غزوة الأحزاب (الخندق) في العام الخامس من الهجرة
لما علمت قريش أنها لن تستطيع محاربة المسلمين وحدها، وكذلك أيقنت يهود بذلك، وأن قوتهم لا تُحاكي قوة المسلمين، اتفقوا علىٰ جمع الجموع لمحاربة المسلمين وغزوهم في عقر دارهم في محاولة للقضاء علىٰ الإسلام والمسلمين.
وقيل إن الذي بدأ بذلك وجمع الجموع هم اليهود حيث خرج وفد منهم إلىٰ مكة فيهم سلام بن أبي الحُقيق النضري وحيي بن أخطب النضري، فدعوا قريشًا إلىٰ حرب المسلمين ووعدوهم أن يقاتلوا معهم، ثم خرجوا من مكة إلىٰ نجد حيث حالفوا قبيلة غطفان الكبيرة علىٰ حرب المسلمين، فكان تحالف الأحزاب بجهود من يهود بني النضير([1]).
فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن الفزاري، وبني مُرَّة وقائدها الحارث بن عوف بن أبي حارثة المرِّيُّ، وخرجت أشجع وقائدها مُسْعر بن رُخيلة.
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق علىٰ المدينة، فعمل فيه رسول الله ترغيبًا للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون فيه، فدأب فيه ودأبوا([2]).
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل وهو يقول، تسلية لهم ليُهون عليهم ما هم فيه من شدة وبلاء وجوع: «اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةْ، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَة ْ»، فيقولون مُجِيبِينَ لَهُ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا
|
|
عَلَىٰ الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا([3])
|
ويَقُولُ أيضًا صلى الله عليه وسلم:
اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا
|
|
وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
|
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
|
|
وَثَبِّتْ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
|
إِنَّ الْأُلَىٰ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا
|
|
وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
|
ثُمَّ يرفع صَوْتَهُ ويقول: أبينا أبينا ويمد صوته بِآخِرِهَا([4]).
وأثناء عمل المسلمين في الحفر عَرَضَتْ لَهُمْ صَخْرَةٌ حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَفْرِ، فَقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَخَذَ الْمِعْوَلَ، وَوَضَعَ رِدَاءَهُ نَاحِيَةَ الْخَنْدَقِ، وَقَالَ: «تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»، فَنَدَرَ ثُلُثُ الْحَجَرِ، وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ قَائِمٌ يَنْظُرُ فَبَرَقَ مَعَ ضَرْبَةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بَرْقَةٌ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ، وَقَالَ: «تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»، فَنَدَرَ الثُّلُثُ الْآخَرُ، فَبَرَقَتْ بَرْقَةٌ، فَرَآهَا سَلْمَانُ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ، وَقَالَ: «تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»، فَنَدَرَ الثُّلُثُ الْبَاقِي، وَخَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ رِدَاءَهُ وَجَلَسَ، فقَالَ سَلْمَانُ: يَا رَسُولَ الله رَأَيْتُكَ حِينَ ضَرَبْتَ مَا تَضْرِبُ ضَرْبَةً إِلَّا كَانَتْ مَعَهَا بَرْقَةٌ؟! قَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «يَا سَلْمَانُ رَأَيْتَ ذَلِكَ؟»، فَقَالَ: إِي وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ يَا رَسُولَ الله، قَالَ: «فَإِنِّي حِينَ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الْأُولَىٰ، رُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ كِسْرَىٰ وَمَا حَوْلَهَا، وَمَدَائِنُ كَثِيرَةٌ، حَتَّىٰ رَأَيْتُهَا بِعَيْنَيَّ»، قَالَ لَهُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ الله ادْعُ الله أَنْ يَفْتَحَهَا عَلَيْنَا، وَيُغَنِّمَنَا دِيَارَهُمْ، وَيُخَرِّبَ بِأَيْدِينَا بِلَادَهُمْ، فَدَعَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، «ثُمَّ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الثَّانِيَةَ فَرُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ قَيْصَرَ وَمَا حَوْلَهَا، حَتَّىٰ رَأَيْتُهَا بِعَيْنَيَّ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله ادْعُ الله أَنْ يَفْتَحَهَا عَلَيْنَا، وَيُغَنِّمَنَا دِيَارَهُمْ، وَيُخَرِّبَ بِأَيْدِينَا بِلَادَهُمْ، فَدَعَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، «ثُمَّ ضَرَبْتُ الثَّالِثَةَ، فَرُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ الْحَبَشَةِ، وَمَا حَوْلَهَا مِنْ الْقُرَىٰ، حَتَّىٰ رَأَيْتُهَا بِعَيْنَيَّ»، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: «دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ، وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ»([5]).
