الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،، فمع الأدب التاسع من آداب طالب العلم ألا وهو: (حفظ الوقت) ليعلم طالب العلم أن الوقت رأس ماله، وأنه لا يصل إلى ما يرجوه من الحفظ والتحصيل إلا باستغلاله، والحفاظ عليه، وليكن أشحَّ بوقته من البخيل بماله، فما حفظ الحفاظ، ولا فقه الفقهاء، ولا علم العلماء إلَّا بحفظ أوقاتهم.
فهذا المحدث الشهير ((عبيد بن يعيش)) شيخ البخاري ومسلم يقول: أقمتُ ثلاثين سنة ما أكلت بيدي بالليل، وكانت أختي تلقمني وأنا أكتب الحديث.
وهذا الإمام سليم الرازي شيخ الشافعية في زمانه: كان يحاسب نفسه على الأوقات حسابًا شديدًا، حتى لا يدع وقتًا يمر بلا فائدة، قال عنه المؤمل بن الحسن: رأيت سليمًا حض عليه القلم، فإلى أنْ قطه –أي: براه وحسنه- جعل يحرك شفتيه فعلمت أنه يقرأ في أثناء إصلاحه القلم لئلا يمضي عليه زمان وهو فارغ.
وهذا الخطيب البغدادي رحمه الله كان لا يمشي إلا وفي يده جزء يطالعه، حفاظًا على وقته.
وهذا أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي رحمه الله يقول عن نفسه: لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري؛ حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح فلا أنهض، إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عمر الثمانين أشد مما كنتُ أجد وأنا ابن عشرين سنة.
وقَالَ مُوْسَى بنُ إِسْمَاعِيْلَ التَّبُوْذَكِيّ ُ: لَوْ قُلْتُ لَكُم: إِنِّيْ مَا رَأَيتُ حَمَّادَ بنَ سَلَمَةَ ضَاحِكاً، لَصَدَقْتُ، كَانَ مَشْغُوْلاً، إِمَّا أَنْ يُحَدِّثَ، أَوْ يَقْرَأَ، أَوْ يُسبِّحَ، أَوْ يُصَلِّيَ، قَدْ قَسَّمَ النَّهَارَ عَلَى ذَلِكَ.
ومن صور الحفاظ على الوقت، وعدم تضييعه: المبادرة إلى طلب العلوم في الشباب، فإنَّ هذا الوقت من العمر وقت القوة، والهمة، والعزيمة، قال ابن جماعة رحمه الله: يبادر –أي: طالب العلم- شبابه وأوقات عمره إلى التحصيل، ولا يغتر بخدع التسويف والتأمل، فإنَّ كل ساعة تمضي من عمره، لا بدل لها، ولا عوض عنها.
وقال الزرنوجي: فيغتنم أيام الحداثة وعنفوان الشباب، كما قيل:بقدر الكد تُعطى ما تروم
فمن رام المنى ليلًا يقوم
وأيام الحداثة فاغتنمها ألا إنَّ الحداثة لا تروم
ومنها: تنظيم الأوقات في طلب العلوم، وترتيبها مع كل علم، وبما يعود بالنفع الكثير على الطالب؛ قال ابن جماعة رحمه الله: أنْ يقسم أوقات ليله ونهاره، ويغتنم ما بقي من عمره، فإنَّ بقية العمر لا قيمة له.
ومنها: ترك فضول الصحبة، والخروج إلى الطرقات والأسواق؛ فمثل هذه المجالس ضرها أقرب من نفعها؛ ولذا وجب الاحتراز منها، فأقلُّ أضرارها ضياع وقت جالسيها، وعدم حصول المنفعة لهم من وراء جلستهم؛ لكثرة ما يكون فيها من لغو وغلط.
ومنها: ترك فضول النوم، فلا ينال منه إلا ما يحتاج إليه.
قال ابن جماعة: أنْ يقلل نومه ما لم يلحقه ضرر في بدنه وذهنه، ولا يزيد في نومه في اليوم والليلة على ثمان ساعات، وهو ثلث الزمان، فإن احتمل حاله أقل منها فعل.
ومنها: ترك فضول الاهتمام بتحصيل المباحات من أكل وشرب ووطء؛ فإنه منفقة للوقت، سواء في التحصيل أو في تهيئة أسبابها.
فعليك أخي طالب العلم –حفظك الله ورعاك ودلك إلى كل خير- بدوام الحرص على الازدياد بملازمة الجد، والاجتهاد، والمواظبة على وظائف الأوراد من العبادة، والاشتغال والإشغال قراءةً وإقراءً ومطالعةً وفكرًا وتعليقًا وحفظًا وبحثًا.
ولا تُضيع شيئًا من أوقات عمرك في غير ما هو بصدده من العلم والعمل إلا بقدر الضرورة من أكل أو شرب أو نوم أو استراحة لملل أو أداء حق زوجة أو زائر، أو تحصيل قوت، وغيره مما يحتاج إليه، أو لألم أو غيره مما يتعذر معه الاشتغال؛ فإن بقية عمر المؤمن لا قيمة له ومن استوى يوماه فهو مغبون.
وكان بعضهم لا يترك الاشتغال لعروض مرض خفيف، أو ألم لطيف، بل كان يستشفي بالعلم، ويشتغل بقدر الإمكان؛ كما قيل:
إذا مرضنا تداوينا بذكركمُ ونترك الذكرَ أحياناً فننتكسُ
وذلك لأن درجة العلم درجة وراثة الأنبياء، ولا تُنال المعالي إلا بشق الأنفس، وفي ((صحيح مسلم)) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «حِفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحِفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» .
قال المتنبي:
تُريدينَ لُقيانَ المَعالي رَخيصَةً وَلا بُدَّ دونَ الشَهدِ مِن إِبَرِ النَحلِ
وكما قيل:
لا تحسبِ المجدَ تَمْراً أنت آكله لن تبلغَ المجد حَتَّى تَلْعَق الصَّبِرا
واعلم _بارك الله فيك_ أن القليل إذا ضُمَّ بعضه إلى بعض صار كثيرًا، فلا تحقرنَّ من العلم شيئا، وإن كان قليلًا؛ كما قيل:
اليوم شيء وغدًا مثله منْ نُخب العلمِ التي تُلتقط
يحصِّل المرء بها حكمه وإنما السيل اجتماع النقط
وهذا ابن الجوزي رحمه الله يقول: ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدم فيه الأفضل من القول والعمل.
ويقول يحيى بن القاسم: كان ابن سكينة عالمًا عاملًا، لا يضيع شيئًا من وقته، وكنا إذا دخلنا عليه يقول: لا تزيدوا على (سلام عليكم... مسألة)؛ وذلك لكثرة حرصه على المباحثة وتقرير الأحكام.
وقال الربيع: "لم أرَ الشافعي رضي الله عنه آكلًا بنهار ولا نائمًا بليل؛ لاشتغاله بالتصنيف.
وصل اللهم على محمد وآله وصحبه وسلم