نص الحديث: عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلاً كَانَ يُتَّهَمُ بِأُمِّ وَلَدِ رَسُولِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِعَلِىٍّ: (اذْهَبْ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ)، فَأَتَاهُ عَلِىٌّ فَإِذَا هُوَ في رَكِىٍّ([1]) يَتَبَرَّدُ فِيهَا فَقَالَ لَهُ عَلِىٌّ: اخْرُجْ، فَنَاوَلَهُ يَدَهُ، فَأَخْرَجَهُ، فَإِذَا هُوَ مَجْبُوبٌ لَيْسَ لَهُ ذَكَرٌ، فَكَفَّ عَلِىٌّ عَنْهُ ثُمَّ أَتَى النَّبِي فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ لَمَجْبُوبٌ مَا لَهُ ذَكَرٌ) .
تخريج الحديث.
هذا الحديث روى من حديث أنس بن مالك وأخرجه: مسلم([2])، وأحمد([3])، والحاكم([4])، وابن بشكوال([5]).
وروي من حديث عَلِيٍّ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: كَثُرَ على مَارِيَةَ أُمِ إِبْرَاهِيمَ في قبطي ابن عم لها كان يزورها، ويختلف إليها، فقال لي رَسُولُ اللَّه :(خُذ هَـذَا السَّيْفَ، فَانْطَلِقْ، فَإِنْ وَجَدْتَهُ عِندَهَا، فَاقْتُلْهُ)، قال: قلت: يا رَسُولَ اللَّهِ أكون في أمرك إِذَا أرسلْتَنِي أَكُونُ كَالسِّكَّةِ الْمُحْمَاةِ لا يثنيني شيء حتى أمضي لما أمرتني به أَمِ الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ، قَالَ: (الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ)، فأقبلت متوشح السيف، فوجدته عندها، فاخترطت السيف، فلما رآني أقبلت نحوه تخوف أنني أريده، فأتى نخلة فرقى فيها، ثم رمى بنفسه على قفاه، ثم شغر برجله، فإذا به أجب أمسح ما له قليل ولا كثير، فغمدت السيف، ثم أتيت رسول الله ، وأخبرته، فقال: (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي يَصْرِفُ عَنا أَهْلَ الْبَيْتِ)، قال البزار: "وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي من وجه متصل عنه إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد.
أخرجه: البزار([6])، وأبو نعيم([7])، والضياء المقدسى([8])، وابن عساكر([9])، وابن بشكوال([10])، وأخرجه: الإمام أحمد([11])، والبخارى في التاريخ الكبير([12])، مختصراً.
الحكم على الرواية:
"قال ابن القيم عن سند حديث مسلم: ليس في إسناده من يتعلق عليه"([13]).
فمع أن الحديث في صحيح مسلم، فقد بحث ابن القيم في إسناده، فوجد رجال الإسناد ثقات ليس بينهم راو ضعيف.
الشبهات حول الحديث:
قالوا: يستحيل أن يحكم على رجل بالقتل في تهمة لم تحقق، ولم يواجه بها المتهم، ولم يسمع له دفاع عنها، بل كشفت الأيام عن كذبها... ومتى أمر رسول الله بقتل المنافقين؟ ما وقع ذلك منه ! بل لقد نهى عنه([14]).
الرد على الشبهات:
قال الإمام ابن القيم: "وقد أشكل هذا القضاء على كثير من الناس فطعن بعضهم في الحديث، ولكن ليس في إسناده من يتعلق عليه، وتأوله بعضهم على أنه لم يرد حقيقة القتل، إنما أراد تخويفه ليزدجر عن مجيئه إليها، قال: وهذا كما قال سليمان للمرأتين اللتين اختصمتا إليه في الولد علي بالسكين، حتى أشق الولد بينهما، ولم يرد أن يفعل ذلك بل قصد استعلام الأمر من هذا القول"([15]).
قال الإمام النووى: "كان منافقاً ومستحقا للقتل بطريق آخر، وجعل هذا محركا لقتله بنفاقه وغيره لا بالزنى وكف عنه على رضى الله عنه اعتمادا على أن القتل بالزنى وقد علم انتفاء الزنى والله أعلم"([16]).
