رد: د. صقر - المنهج العلمي
الجزء الثاني
"آمِنْ=اتِّصَا لُ الْمَسِيرَةِ=3"
ثالثُ فُروع المنهج التَّكميليَّة اتصالُ المَسيرةِ، وعَلامتُه التَّنْبيهيَّة آمِنْ؛ إذ ينبغي أن يَستقرَّ في وعي الباحث استقرارَ العقيدة في قلب المؤمن، أنَّه أحد أبناء هذه السبيل السائرين على الدرب، لا يعمل وحده.
وعلى رغم اشتغالنا هنا بالبحث العلمي الصحيح الذي يُحافِظ فيه الباحثُ على تراث غيره من الباحثين، فيستوعبه، ويعرضه، وينقده، ويضيف إليه مؤمنا بأنه تراث متراكم يصل إليه ثم يستمر به- لا نرى البحث العلمي الرائع يَنْخَلِعُ الباحثُ فيه من تراث غيره.
ربما تَوهَّمَ بعضُ الباحثين أَلَّا إبداعَ إلا بالانخلاع من السبيل ومن أبنائها جميعا، وهَيْهَاتَ! ما أَبْعَدَ ما انْتَجَعَ! وما أَشْبَهَهُ بمن يريد الانخلاع من إرث طبيعته! كيف وهو إن تَنَفَّسَ فَبِزَفِيرِهِمْ يَتنفَّسُ، وإن تَحدَّثَ فَبِكَلامِهِم يَتَحدَّثُ!
"تَخَيَّرْ=نَوْع ُ الْمَصْدَرِ=4"
رابعُ فروع المنهج التكميلية نَوْعُ المصدر وصحتُه وزمنُه، وبحسبنا الآن نَوْعُه، وعلامته التنبيهية تَخَيَّرْ؛ إذ ينبغي للباحث الذي تَبيَّن مسألتَه ألا يغفل عما تحتاج إليه من مصادر ملائمة مسموعة أو مقروءة أو ملموسة أو مشمومة أو مشهودة أو مركبة.
كيف لمن يبحث عن حقيقة مسألة شفاهية أن يتخير لها مصادر كتابية، والعكس بالعكس! أم كيف لمن يبحث عن حقيقة مسألة فنية أن يتخير لها مصادر علمية، والعكس بالعكس! أم كيف لمن يبحث عن حقيقية مسألة شعرية أن يتخير لها مصادر نثرية، والعكس بالعكس! وهلم جرا...
ومِن شُجون هذا المقام اضطرابُ الباحثين من قديم إلى حديث في ملاحق أبحاثهم بين المصادر والمراجع والمجلات والدوريات والمخطوطات والأقراص المدمجة والمواقع الإنترنتية إلى آخر ما كان ويكون، وما مِنْ مُضْطَرب؛ إذ هي كلها إما مصادر نبعت منها مادة المسألة، وإما مراجع تَردَّد فيها كلام باحثين آخرين عن حقيقة هذه المسألة، وما سوى هذا مظاهر نشر لا أثر لها في تمييز المنشور.
"تَخَيَّرْ=صِحَّ ةُ الْمَصْدَرِ=4"
رابعُ فروع المنهج التكميلية نوعُ المصدر وصحته وزمنه، وبِحَسْبِنا الآنَ صحتُه، وعَلامتُه التنبيهيةُ تَخَيَّرْ؛ إذ كيف للباحث أن يستمد مادة مسألته من مصدر غير صحيح ويستقيم بحثه ويحظى عند المتلقين!
ومن صحة المصدر وجودُه على الحقيقة؛ فلا يكون مِنِ اخْتلاق الباحث - فالاختلاقُ كَذِبٌ- أو تَوَهُّمِه -فالتَّوَهُّم عَبَثٌ- أو انخداعه -فالانخداعُ غَفْلة- وأيّةُ استقامة وحَظْوة تُرْجَيَان بالغَفْلة أو العَبَث أو الكَذِب!
ومن صحة المصدر كذلك وُضوحُ مادَّته على الحقيقة؛ فلا يكون من قَسْر الباحث -فالقَسْر ظُلم- أو تَزْييفه -فالتَّزْييف خِداع- أو تصرفه -فالتصرُّف تَكلُّف- وأيّةُ استقامة وحَظْوة تُرْجَيَان بالتكلُّف أو الخِداع أو الظُّلم!