ويحكي لنا جابر رضي الله عنه معجزة عجيبة للنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف.
يقول جابر رضي الله عنه: لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَمَصًا شَدِيدًا([6])، فَانْكَفَأْتُ إِلَىٰ امْرَأَتِي فَقُلْتُ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم خَمَصًا شَدِيدًا فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ([7]) فَذَبَحْتُهَا، وَطَحَنَتْ الشَّعِيرَ، فَفَرَغَتْ إِلَىٰ فَرَاغِي([8])، وَقَطَّعْتُهَا فِي بُرْمَتِهَا([9])، ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: لَا تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَبِمَنْ مَعَهُ فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا وَطَحَنَّا صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا، فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ، فَصَاحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِنَّ جَابِرًا سُورًا([10]) فَحَيَّ هَلًا بِهَلّكُمْ([11])»، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ، وَلَا تَخْبِزُنَّ عَجِينَكُمْ حَتَّىٰ أَجِيءَ»، فَجِئْتُ وَجَاءَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْدُمُ النَّاسَ حَتَّىٰ جِئْتُ امْرَأَتِي، فَقَالَتْ: بِكَ وَبِكَ([12])،قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ فَأَخْرَجَتْ لَهُ عَجِينًا فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ ثُمَّ عَمَدَ إِلَىٰ بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعِي، وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ، وَلَا تُنْزِلُوهَا، وَهُمْ أَلْفٌ، فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّىٰ تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا([13]) وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ([14]).
لقد جاءت هذه المعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم في وقتها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة – رضوان الله عليهم- كانوا في أشد الحاجة إلىٰ الطعام حتىٰ يستطيعوا مواصلة العمل في الحفر ثم مواجهة المشركين بعد ذلك، حيث كانوا قد أوشكوا علىٰ الهلاك من شدة الجوع وعدم وجود الطعام.
فقد لبثوا ثلاثة أيام لا يأكلون ولا يذوقون ذواقًا، حتىٰ إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يربط علىٰ بطنه حجرًا من شدة الجوع([15]).
وحتىٰ إنهم من شدة الجوع وعدم وجود شيئًا يأكلوه كانوا يأكلون الطعام المنتن الذي تغيرت رائحته ولونه.
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: كانوا يُؤْتَوْنَ بِمِلْءِ كَفِّي مِنْ الشَّعِيرِ فَيُصْنَعُ لَهُمْ بِإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ([16]) تُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْ الْقَوْمِ وَالْقَوْمُ جِيَاعٌ وَهِيَ بَشِعَةٌ فِي الْحَلْقِ وَلَهَا رِيحٌ مُنْتِنٌ([17]).
وظل النبي صلى الله عليه وسلم يعمل ويحمل التراب علىٰ كتفه الشريف حتىٰ غطىٰ التراب بطنه صلى الله عليه وسلم.
يقول الْبَرَاءُ رضي الله عنه: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحْزَابِ وَخَنْدَقَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم رَأَيْتُهُ يَنْقُلُ مِنْ تُرَابِ الْخَنْدَقِ حَتَّىٰ وَارَىٰ([18]) عَنِّي الْغُبَارُ جِلْدَةَ بَطْنِهِ([19]).
وظل الصحابة رضوان الله عليهم يعملون معه صلى الله عليه وسلم وينقلون التراب علىٰ متونهم([20]) وهم يرتجزون([21]) بما تقدم من أشعار حتىٰ فرغوا من حفر الخندق قبل وصول المشركين([22])، وكان ذلك في غداة باردة([23]).
ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء والأطفال فوضعوا في الحصون.
عَنْ عبد الله بن الزُّبَيْرِ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَعُمَرُ بن أبي سَلَمَةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مَعَ النِّسْوَةِ فِي أُطُمِ([24]) حَسَّانَ فَكَانَ يُطَأْطِئُ لِي مَرَّةً فَأَنْظُرُ، وَأُطَأْطِئُ لَهُ مَرَّةً فَيَنْظُرُ([25]).
ثم ظهرت فلول المشركين، الذين تحزَّبوا لمحاربة الله ورسوله، والصدِّ عن سبيل الله([26]).
فالتفوا حول المدينة وحاصروها من كل مكان فلما رأت يهود بني قريظة ذلك، تيقنوا أن المسلمين – بأي حالٍ- لن يفلتوا من هذه القوة الهائلة وأنهم سيُقضىٰ عليهم لا محالة، ففكَّروا في نقض العهد الذي بينهم وبين المسلمين، ومساعدة الأحزاب للقضاء عليهم.