قلت: "هذا القول يرده ما جاء في رواية علي عند البزار من أنه كان قبطياً ابن عم لها، إلا إن حملنا هذا القول على أصله قبل أن يسلم، فيكون المعنى: كان قبطياً قبل أن يسلم لكنه نافق بعد إسلامه والله أعلم".
وقال أبو محمد ابن حزم: "هذا خبر صحيح، وفيه من آذى النبي وجب قتله، وإن كان لو فعل ذلك برجل من المسلمين لم يجب بذلك قتله، فإن قال قائل: كيف يأمر رسول الله بقتله دون أن يتحقق عنده ذلك الأمر لا بوحي، ولا بعلم صحيح، ولا ببينة، ولا بإقرار؟ وكيف يأمر عليه السلام بقتله في قصة بظن قد ظهر كذبه بعد ذلك وبطلانه؟ وكيف يأمر -عليه السلام بقتل امرئ قد أظهر الله تعالى براءته بعد ذلك بيقين لا شك فيه؟ وكيف يأمر عليه السلام بقتله، ولا يأمر بقتلها، والأمر بينه وبينها مشترك؟؛ قال أبو محمد - رحمه الله -: وهذه سؤالات لا يسألها إلا كافر أو إنسان جاهل يريد معرفة المخرج من كل هذه الاعتراضات المذكورة؛ قال أبو محمد: الوجه في هذه السؤالات بين واضح لا خفاء به والحمد لله رب العالمين، ومعاذ الله أن يأمر رسول الله ، بقتل أحد بظن بغير إقرار أو بينة أو علم مشاهدة أو وحي أو أن يأمر بقتله دونها، لكن رسول الله قد علم يقينا أنه بريء، وأن القول كذب، فأراد عليه السلام أن يوقف على ذلك مشاهدة، فأمر بقتله لو فعل ذلك الذي قيل عنه، فكان هذا حكما صحيحا فيمن آذى رسول الله ، وقد علم عليه السلام أن القتل لا ينفذ عليه لما يظهر الله تعالى من براءته، وكان عليه السلام في ذلك كما أخبر به عن أخيه سليمان عليه السلام، ثم ساق حديثاً عن أبى هُرَيْرَةَ - رَضِي اللَّه عَنْه - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: {مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ}، فذكر كلاما، وفيه أنه عليه السلام، قال: {كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ صَاحِبَتُهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، وَقَالَتِ الْأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى} قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: {وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ إِلَّا يَوْمَئِذٍ وَمَا كُنَّا نَقُولُ إِلَّا الْمُدْيَةُ}([17]).
قال أبو محمد: "فبيقين ندري أن سليمان عليه السلام لم يرد قط شق الصبي بينهما، وإنما أراد امتحانهما بذلك وهو لا يريد فعل هذا بلا شك، وكان حكم داود عليه السلام للكبرى على ظاهر الأمر، لأنه كان في يدها، وكذلك رسول الله ما أراد قط إنفاذ قتل ذلك المجبوب، لكن أراد امتحان علي في إنفاذ أمره، وأراد إظهار براءة المتهم، وكذب التهمة عيانا، وهكذا لم يرد الله تعالى إنفاذ ذبح إسماعيل بن إبراهيم r إذ أمر أباه بذبحه لكن أراد الله تعالى إظهار تنفيذه لأمره، فهذا وجه الأخبار، والحمد لله رب العالمين([18]).
وقال القاضي: "فيه نظر لأنه إنما يصح هذا لو ثبت تقدم قوله: {لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ} على هذا الحديث، فأما إذا لم يثبت، واحتمل أن يكون بعده يكون قوله: {لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ} ناسخاً له حينئذ، ويجب أن لا يستباح دمه إلا بإجماع الذي تقوم به الحجة كما قامت في الشاهر سيفه ليقتل أو يأخذ مالا على سبيل الحرابة".
قال أبو المحاسن الحنفي: "ولولا ثبت عنده التقدم لما قال بحله، فإنه أعلى كعبا من أن يقول ما لم يحط به علما سيما في حل الدم فأفهم والله أعلم"([19]).