"تَخَيَّرْ=زَمَن ُ الْمَصْدَرِ=4"
رابعُ فروع المنهج التكميلية نوع المصدر وصحته وزمنه، وبِحَسْبِنا الآنَ زمنُه، وعَلامتُه التنبيهيةُ تَخَيَّرْ؛ إذْ ينبغي لمصدر المسألة أن يكون من زمنها -وإلا كان في نُبُوعُها منه نَظَرٌ- فأما كونُه من زمنِ ما قَبْلَها فَدَليلُ عَدَمِ صحته قَطْعًا، وأما كونُه من زمنِ ما بعدَها فَدَليلُ ضعفه.
أَلَا ما أَشْبَهَ استمدادَ مادة المسألة من مصدر لاحقٍ بَعِيد زمان صدوره عن زمان حدوثها بالاستشهاد بالحديث المنقطع السَّنَد بهُوَّة خاوية ليس فيها من الرواة الذين سمعوه من يستقرُّ به الاطمئنانُ!
كيف للباحث أن يَزْهَدَ في مُعاينة مسألته رَأْيَ العين، وليس الخبر كالمعاينة! أم كيف يَرْكَنَ إلى وَساطة مُتَوَسِّط يَدَّعي على مسألته الدعاوى ويمُنّ عليه من مادَّتها بما لا يُسْمِنُ بحثه ولا يُغْنِيه!
"جَهِّزْ=تَبْطِي قُ الْمَادَّةِ الْمُنَاسِبُ=5"
خامسُ فروع المنهج التكميلية تَبْطيقُ المادة المناسب وتَوْثيقُها وعَنْونتُها، وبِحَسْبِنا الآنَ تَبْطيقُها المناسِبُ، وعَلامتُه التنبيهيةُ جَهِّزْ؛ إذْ لا غِنَى بالباحث عن تَجْرِيد المادة من مصادرها حتى ينقطع لِتأمُّل مسألته فيها هي وحدها ويقف على طبيعتها وخصائصها وجوامعها وفوارقها، وما أَشْبَهَها مُجرَّدةً بتلامذتنا في فَصْلِهم الدراسي، وما أَشْبَهَها مُتَلبِّسةً بتلامذتنا في بيوتهم العائلية، وهيهات أن تُؤلِّف قلوبَهم دُروسٌ خُصوصيةٌ!
ينبغي للباحث أن يَنقُل كلَّ فكرة واحدة إلى بِطاقة واحدة قُصاصة ورقية أو مِلَفّ رَقْمي، بحيث تَنْطوي الفكرةُ في البطاقة، ولا تَنْطوي البِطاقةُ في الفكرة، لِتَتَحَيَّز هي من بطاقتها في حَيِّز محدود يُتيح له أن يَرْتَع في فضاء البطاقة بما يَعِنُّ له من تعليقات.
كذلك ينبغي له أن يلتزم نوعًا واحدًا من البطاقات الورقية أو الرقمية، يتيح له أن يَمُرَّ فيها مُرورًا واحدًا فيستوعبها استيعابا واحدا؛ فإنه إن عَدَّدَ أنواعها التبستْ عليه، وأَفلتَتْ من ضَبْطه، وكَلَّفَتْه كلَّ مرة ما يُلهيه عن غايته.
"جَهِّزْ=تَوْثِي قُ الْمَادَّةِ=5"
خامسُ فروع المنهج التكميلية تَبْطيقُ المادة المناسب وتَوثيقُها وعَنونتُها، وبِحَسْبِنا الآنَ تَوثيقُها، وعَلامتُه التنبيهيةُ جَهِّزْ؛ إذ لو لم تُوثَّق لم تَتجرَّدْ من مصادرها للباحث، واضطُرَّ إلى إهمالها مِنِ اعتماده أَصْلًا أو إلى تَفْتيش كلِّ ما عَرَضَ له من مصادر حتى يعثر على مواضعها منها، وهما أَمْران أحلاهما مُرّ.
