( التوحيد بين أهل السّنّة "ابن تيمية أنموذجا" وأهل الكلام )
بسم الله ..
خط صاحبُ الفضيلة الشيخ / عبد الله بن محمد الزهراني بيراعه الكريم ورقةً حوت تصورات واضحة للتوحيــد عند أهلِ السنة من طرف و جعل ابن تيمية أنموذجاً ناطقا بلسانهم , و معبراً عن طريقتهم , و مبيناً عن سبيلهم ,
و أهلِ الكلام من الطرف الآخر , عرض ثمَّ نقولاتٍ من صميم كتبهم , و عن كبار نظارهم , فجلّى بصنيعه هذا موقف الفريقين , و نظرة الطائفتين , فجزاه الله خيراً على حسن صنيعه , و نفع به و بما كتب .
و فيما يلي بريق حرفه , و سطوع بيانه .
( التوحيد بين أهل السّنّة "ابن تيمية أنموذجا" وأهل الكلام )
· توطــئــــة :
يعدّ مبحث الوحدانية أشرف مباحث هذا العلم ، ولذلك سمّي باسم مشتق منها ، فقيل :"علم التوحيد" ، ولعظم العناية به كثر التنبيه والثناء عليه في الآيات القرآنية ، كقوله تعالى :" وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ " والمراد به هنا عند المتكلمين : وحدة الذات والصفات والأفعال ، بمعنى عدم النظير فيها .[1]
وهذا إنما هو على سبيل الإجمال ، وإلا فإن اعتماد الأشاعرة في إثبات الوحدانية قد أخذ عدّة اتجاهات من حيث التقعيد والاستدلال .
فأبو الحسن الأشعري يثبت الوحدانية عن طريق دليل التمانع ، فيقول :" فإن قال قائل : لِم قلتم إن صانع الأشياء واحد ؟ قيل له : لأن الاثنين لا يجري تدبيرهما على نظام ولا يتسق على إحكام ، ولا بدّ أن يلحقهما العجز أو واحدًا منهما ، لأن أحدهما إذا أراد أن يحييَ إنسانًا وأراد الآخر أن يميته لم يخلُ أن يتمّ مرادهما جميعًا أو لا يتمّ مرادهما ، أو يتمّ مراد أحدهما دون الآخر . ويستحيل أن يتمّ مرادهما جميعًا ؛ لأنه يستحيل أن يكون الجسم حيًّـا ميتــًا في حال واحدة . وإن لم يتمّ مرادهما جميعًا وجب عجزهما ، والعاجز لا يكون إلهــًا ولا قديمًا . وإن تمّ مراد أحدهما دون الآخر وجب عجز من لم يتمّ مراده منهما ، والعاجز لا يكون إلهــًا ولا قديمًا . فدلّ ما قلناه على أن صانع الأشياء واحدٌ . وقد قال تعالى :" لو كان فيهما ءالهةٌ إلا الله لفسدتا " فهذا معنى احتجاجنا آنفًا " .[2]
وأبو بكر الباقلاني اعتمد أيضا على دليل التمانع ، ويرى أن وحدانية الربّ تعالى تعني : عدم مشابهته سبحانه أو مناظرته لأي من المخلوقات .
فيقول مقرّرا هذا الاستدلال :" فإن قيل : فيجوز ألّا يختلفا في الإرادة . قلنا : هذا القول يؤدي إلى أحد أمرين اثنين ، إما أن يكون ذلك لقول أحدهما للآخر : لا تُرِد إلا ما أُريد ، فيصير أحدهما آمرا والآخر مأمورا ، والمأمور لا يكون إلها . أو يكون كل واحد منهما لا يقدر أن يريد إلا ما أراده الآخر ، ولو كان ذلك كذلك لدلّ على عجزهما ، إذن لا يتم مراد أحدهما إلا بإرادة الآخر ، وإذا ثبت هذا بطل أن يكون الإله واحدا " .[3]
وكذلك صنع : عبدالقاهر البغدادي وأبو المظفر الإسفراييني ، حيث اعتمدا في إثبات الوحدانية على دليل التمانع ، وإن كان يقع بينهم اختلاف في طريقة تحصيل النتيجة .[4]
وأما أبو المعالي الجويني ، فيقرّر أن الباري واحد ، وأن الواحد في اصطلاح الأصوليين الشيء الذي لا ينقسم ، ولو قيل الواحد هو الشيء لوقع الاكتفاء بذلك . وذكر أنه قد يراد بتسميته واحدا أنه لا مثل له ولا نظير ، ويترتّب على اعتقاد حقيقة الوحدانية إيضاح الدليل على أن الإله ليس بمؤلّف .. .[5]
وفي تقريره لدليل التمانع سار على نهج من تقدّمه من علماء الأشاعرة ، كالباقلاني وغيره ، حيث ذكر حالات الاتفاق والاختلاف بين الآلهة .[6]
وأما أبو حامد الغزالي فيقرّر أن الواحد قد يطلق ويراد به : أنه لا يقبل القسمة ، أي لا كميّة له ولا جزء ولا مقدار . والباري تعالى واحد ، بمعنى : سلب الكميّة المصحّحة للقسمة عنه ؛ فإنه غير قابل للانقسام .
