على الأجر والثواب.. أبي لأنه دفع ثمنها، وأمي لأنها اشترتها لنا، وأنت وأنا لأننا تنازلنا عنها لصبي فقير، أو أنك نسيت اتفاقنا يا فؤاد؟
فأجاب فؤاد:
- لا.. لم أنس.. فقد قلت هذا قبل لحظات.
ونظر مصعب نحو أبيه وقال:
- والزكاة يا والدي؟ ألم تقل إنك تسمع وتنفذ كلام الله تعالى؟ والله يأمر بالصلاة والزكاة.
وفيما كانت الحيرة ترتسم على وجه الأب، ابتسمت الأم وقالت:
- أنا سوف أزكي أموالي هذه السنة.
فهتف مصعب وفؤاد:
- وكلّ سنة.
قالت الأم:
- وكلّ سنة إن شاء الله .
وتوجّه الجميع نحو الطفلة الحلوة (هبة) التي خرجت من غرفتها وتقدّمت نحوهم وهي تعرك عينيها، وقال فؤاد:
- وأنت يا أبي؟ ألا ترى هبة أختنا الحلوة؟ من أجلها، من أجلنا جميعاً يا أبي.
فقاطعه أبوه قائلاً:
- يكفي يا ولد.. لن تكونوا خيراً مني.. سوف أزكّي اعتباراً من هذه السنة.
وقالت الأم:
- وأنا سوف أتصدق بخير ثوب عندي لأم عليّ، وببعض المال..
وأسرع الجميع يجهّزون ما اتفقوا على التصدّق به لأسرة أبي علي البستاني، والسعادة تغمرهم جميعاً. فيما كانت الطفلة هبة تأتي بلعبة لها جميلة، وتقدّمها لأمها، هدية منها لبنت أبي علي.
وأقبل فؤاد يضم أخاه مصعباً ويقول:
- لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون.
ثم ترك فؤاد أخاه مصعباً، وأسرع نحو غرفته، لعله يرى العصفور الذي جلب له وللأسرة كلّ هذا الخير، ولكنه لم يره، فعاد وتمدّد في سريره، وعيناه معلّقتان بالنافذة، ينتظر مجيء العصفور الطيب ليشكره.