ولا قيمةَ لمادة غير مُوثَّقة؛ فسواءٌ هي والعدم. وليس أبلغ احتجاجًا لضرورة توثيقها، من أنه يُقدَّم بين يديها كثيرا حتى يَطمئِنّ إليه مَن سينظر فيها، وإلا لم يُؤْمَنْ أن يَتجاوزَها مُعْرِضًا عنها بما انخلعتْ مِنْ مصدرها الذي تَنتسبُ إليه ويُعتمد في تقديرها عليه.
ومِنْ بِطاقات الأفكار يَبدأ تَوثيقُ المادة بلونٍ غير لون كتابة أفكارها، حيث يُثبت الباحثُ عن يمينِ أعلى كل بطاقةٍ اسمَ صاحبِ فكرتِها المشهورَ، وبين قوسين بعده بقية اسمه، ثم اسم مصدرها، ثم طَبْعته، ونَشْرته، ويثبت عن يسارِ أسفلِها موضعَ الفكرة من مصدرها.
"جَهِّزْ=عَنْوَن َةُ الْمَادَّةِ=5"
خامسُ فروع المنهج التكميلية تَبطيقُ المادة المناسب وتوثيقُها وعنونتُها، وبِحَسْبِنا الآنَ عنونتُها، وعَلامتُه التنبيهيةُ جَهِّزْ؛ إذ لا سبيل للباحث إلى تمييز مواد بطاقاته الكثيرة ورقيةً ورقميةً إلا بعَنْوَنَتِها أي تسميتها بعبارة موجزة واضحة، وإلا عَجَزَ عن معاملتها؛ فيئس منها، وأعرض عنها.
ولن يستقيم للباحث عنوانٌ على مادةٍ حتى يقرأ بطاقتها، ويقف على فكرتها؛ فيعنونها بها مِنْ فَوْرِهِ قبل أن تُفْلِتَ منه، في مُنْتَصَفِ أعلاها بلون غير لَوْنَيْ كتابتها وتوثيقها كليهما، وهو العنوانُ الذي سيُسمِّي به رَقْميَّتَها على حاسوبه.
لا ريب في أن العنونة مِنْ أصلِها إما صريحةُ الدلالة على فكرة المادة، وإما مُوحية غيرُ صريحة، ربما اشتملتْ على طبيعة إحساس الباحث بها. ولكن لا موضعَ هنا إلا للعنوان الصريح الذي يدُلّ على فكرة المادة دَلالةَ اسم الباحث على الباحث. ومَنْ شاءَ الإيحاء بإحساسه فَدُونَه فَضاءَ البطاقة مُتاحًا يَرْتَعُ منه ما شاء!
إنَّ عناوين البطاقات ورقية ورقمية هي التي ستُمكّن الباحث من أن يَمُرَّ في مادته سريعا كلَّما شاء أن يفتشها لِيتأمَّل ويجمع ويفرق. ومن ذَكَرَ لها هذه الجدوى عَمِلَ لها في مَشْغَلَةِ التَّجْهيز ما لا يَنْدَمُ عليه في مَعْمَعَةِ التَّمْييز!
"انْتَبِهْ=اتِّب َاعُ انْقِسَامِ الْمَادَّةِ=6"
سادسُ فروع المنهج التكميلية اتباعُ انقسام المادة، وعلامتُه التنبيهية انْتَبِهْ؛ إذ ينبغي للباحث أن يَخْضَعَ لما بين مفردات مادته من فروق، فيُراعِيها في تقسيمها وتصنيفها.
وقد استقر مِنْ قبلُ أنْ ليس في هذا المنهج العلمي مادَّةٌ لا تنقسم، وأنها إن لم تَنقسمْ باختلاف طبائعها انْقسمتْ باختلاف خصائصها، وإن لم تَنقسمْ في رأيه انقسمتْ في رأي غيره- وأَنَّه لا غنى به عن أقسامها فيما سيُبَوِّبُه بها من أبواب عمله، ويُفَصِّلُه من فصول ومباحث ومطالب.
ولكن ينبغي هنا تنبيه الباحث على أنْ يَلينَ لِمادته، فلا يَأْبى ما تجري عليه من انقسام، أو يتغافل عنه تَحْكيمًا لانقسام غيرها فيها أو انْخداعًا بتقسيم غيره لها، بل يُنصت لصوتها هي، ويُصدّقها؛ فإنها المادة التي لم يَستمدَّها من مصادرها إلا هو، ولن تَكْذِبَه.