([1]) أخرج ذلك ابن هشام في سيرته 3/114، 115، عن ابن إسحاق إلىٰ عروة مرسلاً.
([2]) «سيرة ابن هشام» 3/115، بتصرف يسير.
([3]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4099)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، ومسلم (1805)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهي الخندق، واللفظ للبخاري.
([4]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4104)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، ومسلم (1803)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهي الخندق.
([5]) حسن: أخرجه أحمد 4/303، والنسائي (3176)، كتاب: الجهاد، باب: غزوة الترك والحبشة، وحسنه الألباني في «الصحيحة» (772).
ومعنىٰ ندر: أي سقط.
([6]) خمصًا: أي جوعًا.
([7]) أي سمينة.
([8]) أي ففرغت من طحن الشعير حين فرغت من ذبح البهيمة.
([9]) البرمة: القدر التي تُطبخ فيه.
([10]) السُور: كلمة حبشية معناها الضيف.
([11]) أي: هلموا مسرعين.
([12]) أي: تعاتبه علىٰ ما فعل، وأن الطعام لن يكفي هذا العدد.
([13]) أي: ذهبوا.
([14]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4102)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، مسلم (2038)، كتاب: الأشربة، باب: جواز استتباعه إلىٰ دار من يثق برضاه.
([15]) صحيح: أخرجه البخاري (4101)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب.
([16]) الإهالة: الدهن أو الزيت أو السمن ونحو ذلك، وسنخة: أي تغير طعمها ولونها من قدمها.
([17]) صحيح: أخرجه البخاري (4101)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب.
([18]) وارىٰ: أي حجب من كثرته.
([19]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4106)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، ومسلم (1803)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهي الخندق.
([20]) أي: علىٰ أكتافهم.
([21]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4100)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، ومسلم (1805)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهي الخندق.
([22]) وردت أخبار في بعض كتب السير تُفيد بأن سلمان الفارسي هو الذي أشار علىٰ النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، وكلها لا تثبت، إذ لا إسناد لها.
كما وردت أخبار تحدد حجم الخندق الذي حفره المسلمون طولاً وعرضًا وعمقًا، وتحدد مكانه تحديدًا دقيقًا، وجميعها لا يصح.
([23]) متفق عليه: من حديث أنس، انظر التخريج السابق، واللفظة للبخاري (4099).
([24]) الأُطُم: الحصن، وجمعها آطام.
([25]) متفق عليه: أخرجه البخاري (3720)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب الزبير بن العوام، مسلم (2416)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما.
وكان عُمْر عبد الله بن الزبير حينها يقرب من خمس سنوات حيث ولد في العام الأول من الهجرة – كما تقدم.
([26]) ذكر أهل السير أن عددهم بلغ عشرة آلاف مقاتل.
رد: غزوة الأحزاب (الخندق) في العام الخامس من الهجرة
وفعلاً نقض يهود بني قريظة العهد، وأصبحوا علىٰ استعداد لمعاونة الأحزاب علىٰ المسلمين.
ووصل الخبر للنبي صلى الله عليه وسلم وشاع بين صفوف المسلمين، فاشتد الخطب عليهم.
وكانت ديار بني قريظة في العوالي في الجنوب الشرقي للمدينة علىٰ وادي مهزور، فكان موقعهم يمكنهم من إيقاع ضربة بالمسلمين من الخلف([1]).
وفي ذلك يقول الله تعالىٰ:(إذ جاءوكم من فوقكم) أي: الأحزاب، (ومن أسفل منكم) أي: بنو قريظة، (وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر) من شدة الخوف والفزع، (وتظنون بالله الظنونا) [الأحزاب: 10] الظنون السيئة، والخوف من المشركين، وأن الله لن ينصر دينه، (هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا) [الأحزاب: 11] بالخوف والجوع والقلق الذي عاشوه، فكان هذا ابتلاء واختبار للمسلمين، ليتبين الخبيث من الطيب. وحدث ما أراده الله تعالى.
فأما المؤمنون فسُرعان ما تنبهوا وظهر إيمانهم وثقتهم بالله ، وقالوا: (هذا ما وعدنا الله ورسوله) من الابتلاء والامتحان الذي يعقبه النصر، (وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما) [الأحزاب: 22].
وأما المنافقون والذين في قلوبهم مرض، فقالوا:(ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) [الأحزاب: 12].