وقد يطلق ويراد به : أنه لا نظير له في رتبته ، كما تقول : الشمس واحدة ، والباري تعالى أيضاً بهذا المعنى واحد ؛ فإنه لا ندّ له . ثم يقرّر الغزالي بعد ذلك دليل التمانع وتقدير صوره الثلاث .[7]
وأما الفخر الرازي فيرى أن الوحدانية تطلق ويراد بها : نفي الكثرة في الذات ، ونفي الشريك .[8]
ويرى أن الواحد هو الشيء الذي لا ينقسم من جهة ما قيل له : إنه واحد .[9]
والرازي على طريقة أسلافه من الأشاعرة في إثبات الوحدانية عن طريق دليل التمانع .[10]
فيلاحظ اعتماد أغلب الأشاعرة على دليل التمانع ، ولهذا قال الآمدي :" وعليه اعتماد أكثر أئمتنا " .[11]
وذكر الفخر الرازي أنه أقوى أدلة المتكلمين .[12]
وقال ابن زكري التلمساني :" اعتماد أكثر الأئمة من أهل السّنة عليه " .[13]
فالخلاصة أن التوحيد عندهم يتألّف من ثلاث صفات : انتفاء الكثرة ، وانتفاء النّظير ، وانتفاء المماثلة .
والمراد بانتفاء الكثرة : نفي انقسام الذات والصفات والأفعال ، ويسمى عندهم بـ"الكم المتصل" .
والمراد بانتفاء النّظير : نفي تعدّد الذات والصفات والأفعال ، ويسمّى عندهم بـ"الكم المنفصل" . ويلزم منه : وجوب انفراده باختراع جميع الكائنات ، وامتناع استناد التأثير لغيره سبحانه في شيء من الممكنات .
والمراد بانتفاء المماثلة : نفي مماثلته سبحانه للحوادث .[14]
وأشهر هذه الصفات عندهم وأقواها هي القول بوحدانيته في الأفعال "الاختراع" ، وبهذه الصفة يفسّرون معنى الشهادة "لا إله إلا الله" . ومعنى توحيد الألوهية عندهم –إن ذُكر- فهو القدرة على الخلق والاختراع ، ولذا اشتهر عندهم أن معنى لا إله إلا الله ، أي : لا خالق إلا الله تعالى .[15]
والأشاعرة مختلفون في "الوحدة" هل هي من قبيل الصفات السلبية ، أو النفسية ؟
فجمهورهم على أنها من الصفات السلبية ، ونُقل عن أبي المعالي الجويني وغيره أنها من الصفات النفسية .[16]
وأما المعتزلة فتحدّثوا عن دليل الوحدانية في كثير من المناسبات ، لا سيّما عند ردودهم على الثنويّة المجوسيّة ، والنصارى القائلين بالتثليث ...
فهذا القاضي عبدالجبار يقرّر أن الله تعالى واحد لا ثاني له يشاركه فيما يستحقه من الصفات نفيا وإثباتا على الحدّ الذي يستحقه ، والإقرار . ولا بدّ من اعتبار هذين الشرطين : العلم والإقرار جميعا ؛ لأنه لو علم ولم يقرّ ، ولو أقرّ ولم يعلم لم يكن موحّدا .