"حَلِّلْ=الِاسْت ِيعَابُ=7"
سابعُ فروع المنهج التكميلية الاستيعابُ والعرضُ والنقدُ والفصلُ، وبِحَسْبِنا الآنَ الاستيعابُ، وعلامتُه التنبيهيةُ حَلِّلْ؛ إذ لن يتيسر للباحث بحثٌ حتى يستوعب ما اجتمع له من مادة، ولن يستوعبها حتى يُحلِّل مُركَّباتها وَيَتَدَسَّس إلى مُضْمَن طواياها ويَطَّلِع على مكوناتها.
ولْتَكُنْ هذه المادةُ من مظاهر الظواهر الطبيعية أو الاصطناعية، أو من آراء المتأملين المتفكرين، أو أَيًّا ما تكون؛ فلابد للباحث أن ينقطع لها مفرداتٍ وأقسامًا مثلما ينقطع الناسكُ، ويتأملها مثلما يتأمل العاشقُ، حتى تَتَكشَّف له مثلما تَتَكشَّف في ظهيرة النهار شمسُ الصحراء؛ فعندئذ يستوعبها مثلما يستوعب الوعاءُ مُوعَبَهُ؛ فلا يذهب ولا يؤوب إلا بها، ولا يقوم ولا يقعد ولا ينام ولا يصحو، وتبوح له بأسرارها، وتَتَأَنَّى حتى يسجلها!
ولا حَرَجَ على الباحث أن يَتَّهِمَ هو نفسُه استيعابَه لمادَّته قبل أن يتهمَه غيرُه، فيُراجعها مرةً أخرى، حتى يستقرَّ استيعابُه- بل الحرجُ أنْ يظل معها على قلق، كأنه أَسيرٌ ينتظر الإطلاق، ولا استيعابَ مع قَلَقٍ.
"حَلِّلْ=الْعَرْ ضُ=7"
سابعُ فروع المنهج التكميلية الاستيعابُ والعرضُ والنقدُ والفصلُ، وبِحَسْبِنا الآنَ العَرْضُ، وعلامتُه التنبيهيةُ حَلِّلْ؛ إذ ينبغي للباحث أن يُحْسن عَرْضَ مادَّته على مُتلقِّيها مثلما تُعرَضُ عليهم مطالبُهم في مَعَارِضِها، عَرْضًا ذكيًّا يجذبهم إليها ويُقْنِعُهُمْ بها.
وأحسنُ مَعارض مادة البحث الجداولُ الإحصائيةُ التي يَحْدِسُ فيها الباحثُ بأهم مظاهرها دلالة على ظواهرها؛ فيُجَدْوِلُ مفرداتها بحيث تدُلّ عليها نِسَبُها منها دلالةً واضحةً، ثم إذا شاء استفاد من بيانات الجداول في صناعة رسوم بيانية أوضح دلالة وأسرع إقناعا.
وليس أدلَّ تعبيرا عن قُدْرة الجداول ثم الرسوم البيانية على عَرْضِ مادةِ أيِّ بحثٍ -مهما كانت- من قول المصريين: "الفِيل في المنديل"، الذي يصفون به إحاطةَ الصغير بالكبير، وما أَشْبَهَهُ عندهم بعَمَلِ السَّحَرَة!
"حَلِّلْ=النَّقْ دُ=7"
سابعُ فروع المنهج التكميلية الاستيعابُ والعرضُ والنقدُ والفصلُ، وبِحَسْبِنا الآنَ النقدُ، وعلامتُه التنبيهيةُ حَلِّلْ؛ إذ ينبغي للباحث أن يُقَلِّبَ مادتَه المعروضة على كلِّ ما تحتمله من وجوه قريبة كانت هذه الوجوه أو بعيدة، وقوية أو ضعيفة، وحسنة أو قبيحة.
لقد حَدَسَ من قبل بأَدَلِّ مظاهرها على ظواهرها، وجَدْوَلَ مُفرداتِ هذه المظاهر، وحَدَّدَ نِسَبَ بعضِها من بعض؛ فالآن يَستخرجُ مُعطياتِها، ويَتأمَّلها، ويَتذوَّقُها، ويُمَيِّزُ بعضَها من بعض بكل ما تتميز به، ويُفسّر حدوثها بكل ما يصح لديه، مما ثبت في كلِّ علمٍ تَعَلَّمَه.
