لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ؛ فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ، يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ.. إِلاَّ الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ
))
.
(محمد نبي العالمين، صلى الله عليه وسلم)



نعم..
أعلم أني قد خنتُ أبناءَ جنسي..
أعلم أني قد أصبحت منبوذة مبعدة مفردة كناقة جرباء..
أعلم أني لما أنظر حولي لا أجدُ إلا نظراتِ الحقد والكراهية والبغض.. وأحيانًا أجدُ نظراتِ الشفقة الزجاجية الباردة..
وأحيانًا أقلّ أجدُ في غيوم النظرات شيئًا دفينًا كالرثاء أو الحنان سرعان ما يزول كسحاب خجل من بهاء الشمس..

أعلم كل ذلك، ولكني لا أستطيع فَكاكًا مما أنا فيه.. كما فعل الشيطان الرجيم حين تورط في مستنقع مخالفة الرب..
كيهوذا صاحب العينين الخاطئتين في أساطير النصارى الذي خان المسيح عليه السلام..

أعلم كل ذلك، ولكني رَضِيت منذ زمن طويل ببكاء صامت لا يغني عني شيئًا، ولكنه يفعل فيّ فعل المسكن في الألم الذي يعود قويًّا بعد زوال مفعوله، وكذلك أحس فيه ببعض الطهر حين أرى هذه الدمعات.. هذه القطرات الحمراء.. تتحدر مني، وأرى تعجب الناس من حولي وهم ينظرون، ويتعجبون، ويتساءلون...
هل يبكي الشجر...؟!

مع كل قطرة.. مع كل دمعة، كنت أتذكر.. تتوالى ذكرياتي قطرات، وأعود لأسأل نفسي ذلك السؤال المَقِيت الذي ذقتُ ألَمَه حين كان أليمًا، ثم ذقتُ مرارته، ثم ذقتُ طعم الندم فيه، ثم اعتدتُ هذا المذاق الأليم المر النادم والسؤال يتكرر تلقائيًّا في أغوار نفسي كشريط معطوب..

لماذا فعلتُ ما فعلت..؟
اعذروا لي أشجاني وخواطري وكلامي المبعثر..
سأحدثكم منذ البدء..
أنا شجرة..!
ولكني لست كأية شجرة..
يقولون إن بعض الشجر يعيش مئات السنين وربما الآلاف، ويقولون إنه يُعرف عمرُه من طبقات لحائه، ويقولون ويقولون.. لكنهم أغفلوا معارفَ مهمة جدًّا لم يبحث عنها أحد..

هل الأشجار تشعر.. هل تفكر.. هل تسجد.. هل تعبد..؟
وهل لها لغة تتواصل بها مع غيرها من المخلوقات..؟
في أذهانكم أيها البشر أن الشجر لا يفعل معظم هذه الأشياء.. تظنون أنكم أنتم فقط الموهوبون المتميزون الذين رزقهم الله وسخر لهم كل النعم، وغفَلتم عن بقية المخلوقات فلم تتفكروا فيها، وغفلتم كعادتكم مرة أخرى عن شكر هذه النعم المتواترة ليل نهار، بل غفلتم عن تسبيح الله، وأعرضتم كما فعلت أنا، وخنتم ميثاق العبودية والطاعة تمامًا كما فعلت أنا..

آآه..
لو أستطيع أن أطلق هذه الزفرة الحارة الملتهبة التي تملأ صدري لتذيب صمتي وتفك قيدي.. لو استطعت لكنت من أسعد الأشجار في الكون..
ها أنا ذا تأخذني الخواطر مرة أخرى دون أن أحدثكم بالقصة منذ البدء..
نعم..

لقد كنت هناك.. وسط هؤلاء القوم الذين علموا علمًا يقينيًّا ما هو الحق، ومع ذلك لم يضمروا إلا العداوة.. أبصروا طريق الهدى، ثم عن عمد خالفوه، وعن يقين تركوه..

كنت مع قوم يهود..
وكنت في المدينة التي نُوِّرتْ بمَقدَم النبي المختار، وقد ظل هذا الاختيار محل غيظ وحقد وألم عند القوم، فلا جرم أن نذروا أنفسهم لعداوته الدائمة إلى أبد الآباد مع معرفتهم به كمعرفتهم أبناءهم..