قلت: ويمكن أن يضاف إلى ذلك: "أن النبي أراد أن يبين عن طريق التشريع أن جزاء من يريد أذى رسول الله في حرمه هو القتل، وهو يعلم تماماً أن الله – عز وجل – سيمهد لبراءته عن طريق كشف سوأته أمام علي، فيمتنع علي عن قتله، ويعصم الله دمه.. والله أعلم.
من خلال هذه الأقوال يتضح لنا الآتي :
أولاً: أن الحديث صحيح السند والمتن معاً، ولا مطعن فيه، ولا مغمز.
ثانياً: أن هذا الحديث من معجزات النبي ، لأنه علم بطريق الوحي ما بالرجل من علة، فأرد أن يقطع قالة السوء عنه فأمر بقتله لكي يظهر براءة أهل بيته، ويظهر أيضاً براءة الرجل مما نسب إليه والله أعلم.
ثالثاً: لا ينبغي أن نرد حديثاً لمجرد عدم تسويغه لدى بعض الأفهام، فقد نقلت أقوال العلماء، في ذلك والتي تبين المعنى الصحيح لفهم الحديث، ومن لم يرق في ذهنه قول محدث أو فقيه أو عالم يمكن أن يلجأ إلى قول آخر في تفسير الحديث، وإعمال النص أولى من رده وإبطاله([20]).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ
([1]) ركي: وهو بفتح الراء وكسر الكاف وتشديد الياء بعدها البئر المطوية . [فتح الباري 10/77- مشارق الأنوار 1/290].
([2]) في - كتاب التوبة - باب براءة حرم النبي ()من الريبة - 4/2139 برقم (2771).
([3]) في مسنده 3/281 برقم (14021).
([4]) في المستدرك على الصحيحين – كتاب معرفة الصحابة – ذكر سرارى رسو الله(r)4/42 برقم (6824)، وقال : صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي .
([5]) في غوامض الأسماء المبهمة في - ذكر مأبور مولى النبي () 1/497.
([6]) في مسنده 2/237 برقم (634)، وقال الهيثمى : رواه البراز، وفيه ابن إسحاق، وهو مدلس، ولكنه ثقة، وبقية رجاله ثقات، وقد أخرجه الضياء في أحاديثه المختارة على الصحيح . [مجمع الزوائد 4/329].
([7]) في حلية الأولياء 3/177.
([8]) في الأحاديث المختارة 2/353 برقم (735)، وقال : إسناده حسن .
([9]) في تاريخ مدينة دمشق 3/236 .
([10]) في غوامض الأسماء المبهمة 1/498.
([11]) في مسند 1/83 برقم (628) مختصراً .
([12]) في التاريخ الكبير 1/177 ترجمة (538)مختصراً .
([13]) زاد المعاد 5 /16 .
([14]) السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث صـ38، 39 .
([15]) زاد المعاد 5 /16 .
([16]) شرح النووي على صحيح مسلم 17/119 .
([17]) أخرجه : البخاري في كتاب الأنبياء – باب قول الله تعالى : "ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب"- 3/1260 برقم (3244)، ومسلم في - كتاب الأقضية - باب بيان اختلاف المجتهدين - 3/1344 برقم (1720)، والنسائى في - كتاب آداب القضاء - باب حكم الحاكم بعلمه- 8/234برقم (5402)، وفي السنن الكبرى – كتاب القضاء – باب التوسعة للحاكم في أن يقول للشيء الذي لا يفعله أفعل ليستبين له الحق - 3/472 برقم (5958)، و الإمام أحمد بن حنبل في مسنده 2/322 برقم (8263)، وعبد الرزاق في مصنفه – كتاب الطلاق - باب المرأتين تدعيان - 7/361 برقم (13481)، وأبو عوانة في مسنده 4/174برقم (6417).
([18]) المحلى 11/413 :415.
([19]) معتصر المختصر 2/151 :152 .
([20]) انظر: السنة النبوية عرض ونقد ج1/ ص 471.