ولا ريب في أن العرض هو باب النقد؛ ومن ثم لا حَرَجَ على الباحث في أن يضبط بعضهما ببعض، فيعتني في العرض بما يحتفي به في النقد، ويوضح في العرض ما يسهل عليه في النقد، فإذ استترتْ عنه في النقد مُعطياتٌ أو غَمَضَتْ عليه، عاد إلى العرض، فعالجه بما يُبْرِزُها ويُبَدِّدُ غُموضَها.
"حَلِّلْ=الْفَصْ لُ=7"
سابعُ فروع المنهج التكميلية الاستيعابُ والعرضُ والنقدُ والفصلُ، وبحسبنا الآن الفصلُ، وعلامتُه التنبيهيةُ حَلّلْ؛ وإنما حَلَّلَ الباحثُ ما حَلَّلَ مِنْ أجل هذا الموقف الذي يبدو فيه كأنه يُركِّبُ ما حَلَّلَ؛ فتستبين له ملامحُ وجهِ الرأي الصحيح، فيقطع به دون غيره قولًا واحدًا لا ثاني له؛ فإنه إن لم يفعل كان كأنه عَبِثَ عَبَثًا، ولم يُحلِّل، ولَهُوَ أَشْبَهُ عندئذ بالطفل الطُّلَعَةِ الذي لا يترك جهازا إلا فَكَّكَه، ولا يُفَكِّك جِهازًا إلا تَرَكَه!
ربما رأى بعض الباحثين أن في النقد أَيْ تَقْليب المادة وتمييز وجوهها، إيحاءً بالفصل أو إغناءً عنه- وأن في الاقتصار عليه وجهًا من حسن سياسة المتلقي؛ إذ يُوهمُه عندئذ بأنه هو الذي فَصَلَ، وهو إنما وُجِّهَ فاتَّجَهَ. ولكنها حالٌ لا تخلو من شكٍّ ورياءٍ وإهمالٍ وقلقٍ وبَرَم، فأما اليقينُ والإخلاصُ والإتقانُ والثباتُ والرضا فهي كلُّها في مجاوزة النقد إلى فَصْلِ الرأيِ الصحيحِ الواحدِ.
"أَكْمِلْ=التَّح ْشِيَةُ=8"
ثامنُ فروع المنهج التكميلية التحشيةُ والختمُ والإلحاقُ والفهرسةُ والتقديمُ، وبحسبنا الآن التحشيةُ، وعلامتُه التنبيهيةُ أَكْمِلْ؛ إذ ينبغي للباحث أن يُخْلِيَ مَتْنَ بحثه مِمّا يَعوقُ انطلاقَ فَهْمِ المتلقي، فأما ما لا فائدة فيه ولا منفعة به فلابد له من مَنْعِه أنْ يُغَافِلَه إلى المتن، أو حذفه إذا غَافَلَه إليه- وأما ما فيه فائدةٌ وبه منفعةٌ فلابد له من نقله إلى حاشيته.
إن تحشية متن البحث هي إحاطته من خارجه بكل ما يفيده وينفعه، حتى إذا ما ارتاح منه المتلقي إلى قرارٍ انصرف إلى حاشيته؛ فازداد بما فيها فائدة ومنفعة.
وربما حَرَصَ بعض الباحثين على ألا تتجاوز الحاشية بِضعَ كلمات، وأَدْرَجَها في أَثْناء المتن بين شَرْطَتَيْنِ حتى يستوي البحثُ إراحةً للمتلقي كأنه مَتْنٌ لا حاشيةَ له. أما إذا زادت الحاشية على ذلك فلابد له من تأخيرها إلى هامش الصفحة، وهذه هي الحاشية السُّفْلِيَّة- أو إلى ما بعد البحث أو بعض أبوابه أو فصوله، وهذه هي الحاشية البَعْدِيَّة.