وقالوا:(يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا)، واستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا:( إن بيوتنا عورة)، ففضحهم الله تعالى وقال:(وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا)، [الأحزاب: 13].
ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام رضي الله عنه إلىٰ بني قريظة ليتأكد من صحة هذا الخبر.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قَالَ: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَحْزَابِ: «مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟»، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟»، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، ثُمَّ قَالَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيُّ، وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ»([2]).
وعَنْ عبد الله بن الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما، قَالَ: كُنْتُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ جُعِلْتُ أَنَا وَعُمَرُ بن أبي سَلَمَةَ فِي النِّسَاءِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا بِالزُّبَيْرِ عَلَىٰ فَرَسِهِ يَخْتَلِفُ إِلَىٰ بني قُرَيْظَةَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَلَمَّا رَجَعْتُ، قُلْتُ: يَا أَبَتِ رَأَيْتُكَ تَخْتَلِفُ، قَالَ: أَوَ هَلْ رَأَيْتَنِي يَا بنيَّ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ يَأْتِ بني قُرَيْظَةَ فَيَأْتِينِي بِخَبَرِهِمْ؟»، فَانْطَلَقْتُ، فَلَمَّا رَجَعْتُ جَمَعَ لِي رَسُولُ الله أَبَوَيْهِ، فَقَالَ: «فِدَاكَ أبي وَأُمِّي»([3]).
فذهب الزبير فوجدهم قد نقضوا العهد.
أما المشركون فقد فُجئوا بالخندق أمامهم، فوقفوا حيارىٰ، لا يستطيعون اقتحامه.
ولكنهم حاولوا اقتحامه، فكانوا كلما حاولوا ذلك أمطرهم المسلمون بوابل من السهام فردوهم.
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَنْدَقِ وَرَجُلٌ يَتَتَرَّسُ جَعَلَ يَقُولُ بِالتُّرْسِ هَكَذَا، فَوَضَعَهُ فَوْقَ أَنْفِهِ، ثُمَّ يَقُولُ([4]): هَكَذَا يُسَفِّلُهُ بَعْدُ([5])، قَالَ: فَأَهْوَيْتُ إِلَىٰ كِنَانَتِي فَأَخْرَجْتُ مِنْهَا سَهْمًا مُدَمًّا([6]) فَوَضَعْتُهُ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، فَلَمَّا قَالَ هَكَذَا يُسَفِّلُ التُّرْسَ، رَمَيْتُ، فَمَا نَسِيتُ وَقْعَ الْقِدْحِ([7]) عَلَىٰ كَذَا وَكَذَا مِنْ التُّرْسِ، قَالَ: وَسَقَطَ، فَقَالَ: بِرِجْلِهِ، فَضَحِكَ نَبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم حَتَّىٰ بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، لِفِعْلِ الرَّجُلِ([8]).
ولم تنقطع هجمات المشركين علىٰ الخندق في محاولات شرسة لاقتحامه، حتىٰ إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يتمكنوا من أداء صلاة العصر في أحد الأيام حتىٰ غربت الشمس، من شدة انشغالهم في صدِّ المشركين عن الخندق.
عَنْ جَابِرِ بن عبد الله رضي الله عنه، أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي الله عنه جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ الله مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّىٰ كَادَتْ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا»، فَقُمْنَا إِلَىٰ بُطْحَانَ فَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ، وَتَوَضَّأْنَا لَهَا، فَصَلَّىٰ الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّىٰ بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ([9]).
فقام النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء علىٰ المشركين.
عَنْ عَلِيّ بن أبي طالب رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحْزَابِ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَلَأَ الله بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا، شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ حَتَّىٰ غَابَتْ الشَّمْسُ»([10]).
ثم استمر النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه علىٰ المشركين والأحزاب.
عن عبد الله بن أبي أَوْفَىٰ رضي الله عنه قال: دَعَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَلَىٰ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اللهمَّ اهْزِمْ الْأَحْزَابَ، اللهمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ»([11]).
فاستجاب الله تعالى دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم عليهم، فأرسل عليهم ريحًا شديدًا فخلعت خيامهم، وأكفأت قدورهم، وأطفأت نيرانهم، وأرسل الملائكة فزلزلتهم وألقت في قلوبهم الرعب والخوف.
وفي ذلك يقول الله تعالىٰ:(يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنود لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا) [الأحزاب: 9].
فلم تتحمل الأحزاب جنود الله تعالى، ولم يستطيعوا مواجهتها، فأسرعوا بالتجهز للرحيل.