كنت بينهم أنعم بصلات كثيرة مع أبناء جنسي من أنواع الأشجار المختلفة، ومع النباتات والحشائش وأتفاهم معهم بلغتنا..

ولكثرة مكوثي بين اليهود، ولشدة تأثري بهم بدأت في مخالفة قانون العبودية، وخنت مبدأ المخلوقات العام:
﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾.
وبرغم أنه حليم؛ يحلم عن المسيئين ويمهلهم المرة تلو المرة، غفور دائم الغفران؛ فقد علمت أن طريقي سيظل غير منتظم في هذا القانون الأعظم؛ لأني قد فتحت الباب الذي لن يستطيع أحد إذا فتحه أن يغلقه، ولن يستطيع أن يعود دون أن يلجه.. واتبعتُ طريقَ هؤلاء الأساتذة الذين سبقوني في الولوج.. وعلمت منذ تلك الساعة أني مقضيٌّ عليَّ بالبعد والمخالفة..

لقد عشت مع يهود فترة طويلة، منذ أحقاب لا أذكرها إلى أن نزل النبي صلى الله عليه وسلم بمدينة النخل، وحتى الآن.. سَمِّها ذاكرةً جمعيةً للأشجار.. أو أن الأفكار والذكريات تنتقل عبر كل شجرة.. أو أني ظللت حية نامية حتى نقلت ووصلت إلي هنا..

لا أدري..
كل ما أدريه الآن أنهم يغرسون أشجاري في كل هذه الأنحاء المباركة.. في هذه الوديان الأسيرة المكبلة.. وديان فلسطين.. نعم فلسطين فلقد كففت منذ زمن عن تسمية الأشياء بغير أسمائها..

والعجب من هذا الجاحد الذي يعلم صدق خصمه وكذب نفسه، ويعمل بنصح هذا الخصم الصادق.. وكأن هذا الصادق يقول لخصمه: لا تضربني بهذا السلاح فإنه لا يجدي نفعًا واستخدم ذلك السلاح الآخر لأنه أنفع..!

وليس هذا عن غفلة وجهل -معاذ الله- وإنما ليعلم صاحب الحق أي خصم هو خصمه وليظهر كذب الخصم وجحوده.
ولقد خدعت فترة من الزمان..

وظننت أن الحق مع هؤلاء ؛فتبعتهم وآزرتهم فيما هم فيه، وأعجبني فيهم إصرارهم وثباتهم على مبادئهم..
وأرى ذكريات قديمة كخيالات مشوشة عن حالهم مع موسى عليه السلام..
وأرى خروجهم من مدينة النخل..

وأرى تفرقهم وشتاتهم وضعفهم..

ثم أرى نصرهم على المسلمين، وعلى العرب الذين رسموا دائرة الإسلام في الخارج، وتفننوا في نقض دوائره الصغيرة في الداخل دائرةً دائرة..

ويوشك ذلك أن يأتي على الدائرة الكبيرة..

ولكني سرعان ما أدركت أيَّ مخطئٍ وأيَّ غرٍّ مغبونٍ كُنتُه.

إن لديهم إصرارًا وثباتًا عجيبًا.. ولكنه فيما خططوا له من الباطل ومن المصائب والكوارث..
إنهم أساتذة وعباقرة.. ولكن في الخبث والدهاء وإفساد العالم..

إنهم مع الأسف.. عرفوا من أين تؤكل الكتف.. فأكلوا كتف العالم، فأصبح العالم يتكئ عليهم؛ يدري ذلك أو لا يدري..
أقول ظللت معهم طويلاً وبعدت عن معاني التسبيح والعبودية والسجود..

أيُّ ألم كان يعتريني حين أرى باقي الأشجار تسجد لله -ولكلٍّ سجوده- ويسبحونه وأنا ما زلت أتجرع ألم صمتي وبعدي..
وتفردي وعجزي..
هل سمعت عن الشجرة التي علّمتْ بني آدم دعاءً للسجود..
حدثني بعض الشجر خلسة بلُغَتِنا التي لا يفهمها البشرُ أن شجرة كانت تصلي وتسجد..