وقد التزمتْ بعضُ منابر النشر بعضَ أنواع الحواشي دون بعضٍ، وألزمتْ باحثيها، ولا ريب في أن المُدْرَجَةَ أَخَفُّ على الباحث، والبَعْدِيَّة أخفُّ على الناشر، والسُّفليَّة أخفُّ على المتلقي، إلا أن تَسوءَ التَّحْشِية، فيستخفّ بها الناشر والمتلقي كلاهما، ويَندمَ الباحث!
"أَكْمِلْ=الْخَت ْمُ=8"
ثامنُ فروع المنهج التكميلية التحشيةُ والختمُ والإلحاقُ والفهرسةُ والتقديمُ، وبِحَسْبِنا الآنَ الختمُ، وعلامتُه التنبيهيةُ أَكْمِلْ؛ إذ ينبغي للباحث أن يجمع خيوط نتائج بحثه ليعقد بها عُقْدَةَ خاتمته -والأعمال بخواتيمها- فيَدُلّ على عمله، ويُدِلّ به، ويُثبت وفاءَه بما سَيَعِدُ في المقدمة.
ومما يُعينه على حسن الخَتْم أن يَشفَعَ كلَّ ما يكتمل من أجزاء بحثه أبوابًا كانت أو فصولًا أو مباحث، بملخَّص ما حصل له فيها من نتائج، حتى إذا ما قائم قائم الختم وأَزِفَ الترحل اعتمد على ملخصات نتائج الأجزاء، ولم يَجْنِ عليه تَعَجُّلُ الفراغ.
ولا ريب في أنه إذا كَثُرَتْ نتائجُه الكبيرةُ استغنى بها في الخاتمة عن الصغيرة، وأحقُّ الأفكار بمقام النتائج الكبيرة تلك التي فَصَلَ فيها بالرأي الواحد. وإذا أَعْوَزَتْهُ النتائجُ الكبيرة التجأ إلى الصغيرة حتى تكتمل الخاتمة؛ فكما يَحْذَرُ أن تَطُولَ فتُظَنّ أحدَ فصول بحثه، يَحْذَرُ أن تقصُرَ فتُظَنَّ إحدى حواشيه.
"أَكْمِلْ=الْإِل ْحَاقُ=8"
ثامنُ فروع المنهج التكميلية التحشيةُ والختمُ والإلحاقُ والفهرسةُ والتقديمُ، وبِحَسْبِنا الآنَ الإلحاقُ، وعلامتُه التنبيهيةُ أَكْمِلْ؛ إذ ربما احتاج الباحث إلى إضافة مجموعات تَوضيحيّة من المعلومات المُنظَّمة المتعلقة ببحثه، التي لا تتسع لها حواشيه ولا تناسبها؛ فسَلَكَها في ملحقات، وأَضَافَها إلى بحثه من آخره.
مِنْ هذه الملحقات مُلْحَقُ مُفْردات المادة التي كان فيها البحثُ من أصله، ومُلْحَق مُصطَلحات مجال البحث الذي يُقابَلُ فيه أحيانا بين اللغات المختلفة، ومُلْحق الصورِ والرسوم والخرائط والجداول، وغير ذلك.
ولا تستوي هذه الملحقاتُ، لا أهميةً ولا إمكانًا؛ فبعضُها أهمُّ في بعض الأبحاث منه في بعض، وبعضها أظهر إمكانا في بعضها منه في بعض. وربما اقتضى بعضُ الأبحاث من الملحقات ما لم يُعْهَد في غيره؛ فكان من فطنة الباحث وتوفيقه.
"أَكْمِلْ=الْفَه ْرَسَةُ=8"
ثامنُ فروع المنهج التكميلية التحشيةُ والختمُ والإلحاقُ والفهرسةُ والتقديمُ، وبِحَسْبِنا الآنَ الفهرسةُ، وعَلامتُه التنبيهيةُ أَكْمِلْ؛ إذ البحثُ بيتٌ مُغلق على ما فيه لا يعرفه ويحسن وصفه إلا صاحبُه الذي بناه وعاش فيه، فأما زائرُه الذي يمر عليه مُرورًا فلا يستطيع وصفه حتى يُعْطَى مَفاتيحَه، وما مفاتيحُ البحث إلا فهارسُه.
