ألم الإصابة في ساقي اليمنى يكاد يطيش بعقلي ! قالها مازن ذو التسعة عشر عاماً ، والذي يعيش
في شبه جزيرة العرب دون أن يُأثر مناخها القاسي على قسمات وجهه ولونه الصافي ، إما
لرسوخ العوامل البيولوجية فيه ، وإما لخامة زرعه اللينة وصغر سنه فلم تَعمد بعدُ إلى
خدشه . لكنها بالتأكيد أثرت وشتت جوهره الداخلي ( ثقافته ) وإلا ماهو السبب لخوضه مباراة الأمس ؟
هل هناك سبب آخر غير أنه يسعى لإنتشال روحه من حُجرة التفكير والتأمل المقلق بأمور معقدة
تُحيط به ؟ ولكن لسوء الحظ وحسنه معاً أن كانت ثمرة مباراته التي خاضها إصابة بليغة قَصَرَت
تفكيره بها وكيفية التخفف من مغبتها .


مرت أسابيع قبل أن يندمل جرحه ؛ زاد فيها عكوفه على مجلدات مكتبته وملفات الـ pdf
على كمبيوتره الشخصي بدءاً بعلم النفس الإجتماعي مروراً بكتب التاريخ والتراجم وكتب المنطق والفلسفة والرسائل الجامعية والأبحاث المنشورة المتنوعة والمختلفة . ذلك أن مازن تلح عليه فكرة أو بالأحرى ضرورة تجديد كثيراً من الذوات الإنسانية في المجتمعات ومجتمعه بالأخص ، ولو استلزم ذلك نقض البنية التحتية والقواعد الأساسية ( الثقافية ) التي تحتوي عقولهم والتي تحتويها أجسادهم !


" لولا العلماء لكان الناس كالبهائم " سفيان الثوري .


مع أول ( ترم ) دراسي له في الجامعة في تخصص اللغة الإنجليزية _ آداب ، لاحظ أنه في الأيام الأخيرة قبيل إنقضائه وعلاقة الزملاء في ذات القاعة لا تزداد إلا غموضاً وتحفظاً .


" تناقض عجيب ! التخصص آداب وعلاقة الطلاب فيما بينهم مُوصدة الأبواب " كتبها مازن في تغريدة تويترية ؛ مع العلم بأن عالمه التويتري خالي تماماً من المتابعات ( الزمائلية ) و ( الدكاترية ) فكانت تلك التغريدة خارج السرب طبعاً .


اليوم مباراة يا مازن ! بودي أن تلعب مع فريقي . قالها خالد
لا يلدغ المؤمن من الجحر مرتين ؛ فما زالت آثار إصابتي السابقة حيةً تنبض . قالها مازن
ثم تمتم بكلمات بعد أن ولى صديقه إلى الملعب مدبراً : وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم !
إيهٍ يا خالد ، الفرق بين الألم المحسوس والمعنوي كالفرق بين شبه جزيرتك وبين ديار زرق العيون . لا نرى أن مازن وفّق في هذه المقارنة الغريبة ! ولعل ذلك جائز ومُستساغ في فكره الطافح نقداً وحكمةً وذكاءً وقاداً وبديهةٍ حاضرة ، ولا مُشاحة في المقارانات دام أن في بعضها تعريضاً بالغرب المُستبد الذي تقاسمنا ورث بُغضه من أسلافنا ؛ في الوقت الذي جعلتنا الظروف نخضع لأسياده وثقافته بلا أدنى نقد وتمحيص وذلك لأننا قدسنا ثقافتنا ( الهامشية ) والتي سيضرب الموقف الذي حصل مع مازن مثالاً لها .


" كان للأعمش كلب و كان إذا جاءه طلابه ليأخذوا عنه الحديث أرسل فيهم الكلب فيفروا , حتي إذا كان يوم جاء الطلاب كعادتهم فلم يجدوا الكلب فلما أتو شيخهم وجدوه يبكي فحين سألوه في ذلك أجابهم أن الذي كان يأمر بالمعروف قد مات " سير أعلام النبلاء .





لماذا جلست الليلة مع الأطفال وتحدثت معهم طويلاً و( الديوانية ) مكتظة ( بالرجال ) و ( كبار السن ) ؟ ربما سيرونك مع هؤلاء الصبية فماذا سيقولون عنك ؟ ( عيب ) والله مافعلته يامازن ؟ قالها محمد أخو مازن الأكبر منه سناً وعقلاً . ويرى مازن أن لومه غير المبرر إنما هو كبوة من الكبوات التي طالما استشرفت العظماء !


يبدوا أنني لن أمتلك بيتاً إلا في الأحلام أو بعد عشرين سنة ! قالها سامي ، فشاركه مازن همه ظاهرياً ، وبدأت التعليقات تتهافت من كل جهة من المجلس ، وكلهم يبكي على ليلاه .


هنا دار في خُلدِ مازن ما جسدته الأسطر التالية :


لماذا يُشغل سامي نفسه بهذا الموضوع وهو في السنة الثانية من المرحلة الثانوية ولمّا ينتهي من المرحلة الثانوية بعد فضلاً عن غيرها ؟


لماذا تصبح فترة الإختبارات عنده وكأنها ( اللامبالاة ) بكل ماتحتويه الكلمة من معنى مترجمة من خلال سلوكه فيها ؟


لماذا يستعذب مجتمعنا الحديث حول الأزمات والمواضيع المزعجة والتي لا ناقة لبعضهم فيها ولا جمل ؟


" كان الزهري يحدث ثم يقول : هاتوا من أشعاركم وأحاديثكم فإن الأذن مجاجة وإن للنفس حمضة " أحاديث الزهري .


انتهى الجزء الأول : ثقافات من البادية