ويقرّر أن الواحد قد يستعمل في الشيء ، ويراد به : أنه لا يتجزأ ولا يتبعّض على مثل ما نقوله في الجزء المنفرد أنه جزء واحد .. وقد يستعمل ويراد به : أنه يختص بصفة لا يشاركه فيها غيره ، كما يقال فلان واحد في زمانه .
والمعنى الثاني هو المراد بوصفه تعالى بأنه "واحد" فالمقصود مدح الله تعالى بذلك ، ولا مدح في أن يقال : لا يتجزأ ولا يتبعّض .[17]
والقاضي عبدالجبّار في هذا التقرير متابع لشيخه أبي هاشم الجبّائي ، فقد نقل عنه أنه يذهب إلى أن القديم يوصف بأنه واحد على ثلاثة أوجه :
(1) أنه لا يتجزأ ولا يتبعّض ، ولا يمتدح بذلك لمشاركة سائر الأشياء له .
(2) كونه متفردا بالقدم لا ثاني فيه .
(3) متفرّد بسائر ما يستحقه من الصفات النفسية من كونه قادرا لنفسه ، و عالما ، و حيّا .
ويرى الجبّائي أن الله تعالى إنما يمتدح على الوجهين الأخيرين دون الأول .[18]
وأما دليلهم في إثبات الوحدانية فهو دليل التمانع ، كما بسطه القاضي عبدالجبار .[19]
ويرى سيف الدين الآمدي أن سلوك مسلك دليل التمانع لإثبات الوحدانية مسلك ضعيف ، وعلّل ذلك بقوله :" منشأ الخبط ومحزّ الغلط في هذا المسلك : إنما هو في القول بتصور اجتماع إرادتيهما للحركة ، وليس ذلك مما يسلّمه الخصوم ، ولا يلزم من كون الحركة والسكون ممكنين ، وتعلق الإرادة بكل واحد منهما حالة الانفراد أن تتعلّق بهما حالة الاجتماع . و وزانه ما لو قدّرنا إرادة الحركة والسكون من أحدهما معا فإنه غير متصوّر ، ولو جاز تعلّقها بكل واحد منهما منفردا ، وليس هذا إحالة لما كان جائزا في نفسه ، فإن ما كان جائزا هو إرادته منفردا . والمحال إرادته في حال كونه مجامعا . وبهذا يندفع قول القائل : إن ما جاز تعلّق الإرادة به حالة الانفراد جاز تعلّقها به حالة الاجتماع ؛ إذ الاجتماع لا يصيّر الجائز محالا . وهذا الكلام بعينه في الإرادة هو أيضا لازم في صفة القدرة ، وأما القول بأن عجز أحدهما يستدعي عجزا قديما ومعجوزا عنه فيلزم مثله في القدرة ، فإن القادر قادر بقدرة قديمة ، فإن استدعى العجز قدم المعجوز عنه ؛ وجب أن تستدعى القدرة قدم المقدور " .[20]
ومن عجيب ما ذهب إليه المتكلمون لمّا قيل لهم : إن الإنسان يسمّى واحدا ، وكذلك الفرس . ومع ذلك فإنها مركّبة من أجزاء وأبعاض ، أجابوا عن ذلك بأن هذه التسمية إنما هي على سبيل المجاز لا الحقيقة . فيقول الجويني مقرّرا لهذا الجواب :" إن أهل اللسان من حيث تجوّزوا سمّوا الشخص إنسانا واحدا .. وإن رُدّ الأمر معهم إلى التحقيق ، وقرّر لهم انقسام الإنسان وتجزئه ، قالوا : هو أشياء وآحاد موجودات " .[21]
ومن خلال ما تقدّم من تقريرات المتكلمين وغيرها ، لا نجد من أنواع التوحيد ما هو مقرّر عندهم إلا : الربوبية ، والأسماء والصفات ، على ما في تقريرهما من أغلاط . بينما توحيد الألوهية الذي لأجل تقريره بعثت الرسل وأُنزلت الكتب ؛ لا يكاد يذكر في كتبهم إلا على سبيل النُّدرة .[22]
رد: ( التوحيد بين أهل السّنّة "ابن تيمية أنموذجا" وأهل الكلام )
· تقريرات ابن تيمية –رحمه الله- :
قرّر ابن تيمية أن لفظ "التوحيد" صار من الألفاظ المجملة المشتركة بسبب اختلاف اصطلاحات المتكلمين .