إن فهرسةَ البحث هي جمعُ عناوينِه الداخلية وكلِّ ما أَشْبَهَها من دقائقه المهمةِ المُؤَثِّرة في حركته، وترتيبُها على حسب وُرودها فيه أو على حسب علاقة بعضها ببعض، ثم مُقابلتُها بأرقام صفحات ورودها فيه حتى يستطيع المتلقي أن يَتَخَيَّل باجتماعها في الفهارس أمامه بُنيانَ البحث، وأن يتتبع منها ما شاء. وليس الباحث نفسه بعد حين بأغنى عنها من المتلقي.
وأصلحُ مواضع الفهارس من البحث أن يَتَقَدَّمَ فهرسُ العناوين إلى عَقِبِ صفحة عنوان البحث نفسه، وتَتَأَخَّرَ سائرُ الفهارس إلى ما بعد البحث، ويشار إليها في فهرس العناوين.
ولقد ينبغي للمتلقي أن يعرف وللباحث أن يعترف، أن ليس كل ما يُنْشَرُ يُطَّلَع عليه كاملا، وإلا ما صَحَّ استقراءٌ مع استقصاءٍ- وأنَّ من مَناقب الفهارس المُتْقَنَةِ أن تُعينَ المتلقيَ على اختيار أَحَدِهِما (الاستقصاء والاستقراء). وما أَشْبَهَ الفهارسَ المُبْتَسَرةَ أو المضطربةَ بالمفاتيح الناقصة أو الصَّدِئة، يُعطيها صاحبُ البيت زائرَه عفوًا أو قصدًا؛ فيَعرف منه، ويُنكر، ويَرتاب!
"أَكْمِلْ=التَّق ْدِيمُ=8"
ثامنُ فروع المنهج التكميلية التحشيةُ والختمُ والإلحاقُ والفهرسةُ والتقديمُ، وبِحَسْبِنا الآنَ التقديمُ، وعَلامتُه التنبيهيةُ أَكْمِلْ؛ إذ لن يتحدث عن البحث مثل صاحبه، فيُفْسِح بين يديه الطريقَ إلى إقناع المتلقي وإقباله، مثلما تفعل نَشْرَةُ الدواء الملفوف بها في عُلبته بِمُتَناوِلِه؛ فعلى رغم أنها ليست من الدواء لا يرتاح إليه مُتناوِلُه إلا بها.
إن تقديم البحث هو سَبْقُه بعد الفراغ منه بما يُشيرُ إلى طبيعته ويَطمحُ بجسارته ويُنبهُ على قيمته، من عرض مسألته ودواعيها ومناقبها ومواعدها ومصادرها ومصاعبها ومسالكها، وشكر كل من ساعد على إنجاز بحثها، من غير إكراه هذه المقدمة على ما أغناها عنه قبلها فهرسُ العناوين.
وإن من حكمة الباحث أن يؤخر كتابة مقدمة بحثه حتى يفرغ منه كله، فيحرص على أن تَتلاءمَ هي وخاتمتُه مثلما تتلاءم نغمتا القرار والجواب في اللحن المستقيم الواحد، من غير حِنْثٍ بموعدة، ولا حَيْدةٍ عن قصد.
"هَذِّبْ=إِعَادَ ةُ الْكِتَابَةِ=9"
تاسعُ فروع المنهج التكميلية إعادةُ الكتابة، وعلامتُه التنبيهية هَذِّبْ؛ إذ ما كتابة البحث الأولى إلا تحقيق صورته المتخيلة، وهو العمل العظيم حقا، ولكنه لا يخلو من اضطراب علاقة الحقيقة بالخيال.
إن في الإعادة ولادةً أخرى حقيقية، لا إفادة فقط؛ ومن ثم يخافها كثير من الفنانين حرصا على براءة الصورة الخيالية وطراءتها، ويَسْترخصونَ إليها كلَّ ما تَلِدُهُ الإعادةُ منِ استقامةٍ واتساقٍ واتزانٍ وانضباطٍ. فأما العلماءُ -وطلابُ العلم هم العلماءُ- فلا يصبرون على اضطراب، ولا يعالجونه إلا بإعادة الكتابة.
