ليس هناك شخص أو شعب هو مجموعة سيئات

د. عبد الكريم بكار-حفظه الله-
هذه حقيقة من الحقائق الكبرى في حياة البشرية، و استحضارها خلال تعاملنا مع بعضنا يخفف الكثير من التوتر و يلطِّف من الآثار التي يتركها تصادم الأفكار و المصالح و الأهواء...و الحقيقة أنه ليس هناك شخص- و هذا ينطبق على كل ما يعد تكرارا للفرد مثل الأمم و الشعوب و الجماعات و الأسر- فيه كل الصفات الجيدة و الأخلاق المحمودة، كما أنه ليس هناك شخص يتخذ دائما في مواقفه مع الآخرين القرارات الصائبة.
في المقابل ليس هناك شخص – و الشعوب و الجماعات كذلك –كل ما فيه مكروه و سيئ، أي مجموعة من الشرور و النقائص؛ فالله –جل و علا- فطر الخلائق على القابلية للخير و الشر، و جعل كل شؤون الحياة تمضي و تتوازن على أساس التدافع بين الحق و الباطل و الصواب و الخطأ و المعروف و المنكر، و لهذا فليس هناك حضارة قامت على الباطل المحض، كما أنه ليس هناك حضارة انضبطت بالحق، و خلت من نوازع الشر، و ذلك لأن الفرد في كل الأمم و الحضارات لديه مزيج من هذا و ذاك، و الخلاف بين الناس في هذا هو الاختلاف في كثرة الخير و الشر؛ و لعلي أوضح هذه السنة العظيمة في المفردات الآتية:
1. لو تأملنا في أحوال الثقافات العالمية، لوجدنا أن هناك قيما و أخلاقا كثيرة تشكل أرضية لتلاقي الأمم و الشعوب، و ذلك مثل الصدق و الوفاء و بر الوالدين و الصداقة و مقابلة المعروف بمثله و الأمانة و الإحسان و التعاون و الشفقة على الضعيف....و إن الأمم ترسِّخ هذه القيم في نفوس أبنائها من خلال التربية الأسرية و المناهج الدراسية ووسائل الإعلام، و لهذا فإن كل فرد في العالم ينظر إلى هذه الأخلاق و القيم نظرة اهتمام و تقدير، حتى لو كان سلوكه الفعلي يخالف ذلك، لأنها دخلت في تكوينه الذهني و الثقافي و الروحي و الاجتماعي، و بمجرد أن ينظر المرء نظرة تقدير لشيء فإنه يحاول على نحو عام أن يراعي ذلك الشيء في قوله و فعله؛ و أظن أن هذا واضح.
2. إن القوانين المعمول بها في العالم الصناعي و العالم النامي، و كذلك العقوبات مبنية على الاعتراف بأن هناك ما هو جائز، و هناك ما هو ممنوع، كما أنها مبنية على أن خصوصيات الناس و ممتلكاتهم و حقوقهم الأدبية كلها مكفولة و مصونة، و على المواطنين التقييد بذلك و مراعاته، و هذا يشكل حافزا إضافيا للأسر كي تربي أولادها تربية جيدة، فهي تعرف أن إزهاق أرواح الآخرين و الاستيلاء على ممتلكاتهم، و دخول بيوتهم من غير إذنهم و تشويه سمعتهم.. يؤدي بأبنائها إلى دخول السجن و ربما الإعدام، و لهذا فإن جزءا من تمدن الإنسان يقوم على الخير الكامن في احترام حقوق الآخرين و كبح النفس عن بعض الشرور.
3. الناس مفطورون على التطلع إلى إثبات وجودهم و تحقيق ذواتهم و الحصول على مرتبة اجتماعية مرموقة؛ و إن من الواضح أن بلوغ ذلك يتم بالعديد من الطرق، منها الشعور بالتأنق الروحي و الاجتماعي، و الذي نشعر به أساسا حين نقوم بأعمال إغاثية و طوعية، لا تستهدف تحقيق مصلحة شخصية، و هذه من الخير الموجود لدى كثير من الناس، و هي تنم عن الاهتمام بالنفس البشرية و ضرورة صيانتها و إسعادها، و هذا كله من الفضل و الخير.
