زكاة أم (شرهة)؟!
د. يوسف بن أحمد القاسم * - 28/09/1428هـ
أستبيحكم عذراً هذه المرة بأن أصحبكم معي في جولة معلوماتية مهمة ومختصرة, جادت بها قريحة فقيه من فقهائنا المعاصرين, عبر كتابه (الزكاة ودورها في محاربة الفقر), ومما جاء فيه: "الزكاة هي أداة التوزيع الأساسية في النظام الإسلامي, ولضمان استمرارها والدقة في تنفيذها، جعلها الله تعالى أحد أركان الدين حتى لا تترك للقرارات الاقتصادية, والظروف الاجتماعية, والأهواء الشخصية, وهي بهذا تتميز بالاستمرارية وعدم الانقطاع, ومصارف الزكاة الثمانية تتوزع بين مجالات الضمان الاجتماعي (الفقراء والمساكين وابن السبيل), والنشاط العسكري (في سبيل الله), وتأمين النشاط الإنتاجي والتعامل الائتماني (الغارمين), والنشاط الدعوي (المؤلفة قلوبهم), كما تشجع الزكاة على الاستثمار؛ لأنها تجبر صاحب المال على ألا يترك ماله مخزناً معطلاً عن الاستثمار, وإلا صار في تناقص مستمر (فهي تأخذ منه سنوياً 2.5 في المائة لتحفزه ليرفع من دخله الاستثماري بما يزيد على هذه النسبة) كما في الحديث: (من ولي يتيماً له مال فليتجر فيه, ولا يتركه حتى تأكله الصدقة), كما أن الزكاة تحريك للنمو الاقتصادي, وبناء للموارد البشرية؛ لأنها حرب على العطالة والتسوّل, فمن أموالها يمكن إعطاء القادر العاطل ما يمكنه من حرفته من أدوات أو رأسمال, ومنها يمكن أن يدرب على عمل مهني يحترفه ويعيش منه, ومنها يمكن إقامة مشاريع جماعية - مصانع أو متاجر أو مزارع ونحوها - ليشتغل فيها العاطلون, وتكون ملكاً لهم بالاشتراك, والزكاة بتوفيرها مصدر رزق مستقر لعائل الأسرة تعمل على حفظ العلاقات الأسرية, وتوجد المحضن المناسب للأبناء لينشأوا في كنف ذويهم في جو نفسي مساعد, وبيئة مادية مناسبة, والزكاة ضمان اجتماعي رفيع لم يعرف له التاريخ مثيلا, وحصن حصين ضد تقلبات الأيام, وعون وسند للمضطرين, العاجزين جسمانياً من المعوقين, والمرضى بأمراض مزمنة, وصغار السن الذين لا عائل لهم (اليتامى), وإن كان بالإمكان تدريب بعض ذوي العاهات كالصم والمكفوفين ونحوهم على أنواع من العمل تناسبهم وتسد حاجتهم، فلا بأس بالإنفاق على تعليمهم وتدريبهم من مال الزكاة, وكذا تعطى الزكاة لذوي الحاجات الطارئة - وإن كانوا في الأصل أغنياء قادرين - من الغارمين الذين اضطروا للاستدانة ولم يستطيعوا الوفاء, ومن اجتاحتهم السيول والحرائق فذهبت بمالهم, وأصحاب الكوارث عموما, وكما تكون الزكاة حلاً لمشكلة الفقر وأصحاب الكوارث, فهي حل لمشكلة العزوبة لمن يريد إعفاف نفسه, بالمساعدة في المهر ونفقات الزواج إن كان من أهل الحاجة, وهكذا وهي حل لمشكلة المشردين واللقطاء.. إلخ"أهـ، وبعد هذه الجولة السياحية, ذات الطابع الثقافي, أصل عند مربط الفرس كما يُقال, فأقول: في بلادنا الغنية (السعودية) يتساءل كثيرون: هل ساهمت الأموال الزكوية لأثرياء بلاد الحرمين في حل مشكلة الفقر والعزوبة وغيرها, وبشكل فاعل, أم تنكبت الزكاة في بلادنا طريقها المرسوم, فلم تكن كما كانت يوما ما حلاً ناجعاً لمشكلات الفقر, وبلسماً شافياً لأوجاعه؟ مَن يرقب واقع كثير من المزكين في بلادنا, ومن تتحصل الزكاة في أيديهم من محترفي الشحاذة, لا يتفاءل كثيراً!! وحتى أسلط الضوء على ظاهرة واحدة من الظواهر السلبية التي حالت دون تفعيل دور الزكاة في مجتمعنا, لنرقب بعض المنازل والقصور حين يحل شهر رمضان وحتى يشارف على الرحيل, لنرى كم يحتشد حولها من جموع غفيرة, أتت من كل فج عميق, ليشهدوا منافع لهم!! إنها جموع اعتادت على أن تتجمهر حول هذه البيوتات, لا لتدفع عنها ضرورة أو حاجة - إلا من رحم الله - ولكن لتتسلل إلى جيوب الأغنياء, فتستكثر من قلة, وتستقوي من ضعف؛ فتحجب الزكاة عن المتعفف, وتفوت هذا المال عمن لا يجد غني يغنيه, ولا يفطن له فيتصدق عليه, ولم يعد غريباً أن نرى هذه الجموع الحاشدة تتردد على بعض الأغنياء سنة بعد سنة؛ ليطلب كل فرد منها حقه من مال الزكاة الذي تعود على أخذه من رب المال كلما أطل رمضان, ربما استحقه قبل خمس عشرة سنة لحاجة ألمّت به, أو ظرف أحاط به, ثم اعتاد أخذ هذا المال كل عام, ولو كان ممن تحسنت أوضاعه, وأصبح ممن تجب الزكاة في ماله, أو ممن يتطلع الفقراء لحاله!! حتى إن هذا المستكثر- لا كثر الله أمثاله- ربما أعطاه المزكي أقل مما كان يعطيه في السنوات الماضية, فتراه يزبد ويرعد حتى يظفر بحصته التي تعود على تحصيلها كل عام, بل إن بعض هؤلاء لو رده المزكي لرفع بأعلى صوته: أعطني عادتي!! وهكذا تتحول الزكاة في نظر هذا وأمثاله إلى عادة, أو (شرهة!!), وقد حذر نبينا صلى الله عليه وسلم من هذا السلوك المنحرف بقوله: (من يسأل الناس أموالهم تكثراً, فإنما يسأل جمراً, فليستقل أو ليستكثر!) ومنع المزكي من توزيع الزكاة بهذه العشوائية, فقال عليه الصلاة والسلام عن الزكاة منبهاً: (لا حظ فيها لغني, ولا لقوي مكتسب) وأغلب اللوم لا يقع على الشحاذين الذين امتهنوا هذه المهنة, واستساغوا هذه الحرفة, ولكن اللوم والعتب على ذاك الذي يبعثر الزكاة يمنة ويسرة دون تحرٍ, فلم يستنفر طاقته, ولم يبذل جهده, ليصل إلى الفقير المتعفف, والمسكين الذي لا يسأل الناس إلحافاً, ولكنه وفر على نفسه هذا العناء, وحفظ عليها هذا الجهد, طلباً للكسل والخمول, فاكتفى بما لديه من أسماء في قوائم بالية أكل عليها الزمن وشرب, حتى إن بعض الأسماء لأفراد قد ودعوا الفقر, أو قد وسدوا القبر!! فلم يكلف هذا الغني نفسه - أو من وكله في إخراج الزكاة - للتأكد من واقع حال الأسماء المضافة في القائمة سيئة الصيت, وظل كل عام يوزع الزكاة على هؤلاء المتجمهرين, أو وكلائهم بالنيابة! ناهيك عما يقع في نفس هذا المزكي من حظوظ خفية, تنتشيها هذه الجموع التي تحتشد حول فناء داره أو قصره, وتتدافع وربما تقتتل عند بابه, فإذا كان قطاع عريض من أثريائنا على هذا النحو, فكيف إذاً ستكون زكاة أموالنا سبباً في حل مشكلات فقرائنا والمعوزين منا؟!!
*الأستاذ في المعهد العالي للقضاء
http://www.aleqt.com/article.php?do=show&id=7072