فقال –رحمه الله- :" لفظ " التوحيد والتنزيه والتشبيه والتجسيم " ألفاظ قد دخلها الاشتراك بسبب اختلاف اصطلاحات المتكلمين وغيرهم .. " .[23]
وقال في موضع آخر :" لفظ "التوحيد" ، و"الواحد" ، و"الأحد" في وضعهم واصطلاحهم غير "التوحيد والواحد والأحد" في القرآن والسنة والإجماع وفي اللغة التي جاء بها القرآن .. " .[24]
وقرّر –رحمه الله- أن التوحيد جماع الدين ،[25] وأنه أصل الدين ورأسه ،[26] وأنه سرّ القرآن ولُبّ الإيمان ،[27] وأنه أحسن الحسنات ،[28] وأنه أعظم الصلاح ،[29] وأنه أصل العدل ،[30] وأن كلمة التوحيد أفضل الكلام ،[31] وأنه أفضل ما نطق به الناطقون .[32]
وقد بيّن –رحمه الله- أن اسم "التوحيد" اسم معظّم جاءت به الرسل ، ونزلت به الكتب .[33]
وقرّر أن التوحيد والإيمان أعظم ما تزكو به النفس ، وأن الشرك أعظم ما يدسيها .[34]
كما قرّر –رحمه الله- أن الشياطين تظهر في المواضع التي يخفى فيها أثر التوحيد .[35]
وقرّر –رحمه الله- أن الله بيّن التوحيد في كتابه ، وحسم مواد الإشراك به حتى لا يخاف أحد غير الله ، ولا يرجو سواه ، ولا يتوكل إلا عليه . وأن النبي صلى الله عليه وسلم حقّق التوحيد لأمته ، وحسم عنهم موادّ الشرك ؛ إذ هذا تحقيق قولنا : لا إله إلا الله ؛ فإن الإله هو الذي تألهه القلوب ؛ لكمال المحبة والتعظيم والإجلال والإكرام والرجاء والخوف .[36]
وبيّن –رحمه الله- أن الله ألزم الخلق التوحيد ، وأمرهم به ، وقضى به وحكم ، فقال :" وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " ، وقال :" أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون " ، وقال :" ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " الآية .. وهذا كثير في القرآن يوجب على العباد عبادته وتوحيده ، ويحرّم عليهم عبادة ما سواه ، فقد حكم وقضى : أنه لا إله إلا هو .[37]
كما قرّر –رحمه الله- أن الله ذكر براهين التوحيد والنبوّة قبل ذكر الفرق بين أهل الحق والباطل .[38]
وقرّر –رحمه الله- أن حقيقة التوحيد أن لا يعبد إلا الله .[39]
وبيّن أن التوحيد لا يتم إلا بأن يفرّق بين الربّ القديم والعبد المحدَث .[40]
ولذلك عرّف التوحيد الواجب بأن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا ، ولا نجعل له ندّا في إلهيته ، لا شريكا ولا شفيعا .[41]
ولمّا قرّر –رحمه الله- أنواع التوحيد نصّ على أن التوحيد الذي في كتاب الله : هو توحيد الألوهية ، وهو أن لا تجعل معه ولا تدعو معه إلها غيره .[42]
وقرّر –رحمه الله- أن لفظ التوحيد إذا أُفرد فهو يتضمن قول القلب وعمله .[43]
وفيما يتعلّق بتوحيد الألوهية ؛ قرّر –رحمه الله- أنه هو الفارق بين الموحّدين والمشركين ، وعليه يقع الجزاء والثواب في الأولى والآخرة ، فمن لم يأت به كان من المشركين الخالدين ؛ فإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .[44]
وبيّن أن توحيد الربوبية قد أقرّ به المشركون ، وكانوا يعبدون مع الله غيره ، ويحبّونهم كما يحبّونه .[45]
فقال –رحمه الله- :" إن المشركين كانوا يقرّون بهذا التوحيد - توحيد الربوبية - ومع هذا يشركون بالله فيجعلون له أندادا يحبّونهم كحبّ الله ، ويقولون : إنهم شفعاؤنا عنده ، وإنهم يتقرّبون بهم إليه ، فيتخذونهم شفعاء وقربانا ، كما قال تعالى :" ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله " ، وقال تعالى :" والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " .. " .[46]
