[ من مقاصد القرآن في عشر ذي الحجة ]
الحمد لله الذي أعجز وصفه ألسنة الواصفين ، الذي أوحى إلى خليله إبراهيم أن طهر بيتي للطائفين والعاكفين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلقه أجمعين ، نبينا ورسولنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله الطاهرين ، وصحابته الطيبين إلى يوم الدين .
أما بعـــــــــــد :
يقول جل في علاه : ( والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر ) .
مقاصدها في التفسيرالتحليلي :
( الفجر ) : هو انفجار الصبح عن النهار الماضي بالأمس ، من غير فرق في شيء من الذات ، وانبعاث النيام من الموت الأصغر ــ وهو النوم ــ بالإنتشار في ضياء النهار ، لطلب المعايش .
أقسم الله عز وجل بـ( الفجر) وهو فجر يوم النحر الذي هو أول الأيام الآخذة في إياب ( الحجاج ) بالتوجه والدخول إلى حرم الله أيبة من عرفات الله ، ومن مزدلفة ، للدخول إلى حرمه ، لتكمل آخر أركان الحج وتتحلل من الإحرام ومن محارم الله .
والفجر في غايته : هو ساعة الفصل فيما بين الليل المدبر ، والنهار المقبل ، وهو الذي به يسفر الصبح ويتوهج النهار ، وفيه يستيقض الناس من رقادهم ، وهو الموت الأصغر لقيامهم إلى قضاء حاجاتهم وطلب معايش الحياة ، قال تعالى : ( وهو الذي يتوفاكم بالليل ) أي يقبض أرواحكم إذا نمتم ( ويعلم ما جرحتم بالنهار ) أي ماذا كسبتم ، ( ثم يوقظكم فيه ) .
وقد سمي ( النوم ) بالموت الأصغر لما فيه من مشابهة للموت الأكبر ، ومشابهة لقيام الناس في الفجر للكسب ، بقيام الموتى من قبورهم للمجازاة في الحساب والعقاب .
من فضــائلهـــا :
( وليال عشر ) : هي عشر شهر ذي الحجة في أصح قولي العلماء ، أقسم الله بها لما فيها من العظمة والإجلال .
ولأنها مجمع للأعمال الصالحات ، وفيها أجتمعت ثلاثة من أركان الإسلام الخمسة ، لا تجتمع إلاّ فيها ، وهي :
الصــلاة ، الصيـــام ، والحــــج .
والصــــــــــد قة .
1ـ قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : ( وليال عشر) المراد بها عشر ذي الحجة ، كما قاله ابن الزبير ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والبخاري ، وابن كثير ، وغيرهم .
2ـ وهي المقصودة بقوله تعالى : ( ويذكروا اسم الله في أيام معلومات ) ، قال ابن جرير ، وابن كثير في تفسيريهما : قال ابن عباس : هي : أيام العشر .
3ـ وعن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم : (( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر )) قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ ، قال : (( ولا الجهاد في سبيل الله إلاّ رجل خرج بنفسه ، وماله فلم يرجع من ذلك بشيء )) .
4ـ وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم : (( ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ، ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر ، فأكثروا فيهن من التهليل ، والتكبير ، والتحميد )) .
( والشفع والوتر ) : الشفع : يوما الحادي عشر ، والثاني عشر ـ أي لمن تعجل في يومين ، والوتر : يوم عرفة ، وذلك لما أخرجه الإمام أحمد في مسنده ، والبزار في سننه ، عن عياش بن عقبة ، وهو ثقة ، عن جابر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صل الله عليه وسلم أنه قال : (( العشر : عشر الأضحى ، والشفع يوم الأضحى ، والوتر يوم عرفة )) ورجاله هذا الحديث رجال الصحيح ، وهذا أصح ما يمكن القول فيها ، والله أعلم .
مقاصدها في علم المناسبات :
لما كان آخر سورة الغاشية يتحدث عن الآياب ، والحساب وختمت السورة بذلك ، حسن الحديث في مبتدأ سورة الفجر : عن الفجر وعن الليل ، والنهار ، وتجديد كل منهما بعد اعدامه ، للدلالة على قدرة الله على البعث والحساب والعقاب .
ولما كان الحاج يتجرد في أيام حجه عن المخيط ، وعن ملذات الحياة ، وجعله للتلبية ، والذكر ، والسير في اماكن الحج ، وهي المشاعر المقدسة ، بما فيها من زحام ، ومساواة بين الكبير ، والصغير ، والفقير ، والغني ، كلهم لبسوا الإحرام الإبيض طاعة وعظمة وإجلالا لله وحده ، مخبتين له سبحان ، كلهم يرجون رحمته ويخشون عذابه ، كان في ذلك مشابهة بالكفن الإبيض الذي يتساوى فيه الناس أيضا على مختلف طبقاتهم ، وألوانهم ، ودرجاتهم ، كلهم قد وقفوا في صعيد عرفة على السواء ، وفي مزدلفة على السواء ، وفي منى كلهم على السواء .
ولما كان وقوف الحجاج في المشاعر المقدسة ، ومزاحمتهم فيها ، فيه مشابهة ( مصغرة ) من تزاحم الناس ، ووقوفهم بين يدي الله في عرصات يوم القيامة ، كلهم على حد سواء ، فأن هذه المواقف تشعر الغني ، والفقير ، والحاكم ، والمحكوم ، والصغير ، والكبير بشدة الزحام ، والضنك ، والبعد عن ملذات الحياة والترف في المسكن ، والمركب ، والملبس ، والزاد ، والتفكر في ذلك اليوم العصيب ، يوم الطامة ، ويوم الزلزلة ، ويوم الصاخة ، يوم القيامة .
فسبحان الله الملك الأعظم الذي لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار ، تقدست أسماؤه ، وجل ثناؤه ، عليه توكلنا وإليه المصير .
كتبه محبكم : د / عمر العمروي .