4. هناك من النصوص ما يدل على أن شيئا من الإيجابية و شيئا من الخير موجود لدى كل إنسان، منها قوله –صلى الله عليه وسلم- ( الناس معادن كمعادن الذهب و الفضة خيارهم في الجاهلية، خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) فقد دل الحديث على أن الناس في الجاهلية كان فيهم من يفضل غيره في الخيرية، و أثنى على حلف الفضول الذي عقد في مكة، و ذكر أنه لو دعي إلى مثله للأجاب، لأنه كان عملا خيرا لما فيه من نصرة المظلوم على الظالم. و روي عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال ( لا يفركن- أي يبغض- مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا، رضي منها غيره) و هذا منه – صلى الله عليه وسلم- إيقاظ للوعي، حتى لا يركِّز الأزواج النظر على مساوئ زوجاتهن، حيث إن لديهن بعض الأخلاق المحمودة، و هذا في الحقيقة عام، فما من شخص من الناس إلا لديه بعض الخصال المحمودة التي لو بحثنا عنها لوجدناها، و الواقع يشهد بذلك.
5. قام بعض المثقفين و الكتاب المسلمين بإشاعة فكرة مضمونها هي: أن الناس في الغرب لا يملكون أخلاقا أصيلة مجردة عن المصلحة، و زعموا أن الناس هناك يصدقون و يفون بالوعد... من أجل نجاح تجارتهم و أعمالهم ليس أكثر، و أعتقد أن ما فعله أولئك الكتاب كان جزءا من الجهود المبذولة لحماية المسلمين من التأثر بالغرب و الإعجاب بالحياة الغربية، لكن ذلك لا يلامس الحقيقة ، و يجافي القيام لله تعالى بالعدل و القسط، و ذلك لأن في الحضارة فوائض في السلوك و التعامل يصعب تفسيرها بالمصالح و المنافع الشخصية، و لا يمكن أن تستمر حضارة الغرب ما يزيد على خمسة قرون، و هي قائمة على باطل محض و شر خالص.
و من علماء الحضارة من يقول: إن ما لدى كثير من الغربيين من أخلاق الصدق و الأمانة و الوفاء و الدقة... نشأ في المجال التجاري، و ترسخ في دوائر العمل من أجل كسب الزبائن و الإبقاء عليهم، ثم انتقل إلى الحياة الأسرية و العامة لأن من الصعب أن يكون الرجل صادقا في الصباح و كذابا في المساء؛ و يبدو لي أن هذا التفسير صحيح.

هل يعني كل هذا شيئا؟
إنه يعني الآتي:
1. على الواحد منا حتى يرى ما لدى الناس من خير أن لا يجعل نفسه أصلا، و على الباقي أن يكونوا صورة منه، فما وافق مزاجه فهو خير و ما خالفه فهو شر، و إنما عليه أن يحكِّم المعايير الشرعية و الإنسانية العامة.
2. يمكن لنا أن نرى ما لدى الناس من صفات إذا تجردنا من الأنانية، و تحلينا بخلق الإنصاف، و بذلنا شيئا من الجهد، حيث إن اكتشاف ما لدى الناس من خير يحتاج إلى شيء من الإبداع و الشفافية، و إلا فإننا قد لا نرى إلا السيئات!.
3. حين نعامل الناس على أن فيهم شيئا من الخير، فإنا نحفزهم في الحقيقة على أن يعاملونا و يعاملوا غيرنا انطلاقا من الخيرية التي نعتقدها فيهم، و حين نعامل الناس على أنهم أشرار، فقد لا نرى فعلا منهم إلا الشر.
4. حين نعتقد أن فلانا من الناس هو كتلة من الشر، فإننا نحرم أنفسنا من الاستفادة منه و تعلم بعض ما لديه و هذا جزء من ضريبة المعتقدات الخاطئة، على حين أنني أعتقد أن جزءا من حلول مشكلات أي أمة ، يكون موجودا عند أعدائها؛ و ليس هذا الموضع هو الموضع المناسب لشرح ذلك.