وقال في موضع آخر :" إن المسلمين وإن اشتركوا في الإقرار بها فهم متفاضلون في تحقيقها تفاضلا لا نقدر أن نضبطه ، حتى أن كثيرا منهم يظنّون أن التوحيد المفروض هو الإقرار والتصديق بأن الله خالق كل شيء وربّه ، ولا يميّزون بين الإقرار بتوحيد الربوبية الذي أقرّ به مشركو العرب ، وبين توحيد الإلهية الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يجمعون بين التوحيد القولي والعملي " .[47]
ولمّا كان أهل الكلام إنما غاية التوحيد عندهم هو الربوبيّة ؛ بيّن –رحمه الله- أن ذلك وحده لا ينفع ، فإن مشركي العرب كانوا يقرّون به ، فقال :" مجرّد توحيد الربوبية قد كان المشركون يقرّون به ، وذلك وحده لا ينفع ، وهؤلاء الذين يريدون تقرير الربوبية من أهل الكلام والفلسفة يظنّون أن هذا هو غاية التوحيد ، كما يظنّ ذلك من يظنّه من الصوفية الذين يظنّون أن الغاية هو الفناء في توحيد الربوبية . وهذا من أعظم ما وقع فيه هؤلاء وهؤلاء من الجهل بالتوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب . فإن هذا التوحيد - الذي هو عندهم الغاية - قد كان مشركو العرب يقرّون به كما أخبر الله عنهم ، ولكن كثير من الطوائف قصّر فيه مع إثباته لأصله ، كالقدريّة الذين يخرجون أفعال الحيوان عن قدرة الله ومشيئته وخلقه ، ولازم قولهم حدوث محدثات كثيرة بلا محدث " .[48]
وبيّن –رحمه الله- أن أهل الكلام الذي ظنّوا أن التوحيد هو مجرّد توحيد الربوبية فهو التصديق بأن الله وحده خالق الأشياء ؛ اعتقدوا أن الإله بمعنى الآله : اسم فاعل ، وأن الإلهية هي القدرة على الاختراع ، كما يقول الأشعري وغيره ممن يجعلون أخصّ وصف الإله القدرة على الاختراع .[49]
ولذلك ذكر –رحمه الله- أنهم يفسّرون التوحيد بما ليس هو معنى التوحيد في كتاب الله وسنّة رسوله ، وليس هو التوحيد الذي أنزل الله به كتابه وأرسل به رسوله ، وهذا أصل عظيم تجب معرفته .. .[50]
وقال في موضع آخر :" التوحيد الذي أنزل الله به كتبه ، وأرسل به رسله ، وهو المذكور في الكتاب والسّنة ، وهو المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام ، ليس هو هذه الأمور الثلاثة التي ذكرها هؤلاء المتكلّمون ، وإن كان فيها ما هو داخل في التوحيد الذي جاء به الرسول ، فهم مع زعمهم أنّهم الموحّدون ليس توحيدهم التوحيد الذي ذكر الله ورسوله ، بل التوحيد الذي يدّعون الاختصاص به باطل في الشرع والعقل واللغة .. " .[51]
وقال في موضع آخر :" .. وأخرجوا من التوحيد ما هو منه كتوحيد الإلهية وإثبات حقائق أسماء الله وصفاته ، ولم يعرفوا من التوحيد إلا توحيد الربوبية ، وهو الإقرار بأن الله خالق كل شيء وربّه ، وهذا التوحيد كان يقرّ به المشركون .. " .[52]
ومما بيّنه أيضا ممّا يتعلّق بتحقيق المتكلمين للتوحيد ، ذكر –رحمه الله- أنهم قصّروا في التوحيد ، فظنّوا أن كمال التوحيد هو توحيد الربوبية ، ولم يصعدوا إلى توحيد الإلهية الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب ، وذلك أن كثيرا من كلامهم أخذوه من كلام المعتزلة ، والمعتزلة مقصّرون في هذا الباب ، فإنهم لم يوفّوا توحيد الربوبية حقّه ، فكيف بتوحيد الإلهية ؟ ومع هذا فأئمة المعتزلة وشيوخهم وأئمة الأشعرية والكرّاميّة ونحوهم خير في تقرير توحيد الربوبية من متفلسفة الأشعرية كالرازي والآمدي وأمثال هؤلاء ، فإن هؤلاء خلطوا ذلك بتوحيد الفلاسفة كابن سينا وأمثاله ، وهو أبعد الكلام عن التحقيق في التوحيد ، وإن كان خيرا من كلام قدمائهم أرسطو وذويه .. .[53]