لكن رجلاً لم يدرك سجودها إلا وهو نائم فسمعها تقول في سجودها: "اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا، وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وَتَقَبَّلْ مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَ مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ".
فأخذه هذا الرجلُ من أصحاب نبي الإسلام الذي علمتُ بعد ذلك أنه نبي العالمين وحدثه به فحدث به أصحابه وصاروا يدعون به في سجودهم.


والسجود في ذاته فعل عجيب لا يمكن وصفه..
أنتم لا ترون سجود الشجر، ولا تحسونه ولا تفهمونه، وأكثركم يسجد بلا فهم، ولا خشوع، ولا حمد..
والسجود يستأهل حمدًا لذاته..


ألم تسمعوا أنتم عن بشري مثلكم يبكي لأنه لا يستطيع أن ينزل بجبهته إلى الأرض..
لا يستطيع أن يحس تلك المتعة في هذه الهيئة (التسليمية) المتقنة..
ألم تسمعوا أيضًا عن ذلك البشري غير المسلم الذي أجرى البحوث على هيئة السجود وأثبت أنها الهيئة الوحيدة التي يسترخي فيها الجسد ويكون في أفضل حالاته..؟
ما هذا..؟
هل ألومكم وأنا مثلكم..
أتهكم وأسخر وأنا أحق بالتهكم والسخرية..
ولكن عذرًا.. فأنا اليوم لا أخفي عنكم ما أنا فيه من ضنك وكرب، وقد مللت صمتي وكرهته، وأردت اليوم أن أبوح بوحًا سَمِّه إن شئت بوحًا صامتًا..!


لكنه برغم كل شيء بوح صادق..
برغم ما فيه من إثم..
وألم..

لم أحدثكم عن أحلامي بعد..
أحلام بعيدة في الزمان والمكان، وأحلام قريبة..
أحلام عن أحداث وقعت، وأحلام عن أحداث لم تقع..


كنت أحلم دومًا في المنام واليقظة حتى اختلط الأمر وبت لا أفرق بين الحلم والحقيقة..
كنت أحلم دومًا بذلك الجيش الذي يأتي ليجوب هذه البلاد، ولمجرد مقدمه تَسعَد الكائنات، وتنطلق الألسنة، وينفك أسر القلوب..


جيش لا يُرهِبه مُرهِب، ولا يخيفه سلاح..
رجال طوال أو قصار.. كثيرون أو قليلون..
جيش يذكرني بهؤلاء الأوائل الذين طردوا قومي..
الواحد منهم -ولو بغير عدة- كالجيش الصغير..


قوي.. صلب.. مقدام..
يسري هذا الجيش بين الوديان والجبال والبيوت والشوارع، ويقاتل قومي، ويثأر لكل القتلى والأسرى والجرحى والأرامل والفتيات الباكيات عرضهن..

وتنطق كل الجمادات من حولي: بالتسبيح أو بالدعاء أو.. بالتحذير:
هذا يهودي خلفي..
هذا يهودي خلفي..
وأحاول أنا في هذه اللحظات العجيبة الشفافة الصادقة التي أظن أني ألامس فيها حقيقة الكون..

وسر الميلاد والموت..
ومغزى التسليم للإله..
أحاول في هذه اللحظات التي تتطاير فيها الأشلاء، ويرتفع اللغط، وتعلو الصيحات..
أحاول ولو لمرة واحدة أن أكون مثل هذه الجمادات الأخرى، ولو كان في ذلك أن أتبرأ من قومي وأرى وأشعر في بقية الأشجار البغض والكره والغيظ لي ولكل شجرة سادرة في (غرقديتها).. أحاول ولو لثانية..
ولو للحظة..
ولو للمحة..

أن أنسى ما أنا فيه من الصمت..
وأحاول.. وأحاول..
ولكني لا أفلح.. وأنا أعلم أني لن أفلح.. أمل يبرق في النفس وهي تعلم أنه سراب، ولكن هذه الجمرة تظل تبرق ولو خادعة، فتبعث الحياة في الجسد مع أنها قد تكون حياة كـ(لا حياة)..

ولا أفلح في أن أنطق فأتجرع مرارة الصمت كما تجرعتها دومًا..
ولا أجد إلا هذه القطرات..
هذه الدمعات الخرساء التي أفرغها..
مع حزني..
وألمي..
وندمي..
التوقيع: شجرة غرقد صامتة