البنية الثقافية والارتقاء العقلي

الناظر في هذا الكون وما أودعه الباري – جل شأنه – من أجناس المخلوقات ليرى عجبا في تمايزها وظهور الاختصاص في كل جنس منها ، وهذا الاختصاص هو من بديع حكمة الله سبحانه إذ اختص كل جنس بما يناسب أصل طبيعته التي خلقها الله فيها ، فترى جنس الملائكة وما امتازوا به من انقطاع مطلق لعبادة الله سبحانه وتعالى فهم ( يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) ، وترى جنس الحيوانات – غير الناطقة – وما امتازوا به من استغراق الملاذ الحيوانية في هذه الحياة وذلك يناسب خلق الله لهم إذ لا تكليف في الدنيا ولا حساب في الآخرة ، وأنت ترى أن الجنس البشري قد أنعم الله – عز وجل – عليه بنعمة جعلها مناط تشريفه وتكليفه ، وهي ما غرزه الله فيهم من عقل يميزون به الخير من الشر ويفهمون به دلالات الخطاب ويتلقون به أجناسا من العلوم سواء كانت وسيلة وصول هذا العلم هي السمع أو البصر لكن تبقى وضيفة العقل هي التمحيص والتدقيق للمعلومة كي تتم الفائدة ويحصل المراد ، وإذا تأملت أول حادثة وقعت في تاريخ البشرية وكيف كان سجود جنس من أشرف المخلوقات لأبي البشر آدم عليه السلام وما كان من موجب هذا السجود وهو اختصاصه بقدر من العلم امتاز به عن غيره من المخلوقات رأيت في ذلك دلالة على عظم هذا الاختصاص وشرفه ، ولذا كان شرف العلم وسمو أهله هو مما اتفق عليه عقلاء بني آدم .

وهذه النعمة الغريزية في الإنسان أتى القانون البشري العام بما يوجب بنائها وتنميتها بل وحفظها وصيانتها عما يخل بها ويضعفها ، وهذا القانون هو ما أودعه المولى جل شأنه في الفطر من شرف العلم وسمو أهله الذين أبدعوا في البناء العقلي، وهذا ظاهر في النتيجة من تحصيل العلم والمعرفة من جودة المنطق وسلامة التفكير وقوة الحجة وحكمة التصرف ، وهذه النتيجة لا تكاد تتأخر عن مقدمتها غالبا إلا من أخطأ درك مفهوم العلم النافع أومن اتخذه غرضا دنيويا بحتا قاصدا به العلو في الأرض بغير حق وتحصيل المصالح الذاتية البحتة .

المفهوم العلمي والثقافي المطلوب تحصيله في بناء الذات ظاهر ومحكم في شريعتنا الربانية الخاتمة ، وهو جزء أساس في صياغة العقل الإسلامي وبنائه ، وهو ما كان يعبر عنه أسلافنا بقولهم ( ما لا يسع المسلم جهله ) من معرفة أصول توحيد الرب – جل جلاله – وما يستحقه من إثبات الكمال المطلق ونفي لمطلق النقص ويتحقق مناطه بإثبات وحدانيته سبحانه ونفي الشريك والند ، وإثبات لما ورد من الأسماء والصفات على وجه الكمال والإيمان بسائر ما يتضمنه الإيمان بالله –سبحانه- ، ومعرفة أصول الشرائع العملية التي هي من أصول الإسلام وأعمدته كأصول أحكام الصلاة والزكاة والصيام ونحوها .

من هذه القاعدة المعرفية المطلوب تحصيلها في بناء الذات ينطلق المسلم في تحصيل العلوم والمعارف التي تنتج وعيا عقليا وثروة معرفية ونتاجا عمليا يكون لبنة في نهضة هذه الأمة وعاملا من عوامل رقيها ، فالوعي العقلي بالعلم والثقافة هو منطلق لإدراك مواطن ضعف هذه الأمة سواء كان العامل اجتماعيا أو سياسيا أو ثقافيا ومن ثم ينتج عن هذا صياغة الحلول الواقعية التي تخلص هذه الأمة من واقعها المرير .

إن المتأمل لأول آيات هذا الكتاب الحكيم نزولا على نبي أمي وأمة أمية وهي قول الله تبارك وتعالى ( إقرأ ) وكون معجزة نبيها كتاباً يُقرأ وما تواتر في نصوص الشريعة من مدح للعلم وثناء على أهله ودعوة للحراك العقلي المعرفي يتحصل لديه نتيجة قطعية لا تنخرم مفادها أن شكر هذه النعمة الإلهية يتحصل ببناء العقل والسعي به إلى الارتقاء بالعلم والمعرفة المثمرة والرقي في مدارج الوعي كي يتحصل من ذلك واقع عملي مثمر بإذن الله ، ولذا كان علماء هذه الأمة هم أمناؤها وورثة الأنبياء .

إن ما تعيشه أمتنا اليوم من انحطاط حضاري جعلها في مؤخرة الركب ، وما تعايشه كذلك من حرب فكرية عشواء تعصف بمنطلقات هذه الأمة وبمحكماتها وتثير جدلا في مسلمات عقدية ومنهجية هي محل امتياز هذه الأمة عن غيرها من الأمم داعية إلى الانسياق خلف فلسفة الحضارة الغربية البائسة ؛ لا تتم مواجهة ذلك إلا ببناء معرفي شامل لأفراد هذه الأمة ويكون منطلق هذا البناء ما امتازت به هذه الأمة من موروث العلم الإلهي الذي هو وقود النهضة والرقي في درجات الحضارة وكذلك مواجهة من يريد تخلف هذه الأمة بالانسياق التام خلف كل ما أتى من الغرب بالعلم والمعرفة والبرهان العقلي الذي قد تضمنته نصوص الشريعة والعقول الصريحة منطلقا من قول الرب – جل جلاله – ( وجاهدهم به جهادا كبيرا )