وذكر –رحمه الله- أن من كان أبعد عن التوحيد وإخلاص الدين لله ومعرفة دين الإسلام هم أكثر تعظيما لمواضع الشرك ، إذ العارفون بسّنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه أولى بالتوحيد وإخلاص الدين لله ، وأهل الجهل بذلك أقرب إلى الشرك والبدع .[54]
ومن تقريراته –رحمه الله في بيان هذا المعنى :" كل من كان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان أقرب ؛ كان أقرب إلى كمال التوحيد والإيمان والعقل والعرفان ، وكل من كان عنهم أبعد كان عن ذلك أبعد ، فمتأخّروا متكلّمة الإثبات الذين خلطوا الكلام بالفلسفة كالرازي والآمدي ونحوهما ، هم دون أبي المعالي الجويني وأمثاله في تقرير التوحيد وإثبات صفات الكمال ، وأبو المعالي وأمثاله دون القاضي أبي بكر بن الطيب وأمثاله في ذلك ، وهؤلاء دون أبي الحسن الأشعري في ذلك ، والأشعري في ذلك دون أبي محمد بن كلّاب ، وابن كلّاب دون السلف والأئمة في ذلك " .[55]
وقد أطال –رحمه الله- النَّفَس في مناقشة مسمّى التوحيد عند المتكلمين في كثير المناسبات ، فعند قولهم :" هو واحد في أفعاله لا شريك له " بيّن –رحمه الله- أن مشركي العرب الذين بُعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يخالفونه في هذا ، بل كانوا يقرّون بأن الله خالق كل شيء ، وقد تقدّم جملة من تقريراته في بيان هذا المعنى .
وأما قولهم :" هو واحد في صفاته لا شبيه له " فقد بيّن أيضا أنه ليس في الأمم من أثبت قديما مماثلا له في ذاته .. بل قد عُلم بالعقل امتناع أن يكون له مِثلٌ في المخلوقات ، يشاركه فيما يجب أو يجوز أو يمتنع ، وعُلم بالعقل أيضا أن كل موجودين قائمين بأنفسهما فلا بدّ بينهما من قدر مشترك ، كاتفاقهما في مسمّى "الوجود" ، و"القيام بالنفس" ونحو ذلك ، وأن نفي ذلك يقتضي التعطيل المحض ، إضافة إلى ما في لفظ التشبيه من إجمال كما سيأتي بيانه في موضعه .
وأما قولهم :" هو واحد في ذاته لا قسيم له " ، فقد نصّ –رحمه الله- على أن هذا لفظ مجمل ، وإلا فإن الله تعالى أحد صمد .. فيمتنع أن يتفرّق ، أو يتجزأ ، أو يكون قد رُكّب من أجزاء ، وبيّن أنهم يدرجون في هذا اللفظ نفي علوّه على عرشه ، ومباينته لخلقه ، ونحو ذلك من المعاني المستلزمة لنفيه وتعطيله .[56]
وبيّن في موضع آخر أن معنى قولهم " واحد في ذاته لا قسيم له " أي : لا يتميّز منه شيء عن شيء ، ولا تقوم به صفة .[57]
أو بعبارة أخرى : أنه لا يرى منه شيء دون شيء ، ولا يدرك منه شيء دون شيء ، ولا يعلم منه شيء دون شيء .. بحيث أنه ليس له في نفسه حقيقة عندهم قائمة بنفسها .[58]
وأما ما يتعلّق بدليل التمانع وهو امتناع صدور العالم عن اثنين ؛ فقد قرّر –رحمه الله- أنه برهان صحيح عقلي .[59]
ومن ذلك قوله :" وهو دليل صحيح في نفسه ، لكن من المتأخرين من لم يفهم وجه تقريره كالآمدي وغيره فزيّفوه " .[60]
وقد ساق ابن تيمية –رحمه الله- دليل التمانع على النحو الآتي :
إذا قُدر ربّان متماثلان ، فإنه يجوز اختلافهما ، فيريد أحدهما أن يفعل ضدّ مراد الآخر ، وحينئذ إما أن يحصل مراد أحدهما ، أو كلاهما ، أو لا يحصل مراد واحد منها ، والأقسام الثلاثة باطلة ، فيلزم انتفاء الملزوم .