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقُرٌّ([12])، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ الله مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟»، فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ الله مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟»، فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ الله مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟»، فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَقَالَ: «قُمْ يَا حُذَيْفَةُ فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ»، فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ، قَالَ: «اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ» ([13])، فَلَمَّا وَلَّيْتُ مِنْ عِنْدِهِ جَعَلْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ([14]) حَتَّىٰ أَتَيْتُهُمْ، فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ([15])، فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: «وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ»، وَلَوْ رَمَيْتُهُ لَأَصَبْتُهُ، فَرَجَعْتُ وَأَنَا أَمْشِي فِي مِثْلِ الْحَمَّامِ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَفَرَغْتُ ،قُرِرْتُ([16])، فَأَلْبَسَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ فَضْلِ عَبَاءَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلِّي فِيهَا، فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حَتَّىٰ أَصْبَحْتُ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ قَالَ: «قُمْ يَا نَوْمَانُ!»([17]) وفي رواية: قال حذيفة: يا رسول الله تفرق الناس عن أبي سفيان، فلم يبق إلا عصبة يوقد النار، وقد صبَّ الله عليهم من البرد مثل الذي صبَّ علينا، ولكنا نرجوا من الله ما لا يرجون([18]).
وبذلك تفرقت جموع الأحزاب وهزمهم الله تعالى وحده:(ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا) [الأحزاب: 25].
وانفك الحصار الذي دام أربعًا وعشرين ليلة([19])، بفضلٍ من الله تعالى.
ولذا كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَحْدَهُ أَعَزَّ جُنْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَغَلَبَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، فَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ»([20]).
وقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لما أَجْلَىٰ الله الْأَحْزَابَ: «الْآنَ نَغْزُوهُمْ، وَلَا يَغْزُونَنَا نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ»([21]).
([1]) «السيرة النبوية الصحيحة» 2/427.
([2]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4113)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، مسلم (2415)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل طلحة والزبير.
([3]) متفق عليه: أخرجه البخاري (3720)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب الزبير بن العوام، مسلم (2416)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما.
([4]) يقول: أي يشير.
([5]) يسفله: أي ينزل به لأسفل ليحمي أسفله، فهو يرفعه تارة فوق أنفه ليحمي أعلاه، وتارة لأسفل ليحمي أسفله.
([6]) السهم المدمىٰ: الذي أصابه الدم فحصل في لونه سواد وحمرة مما رمىٰ به العدو، ويطلق علىٰ ما تكرر به الرمي، والرماة يتبركون به. (نهاية).
([7]) القدح – بكسر القاف وسكون الدال-: عود السهم.
([8]) صحيح: أخرجه أحمد (1620)، وصححه الشيخ أحمد شاكر.
([9]) متفق عليه: أخرجه البخاري (596)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من صلىٰ بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت، مسلم (631)، كتاب: المساجد مواضع الصلاة، باب: الدليل لمن قال الصلاة الوسطىٰ هي صلاة العصر.
ولم تكن صلاة الخوف قد شرعت بعد.
([10]) متفق عليه: أخرجه البخاري (2931)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الدعاء علىٰ المشركين بالهزيمة والزلزلة، مسلم (627)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: التغليظ في تفويت صلاة العصر.
([11]) متفق عليه: أخرجه البخاري (2933)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الدعاء علىٰ المشركين بالهزيمة والزلزلة، مسلم (1742)، كتاب: الجهاد والسير، باب: استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو.
([12]) القُرُّ: البرد.
([13]) لا تذعرهم عليَّ: أي لا تُهيجهم عليَّ.
([14]) أي: في جوٍّ دافئ.
([15]) أي: يدفئه ويدنيه منها.
([16]) أي: شعرتُ بالبرد، أي أنه لما ذهب لقضاء مهمته التي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم من أجلها لم يشعر بالبرد بل شعر بدفءٍ تام، ولم يشعر بالريح الشديدة كبقية القوم، فلما قضىٰ مهمته، عاد إليه البرد الذي يجده الناس.
قال النووي رحمه الله: وهذه من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم.اهـ. «شرح مسلم» 6/327.
([17]) صحيح: أخرجه مسلم (1788)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب.
([18]) البزار «كشف الأستار» 2/335، 336.
([19]) ذكر ذلك ابن سعد في «الطبقات» 2/73 بإسناد رجاله ثقات إلىٰ سعيد بن المسيب مرسلاً، ومراسيله قوية.
([20]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4114)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، مسلم (2724)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: ما يقول عند النوم وأخذ المضجع.
([21]) صحيح: أخرجه البخاري (4110)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب.