في ربوع المغرب الأقصى (ثانياً)

في ربوع المغرب الأقصى

ثانياً: مراكش عاصمة المرابطين

لما رأيت نخيل مراكش تذكرتُ عبد الرحمن الداخل صقر قريش عندما خرج من دمشق، وأقام على شط الفرات فترة، ثم قدم المغرب، وبعدها أقام إمارة في الأندلس، فلما رأى نخلة فريدة في قرطبة قال:

يَا نَخْلُ أَنْتِ غَرِيْبَةٌ مِثْلِي ... فِي الْغَرْبِ نَائِيَةٌ عَنِ الْأَصْلِ

فَابْكِي وَهَلْ تَبْكِي مُكَمَّمَةٌ ... عَجْمَاء لَمْ تُطْبَعْ عَلَى خَتلِ

لَوْ أَنَّهَا تَبْكِي إِذاً لَبَكَتْ ... مَآءَ الْفَراتِ وَمَنْبِتَ النَّخْلِ

وقال - وهو بالأندلس يتشوق مَعَاهِدَهُ بالشَّام - قال أبياتاً أرسل بها إلى أخته في أرض الشام:

أيها الراكب المُيَمِّم أرضي . . . أقْرِ من بعضي السلام لبعضي

إن جسمي كما علمْتَ بأرض . . . وفؤادي كما عملتَ بأرض

قُدِّر البيْنُ بيننا فافترقنا . . . وطوى البينُ عن جفوني غمضي

قد قضى الله بالفراق علينا . . . فعسى باجتماعنا سوف يقضي

وبنى عبد الرحمن الداخل الرُّصافة في الأندلس تشبهًا بجده هشام باني رصافة الشام، فلما رأى فيها نخلة منفردة قال:

تَبَدَّت لَنَا وَسْطَ الرُّصافَةِ نَخْلةٌ ...... تَنَاءت بأرضِ الغَرْبِ عن بَلَدِ النَّخْل

فقُلتُ شَبِيهي في التَغَرُّبِ والنَّوَى ...... وطُولِ التَّنَاءي عن بَنِيّ وعن أهلي

نشَأتِ بأرضٍ أنتِ فيها غَريبةٌ ........ ..فمِثْلُكِ في الإقصاء والمُنْتأى مثلي

سَقَاكِ غَوَادِي المُزْنِ مِن صوبها الذي ... يَسُحُّ ويستمرِي السِّماكَين بالوّبْلِ

السِّماكانِ: نجمان نَيِّرانِ.
الرجل مشرقي الثقافة والهوى كما تلاحظون، يدعو للنخلة بالسُّقْيَا وهي في الأندلس، وأرض الأندلس أرض كثيرة المطر ولا تحتاج لذلك، لكن القوم حملوا معهم _أنَّى حلوا_ إرثهم، وغرسوا في البقاع نخلهم، وجلبوا للنزال خيلهم، ونشروا في أصقاع الأرض محاسن أخلاقهم، فكأنهم جاءوا إلى هذه الدنيا ليكونوا فرساناً فاتحين لا غير، كم فتحوا بلاداً خضراء تجري من تحتها الأنهار، وتغرد على أشجارها الأطيار، وهم مع هذا كله لم ينسوا صحراءهم ولا رمالها، والحُرُّ لا ينسى أصله مهما علا في هذه الدنيا شأنه.
أعود إلى الحديث عن مدينة النخيل مراكش عاصمة دولة المرابطين والموحدين والسعديين، ذات الموقع المميز وسط جنوب المغرب، حيث تظهر من ورائها قمم جبال الأطلس الكبير المغطاة بالثلوج، حتى قالوا عنها: المدينة الجامعة بين حَرٍّ وظل ظليل، وثلج ونخيل. وما أحسن وصف ابن المؤقت لها حين قال: مراكش مدينة عظيمة... فسيحة الأرجاء، صحيحة الهواء، بسيطة الساحة، ومستطيلة المساحة، كثيرة المساجد، عظيمة المشاهد، جمعت بين عذوبة الماء، واعتدال الهواء، وطيب التربة، وحسن الثمرة. وقال أيضاً: مدينة لم تزل من حين أسست دار فقه وعلم وصلاح.
وهي كما قال بل وأحسن، إنها مدينة الرباط والفتح ومدينة العلم والصلاح، ثوى فيها ابن تاشفين، وضمت أرضها القاضي عياض المحدث والفقية والمؤرخ وصاحب الكتب النافعة مثل (إكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم) و(الشفا بتعريف حقوق المصطفى). وسمَّى أهل مراكش الجامعة باسمه، وهذا أمر لافت للنظر في المغرب حيث تجد عدداً من الجامعات تحمل أسماء العلماء، كجامعة ابن زُهْر في أكادير، وجامعة ابن طُفَيل في القنيطرة، وجامعة القاضي عياض في مراكش، ولقد وقفت على أبيات لابن زمرك الأندلسي يمدح القاضي وكتابه الشفاء، فيقول:
ومسرى ركاب للصّبا قد ونت به ... نجائب سحب للتراب نزوعها
تسلُّ سيوف البرق أيدي حداتها ... فتنهل خوفاً من سطاها دموعها
تعرّضن غرباً يبتغين معرّساً ........ فقلت لها: مرّاكشٌ وربوعها
لتسقي أجداثاً بها وضرائحاً ... عياضٌ إلى يوم المعاد ضجيعها
وأجدر من تبكي عليه يراعةٌ ... بصفحة طرس، والمداد نجيعها
فكم من يدٍ في الدين قد سلفت له ... يرضّي رسول الله عنه صنيعها
ولا مثل تعريف الشفاء حقوقه ... فقد بان فيه للعقول جميعها
وهي قصيدة طويلة أوردها المقري في نفح الطيب، وفيها أيضاً قوله في القاضي عياض:
لقد حزت فضلاً يا أبا الفضل شاملاً ... فيجزيك عن نصح البرايا شفيعها
ويثني على كتاب الشفا وشرحه فيقول:
ولله ممّن قد تصدّى لشرحه ... فلبّاه من غرّ المعاني مطيعها
فكم مجملٍ فصّلتَ منه وحكمةٍ ... إذا كتم الإدماج منه تشيعها
محاسن والإحسان يبدو خلالها ... كما افترّ عن زهر البطاح ربيعها
إذا ما أجلت العين فيها تخالها ... نجوماً بآفاق الطروس طلوعها
رياضٌ سقاها الفكر صوب ذكائه ... فأخصب للورّاد منها مريعها
إذا ما أصول المرء طابت أرومة ... فلا عجب أن أشبهتها فروعها
بقيت لأعلام الزمان تنيلها ... هدىً ولأحداث الخطوب تروعها
وعلى أطراف مراكش في أغمات دفن المعتمد بن عباد صاحب أشبيلية، وهو الفارس والشاعر وأحد ملوك الأندلس الذي ضم بلاطه خيرة الأدباء والشعراء كابن زيدون وابن حمديس الصقلي وغيرهم، فجمعت مراكش رموز الرباط والعلم والأدب، وما دام الحديث عن الأدب، فقد ذكر لي الشيخ إبراهيم _ونحن على أبواب مراكش_ بيتاً من شواهد سيبويه في الكتاب، وهو قول ذي الرمة:
مَشَيْنَ كَمَا اهتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ أَعَالِيَهَ مَرُّ الرِّياحِ النَّواسِمِ
فقال الشيخ: ما وجه الشبه بينهما؟ فقلت: الطول والرشاقة. فقال: وأيضاً لأنها جارحة.
وأهل المغرب والأندلس لهم ولع بالعربية وبكتاب سيبويه خاصة، حتى إن بعض علمائهم أخذ يدرّس كتاب سيبويه في البلاد انطلق من الأندلس حتى وصل إلى البصرة حيث نشأ سيبويه وتعلَّم.
وبعد كل الذي لقيناه في مراكش من الحفاوة والإكرام كان لابد من مغادرتها والتوجه إلى عاصمة بلاد السوس أكادير.