أما الأول : فلأنه لو وُجد مرادهما للزم اجتماع الضدّين ، وأن يكون الشيء الواحد حيّاً ميتاً ، ومتحرّكاً ساكناً ، إذا أراد أحدهما أحد الضدين ، وأراد الآخر الضد الآخر ..
وأما الثاني : فلأنه إذا لم يحصل مراد واحد منهما ، لزم عجز كل منهما ، وذلك يناقض الربوبية .
وأيضاً فإذا كان المحلّ لا يخلو عن أحدهما ، لزم ارتفاع القسمين المتقابلين ، كالحركة والسكون .. وإن نفذ مراد أحدهما دون الآخر ، كان النافذ مراده هو الرب القادر ، والآخر عاجزاً ليس برب، فلا يكونان متماثلين .[61]
وبيّن أن كثيرا من أهل النّظر كابن رشد وغيره يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى :" لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا " . فقال –رحمه الله- :" هؤلاء اعتقدوا أن قوله :" لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا " إنما يدل على نفي الشركة في الربوبية ، وهو أنه ليس للعالم خالقان ، ثم صار كل منهم يذكر طريقا في ذلك . فهذا الفيلسوف ابن رشد قرّر هذا التوحيد .. " .[62]
بل نصّ –رحمه الله- على أن متأخريهم لم يهتدوا إلى تقرير متقدّميهم لدليل التوحيد -وهو دليل التمانع- واستشكلوه ، وأولئك ظنّوا أن هذا الدليل هو الدليل المذكور في القرآن في قوله تعالى :" لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا " وليس الأمر كذلك ؛ بل أولئك قصّروا في معرفة ما في القرآن ، وهؤلاء قصّروا في معرفة كلام أولئك المقصّرين ، فلمّا قصّروا في معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عدلوا إلى ما أورثهم الشكّ والحيرة والضلال .[63]
وقال في موضع آخر :" وكثير من أهل النّظر يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى :" :" لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا " ؛ لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرّروه هو توحيد الإلهية الذي بيّنه القرآن ، ودعت إليه الرسل . وليس الأمر كذلك ، بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل ، ونزلت به الكتب ، هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ... " .[64]
ولذلك فقد بيّن –رحمه الله- أن الرّجل لو أقرّ بتوحيد الربوبية الذي يقرّ به هؤلاء النّظّار ، ويفنى فيه كثير من أهل التصوّف ، ويجعلونه غاية السالكين ؛ كما ذكره صاحب "منازل السائرين" وغيره ، وهو مع ذلك لم يعبد الله وحده ، ويبرأ من عبادة ما سواه ؛ كان مشركا من جنس أمثاله من المشركين .[65]
[1] - ينظر : تحفة المريد صـ70 .
[2] - الّلمع في الرد على أهل الزيغ والبدع صـ20-21 .
[3] - الإنصاف صـ33-34 .
[4] - ينظر : أصول الدين صـ75-86 ، التبصير في الدين صـ93 .
[5] - ينظر : الإرشاد صـ52 .
[6] - ينظر : الإرشاد صـ53 ، الشامل صـ173 فما بعدها ..
[7] - ينظر : الاقتصاد في الاعتقاد صـ293-297 .
[8] - ينظر : التفسير الكبير (4/145) ، المطالب العالية (1/132) .
[9] - ينظر : التفسير الكبير (4/145) .
[10] - المصادر السابقة . ينظر : منهج الإمام فخر الدين الرازي بين الأشاعرة والمعتزلة (1/332) .
[11] - أبكار الأفكار (1/525) .
[12] - ينظر : المطالب العالية (2/91) .
[13] - بغية الطالب في شرح عقيدة ابن الحاجب صـ290 .
