** مروءة حاتم الطائي **
أتى أبو جبيل قيس بن خفاف البرجمي حاتم طيئ، في دماء حملها عن قومه، فأسلموه1 فيها، وعجز عنها، فقال: والله لآتين من يحملها عني، وكان شريفًا شاعرًا؛ فلما قدم عليه قال: "إنه وقعت بين قومي دماء فتواكلوها، وإني حملتها في مالي وأملي، فقدمت مالي، وكنت أملي، فإن تحملها فرب حق قد قضيته، وهم قد كفيته، وإن حال دون ذلك حائل لم أذمم يومك، ولم أيأس من غدك. ثم أنشأ يقول:حملت دماء للبراجم جمة ... فجئتك لما أسلمتني البراجم2
وقالوا "سفاهًا" لم حملت دماءنا ... فقلت لهم يكفي الحمالة حاتم3
متى آته فيها يقل لي مرحبًا ... وأهلًا وسهلًا أخطأتك الأشائم4
فيحملها عني، وإن شئت زادني ... زياد من حنت إليه المكارم
يعيش الندى ما عاش حاتم طيئ ... فإن مات قامت للسخاء مآتم
ينادين مات الجود معك فلا نرى ... مجيبًا له ما حام في الجو حائم
وقال رجال أنهب العام ماله ... فقلت لهم إني بذلك عالم5
ولكنه يعطي من أموال طيئ ... إذا جلف المال الحقوق اللوازم6
فيعطي التي فيها الغنى وكأنه ... لتصغيره تلك العطية جارم7
بذلك أوصاه عدي وحشرج ... وسعد وعبد الله تلك القماقم8
فقال له حاتم: إن كنت لأحب أن يأتيني مثلك من قومك، هذا مرباعي9 من الغارة على بني تميم؛ فخذوه وافرًا، فإن وفى بالحمالة، وإلا أكملتها لك، وهو مائتا بعير سوى بنيها وفصالها، مع أني لا أحب أن تويس قومك بأموالهم، فضحك أبو جبيل وقال: لكم ما أخذتم منا، ولنا ما أخذنا منكم، وأي بعير دفعته إلي، ليس ذنبه في يد صاحبه، فأنت منه بريء، فدفعها إليه وزاده مائة بعير، فأخذها وانصرف راجعًا إلى قومه؛ فقال حاتم في ذلك:
أتاني البرجمي أبو جبيل ... لهم في حمالته طويل
فقلت له خذ المرباع رهوًا ... فإني لست أرضى بالقليل10
على حال، ولا عودت نفسي ... على علاتها عال البخيل
فخذها إنها مائتا بعير ... سوى الناب الرذية والفصيل11
فلا من عليك بها؛ فإني ... رأيت المن يزري بالجزيل
فآب البرجمي وما عليه ... من اعباء الحمالة من فتيل
يجر الذيل ينفض مذرويه ... خفيف الظهر من حمل ثقيل12
"ذيل الأمالى 22، والأغاني 7: 145"
__________
1- خذلوه.
2- البراجم من تميم.
3- السفاه: السفه. والحمالة: الدية يحملها قوم عن قوم.
4- الأشائم: ضد الأيامن.
5- أنهب المال: جعله نهبا يغار عليه.
6- أي جرفه وانتقصه.
7- جرم الرجل "بفتحتين": أذنب كأجرم.
8- جمع قمقام: وهو السيد.
9- المراباع: ربع الغنيمة، وكان يختص به قائد الغارة وفارسها.
10- يقال: آتيك به رهوًا أي آتيك به عفوًا سهلًا لا احتباس فيه.
11- الناقة المسنة، والرذية: مؤنث الرذي، وهو الضعيف من كل شيء ومن أثقله المرض.
12- المذروان. أطراف الألية بلا واحد أو هو المذري، ومن الرأس ناحيتاه، ويقال جاء ينفض مذرويه. أي باغيًا متهددًا.