يفرح الباحث بالكتابة الأولى أيَّما فرح؛ فهي الشَّبَكة التي اصطاد بها سَمَكَه، ثم ينصرف بإعادة الكتابة إلى تهذيبها مثلما ينصرف الصياد إلى إصلاح سمكه لأكله أو بيعه؛ فيقدم، ويؤخر، ويضيف، ويحذف، حتى لا يبدو له فيها عمل.
ولا حَرَجَ على الباحث الذي أعاد الكتابة -ثم بدا له- في أن يعيدها مرة أخرى أو مرارا؛ بل الحرج في أن يكسل عن ذلك، فيظل طوال عمره يُعاقِرُ اللَّوَّ واللَّيْتَ! وبئستْ معاقرتُهما صحبةً؛ فإنَّ لها لَنَهْشةً ولا نَهْشَةَ الأفعى، وصَحوةً ولا صحوةَ الموتِ!
"أَوْجِزْ=الْعَن ْوَنَةُ=10"
عاشرُ فروع المنهج التكميلية العَنْوَنَةُ، وعَلامتُه التنبيهية أَوْجِزْ؛ إذ ينبغي للباحث أن يقدر أن المتلقي سيمر سريعا على بحثه مستقلًّا كان بحثُه هذا أو غير مستقل، لينتقل إلى غيره في فترة جَمْعِهِ المحددة.
إن العنونة هي تسمية البحث كله بعد الفراغ منه، اسمًا يدل عليه ويشير إليه؛ فما أكثر العناوين التي سُمِّيتْ بها الأبحاثُ قبل الفراغ منها، ثم أَخْلَفَتْها بعدئذ؛ فحار فيها الباحثون وكأنَّ تغييرها عملٌ مَهينٌ من أعمال التَّفْريط، وهو حقُّ اليَقين!
وأحسنُ أحوال العَنْوَنَة أن تكون بمسألة البحث موجزةً صريحةً. ولا يُقْنِعُ الباحثَ مثلُ أن يَذْكُرَ ما لقيه هو نفسه في أثناء جمع مادته من الأبحاث القبيحة العناوين، كيف ضَلَّلَتْه، وكيف عَطَّلَتْه! فإن أَبى إلا الإِيحاء فَلْيَجْعَلْه بعنوان آخر مع العنوان الصريح.
ومن وُجوه العَنْوَنَةِ بمسألة البحث أن يكون العنوانُ نفسُه هو الرأيَ الذي انتهى الباحث إلى قبوله في المسألة أو إلى رفضه؛ فهو عنونة بالمسألة وزيادة، وإن لم يستقم في أوهام السياسيين!
"تَأَنَّقْ=الْإِ خْرَاجُ=11"
آخرُ فروع المنهج التكميلية الأحدَ عَشَرَ الإخراجُ، وعلامتُه التنبيهيةُ تَأَنَّقْ؛ إذ ينبغي للباحث ألا يُخْرِجَ بحثَه إلا في أبهى حُلَّة؛ فلا يترك شيئا يستولي على إقبال المتلقي على بحثه وارتياحه إليه وقبوله له واستمراره فيه إلا صنعه به، من نوع الحبر ولونه ونوع الخط وحجمه، إلى ترقيم الجمل وتنسيق الفقر والعناوين والصفحات، ثم اختيار ورق الطباعة والتغليف، وما إلى ذلك مما لا تنقضي عجائبه.
إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه. وإن تأنق الباحث في إخراج بحثه لهو شعار الإتقان؛ فلم تعد جودة البحث في نفسه كافية ولا مستقلة عن جودة إخراجه، بل صار حُكْمُ المتلقي على البحث وعلى إخراجه حُكْمًا واحدًا، يقول: لو كان جيدا لأجاد إخراجه، ولو كان مهما لاهتم بإخراجه.
وإن من تأنق الباحث في إخراج البحث أن يختار له أفضل نَشْرَةٍ تُوصِلُه إلى المتلقي. وإذا كانت المكتبات درجات بعضُها فوق بعض، فإن المجلات كذلك درجات بعضها فوق بعض، حتى صار مُحكّمو الأبحاث وَهُمْ سَادَةُ الْمُتَلَقِّينَ ، يراعون درجات المجلات في تقدير المقالات، كما يراعون درجات المكتبات في تقدير الكتب.
وإنما يوفق من يستحق التوفيق !
والحمد لله رب العالمين!