رأي ابن عبدالبر في تراجم البخاري
كثر ثناء أهل العلم على تراجم البخاري في صحيحه؛ وما فيها من الفقه والاستنباط الدقيق
حتى اشتُهِرَ على ألسنة بعضهم (فقه البخاري في تراجمه) كما ذكر الحافظ في مقدمة الفتح
وأفرد بعض أهل العلم مصنفات خاصة عن تراجم البخاري في الصحيح
لا أريد الإطالة بهذه المقدمة، وإنما أحببتُ ذكر فائدة وقفت عليها قبل ثمان سنوات تقريباً؛ وهي تعقيبٌ من الإمام أبي عمر ابن عبدالبر على ترجمة للإمام البخاري في صحيحه
وأسوق من كلام أبي عمر ما يتمُّ به المعنى:
عند كلام الإمام ابن عبدالبر على حديث أبي هريرة -الذي رواه الإمام مالك في الموطأ- أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لا يُكْلَمُ أحدٌ في سبيل الله؛ والله أعلمُ بمن يُكْلَمُ في سبيله= إلا جاءَ يومَ القيامة وجُرحه يَثْعَب دماً، اللونُ لونُ دمٍ، والريحُ ريحُ مِسْكٍ"
ثم قال ابن عبدالبر:
(وزعمت طائفةٌ بأنَّ في هذا الحديث دليلاً على أنَّ الماءَ إذا تغيَّرت رائحتُه بشيءٍ من النجاسات ولونه لم يتغيَّر= أنَّ الحكمَ للرائحة دون اللون، فزعموا أنَّ الاعتبارَ باللون في ذلك لامعنى له، لأنَّ دمَ الشهيد يوم القيامة يجيءُ ولونه كلون الدماء، ولكن رائحته فَصَلَت بينه وبين سائر الدماء، وكان الحكمُ لها، فاستدلوا في زعمهم بهذا الحديث على أنَّ الماءَ إذا تغيَّر لونه لم يضرَّه.
وهذا لا يُفهم منه معنىً تسكنُ النفس إليه، ولا في الدم معنى الماء فيقاس عليه، ولا يَشتغل بمثل هذا مَنْ له فَهمٌ، وإنما اغترَّتْ هذه الطائفة بأنَّ البخاريَّ ذكرَ هذا الحديثَ في باب الماء، والذي ذكره البخاري لاوجه له يُعرَف، وليس من شأن أهل العلم اللغز به وإشكاله، وإنما شأنهم إيضاحه وبيانه، وبذلك أُخِذَ الميثاق عليهم (لتبيننَّه للناس ولا تَكتمونه) وفي كتاب البخاري أبوابٌ لو لم تكن فيه كان أصحَّ لمعانيه).
التمهيد (19/15، 16)