[14] - ينظر : تحفة المريد صـ70 للبيجوري ، هداية المريد للقاني (ل40أ) بواسطة : عقيدة الأشاعرة دراسة نقدية لمنظومة جوهرة التوحيد صـ126 ، للباحث : حسان الرّديعان .
[15] - ينظر : أصول الدين صـ123 لعبدالقاهر البغدادي ، ومجرّد مقالات الأشعري صـ47 لابن فورك .
[16] - ينظر : المطالب العالية (1/598) ، السداد في الإرشاد إلى الاقتصاد في الاعتقاد صـ293 د. مصطفى عبدالجواد عمران .
[17] - ينظر : شرح الأصول الخمسة صـ277 .
[18] - ينظر : المغني (4/241 فما بعدها ) .
[19] - ينظر : شرح الأصول الخمسة صـ278 .
[20] - غاية المرام صـ152 .
[21] - الشامل صـ346 = باختصار .
[22] - من ذلك أن بعض المتكلمين ذكره بشيء من الإجمال ، كما صنع أبو بكر الباقلاني في قوله :" والتوحيد له هو : الإقرار بأنه ثابت موجود ، وإله معبود ، ليس كمثله شيء " الإنصاف صـ34 . وكذلك أبو المعالي الجويني في قوله عند حديثه عن معاني الواحد :" أنه لا ملجأ ولا ملاذ بسواه " الشامل صـ345 . وفي مناقشتهم : هل يعتبر ذلك عندهم من أنواع التوحيد أو لا ، ينظر : حقيقة التوحيد بين أهل السنة والمتكلمين صـ124-126 د. عبدالرحيم السلمي .
[23] - الفتاوى (4/150-151) .
[24] - درء التعارض (7/122) .
[25] - ينظر : الفتاوى (1/212) .
[26] - ينظر : الفتاوى (3/400) .
[27] - ينظر : الفتاوى (1/368) .
[28] - ينظر : الفتاوى (7/643) .
[29] - ينظر : الفتاوى (18/162) .
[30] - ينظر : الفتاوى (18/165) .
[31] - ينظر : الفتاوى (3/400) .
[32] - ينظر : الفتاوى (2/351) .
[33] - ينظر : الفتاوى (17/352) .
[34] - ينظر : الفتاوى (10/632) .
[35] - ينظر : النبوات (2/1019) .
[36] - ينظر : الفتاوى (1/135-136) .
[37] - ينظر : الفتاوى (14/171) .
[38] - ينظر : الفتاوى (15/106) .
[39] - ينظر : جامع الرسائل (2/111) .
[40] - ينظر : الفتاوى (8/318) .
[41] - ينظر : الفتاوى (11/50) .
[42] - ينظر : الفتاوى (2/277) .
[43] - ينظر : الفتاوى (10/268) .
[44] - ينظر : الفتاوى (14/380) .
[45] - ينظر : الفتاوى (14/380) .
[46] - الفتاوى (4/377) .
[47] - الفتاوى (10/264) .
[48] - ينظر : درء التعارض (9/345) .
[49] - ينظر : درء التعارض (9/377) .
[50] - ينظر : بيان تلبيس الجهمية (1/464 ط. ابن قاسم ) .
[51] - بيان تلبيس الجهمية (1/478 ط. ابن قاسم ) .
[52] - المنهاج (3/289-290) .
[53] - المنهاج (3/295-296) . ينظر بنحوه : شرح الأصبهانية صـ116 فما بعدها .
[54] - ينظر : الفتاوى (17/497) .
[55] - المنهاج (3/293-294) .
[56] - ينظر : الفتاوى (3/97-101 الرسالة التدمرية ) باختصار ، وبتحقيق د. محمد السعوي صـ184-185 .
[57] - ينظر : الفتاوى (6/112) .
[58] - ينظر : التسعينية (3/780) .
[59] - ينظر : درء التعارض (9/354) .
[60] - شرح الأصفهانية صـ121 .
[61] - ينظر : درء التعارض (9/355) .
[62] - درء التعارض (9/348) .
[63] - ينظر : المنهاج (3/304) .
[64] - شرح الأصفهانية صـ123 .
[65] - ينظر : شرح الأصفهانية صـ131-132 .