في بدايةِ إقبالي ونهفي الشديد إلى العلمِ والتَّعلم, كنتُ –كما هو حالٌ كثيرٍ- رجلٌ يحبُّ الذهاب والإياب والاطلاع من هنا ومن هنا –لا أستقيم ولا أستديم- .
ولم يكنْ يتغيَّبُ عن الذهنِ أهميةَ
(التدوين) ذاكَ أنه من قِوى القويم ومن مُلحِ العديم, فكنتُ أحملُ "قصاصةً من الأوراق" لا تفارقني ولا أفارقها. فإذا رأيتُ أحدَ مشايخي سارعتُ إليه نهفًا للاستفادةِ منه والتعلم.
إذا كنت لا تدري ولم تكُ بالذي *** يسائل من يدري فكيفَ إذًا تدري ؟
فلا أطلبُ شرحَ حديث ولا شرح آية غير " طلبِ فائدةٍ واحدة ", فإذا ما فتحتُ الأوراق فكَّر الشيخ في فائدة يهديني إياها ثم أدونها وأنصرف, ومضيتُ على ذلك فتراتٍ عديدة .
* فذاتَ ليلةٍ من ليالي الأنس, وبينَما النومُ يسارحني, وأستبشرُ المناماتَ والأحلام, إذ بـي -وكأني في اليقظة- أحملُ قصاصةً من الأوراق وأشدُّ السيرَ مسرعًا .
يسعى الفتى لأمور قد تضرُّ به *** -وليسَ يعلمُ ما يأتي وما يدعُ-
إذ بي أرى نسيج وحده, فريدُ عصره, إمام زمانه,
الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله تعالى- .
كم ندمتُ من الأيام الماضية *** حرمةَ لقيِّ ذوي الأخلاق الصافيه
أكرمني الله تعالى برؤيتِهِ عيانًا , فكمْ يفتخرُ الرَّجل برؤية ذوي المعانِ السميَّة, وذوي المعادن العليَّة.
الناس في صور التمثال أكفاء *** أبوهم آدم والأم حواء
فإن يكن منهم في أصله شرف *** يفاخرون به فالطين والماء
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم *** على الهدى لمن استهدى أدلاء
جئتُ إلى الشيخ الراحل وهو حيٌ يناظرني بعينيهِ المبصرتين الخافقتين , ما أجملَ هذا المنظر! منظرٌ لم يره غيري حيٌ ولا ميت! فقد رأيتُ الشيخ مبصرًا في عينيهِ , يتمتَّع به ناظريه , وقلبهُ ما زالَ في بصيرتِهِ حيًا , وفي علمِهِ قويًا , ما فتئَ وقد تغيَّر ! هذا زهدهُ وبشتُهُ وسكينتهُ لم تفارقِ الروح , يالله ما أعذبها !
إن لله عبادا فطنا *** طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا *** أنها ليست لحي وطنا
جعلوه لجة واتخذوا *** صالح العمال منها سفنا
جئتُ إلى الشيخِ طالبًا سائلًا يرجو علمًا وحِلمًا , وحولَ الشيخ طالبٌ من طلابِهِ , فقلتُ –ببراءة-: يا شيخي! هل لكَ أن تفيدني فائدة ؟ -قد أثرتْ أفاعيل يقظتي مناميَه- .
فانشغلَ عني الشيخ إلى الطالبِ حيثُ إنه كانَ بين دفتيه كتابًا منهجيًا يتلوه على الشيخ!
ولحسنِ حظِّي أني ظفرتُ بالكتابِ الفقهيِّ الذي يقرأ منه هذا الطالب! فقلتُ " خيرٌ على خيرٌ " على حدِّ قول ابن النحاس:
اليوم شيءٌ وغدًا مثله *** من درر العلم التي تلتقطُ
يحصِّل المرء بها حكمةً *** وإنما السيلُ اجتماع النقط
فجعلتُ أقلِّبُ الصفحة والأخرى, وأصرف النظر يمنةً وشَمْألا, أتِيهُ بين الأوراق, وأجوبَ بين الأطراف, أحاول استدارك ما حصل, جاهدًا إلى معرفة أين وصل؟
لا خيرَ في عزمٍ بغيرِ رويَّةٍ *** والشكُّ وهنٌ إن أردتَ سراحًا
حتى هُديتُ –كما الظنُّ ظاهرٌ- إلى أن فتحتُ (كتاب النكاح) وتيقنتُ أن الطَّالبَ يقرأ من ذا الموضعِ!
فلفتَ المعلِّم الهادي إليَّ لفتةَ المشفقِ بقوله: الله يهديك يا ابني! أما تراهُ يقرأ من أوَّلِ الكتاب؟!
وأسوأ أيام الفتى يومٌ لا يرى *** له أحدٌ يزري عليهِ وينكرُ
كم نكرهُ العتابَ نحنُ طلابُ العلم!
كيفَ نكرهُ الشيخُ المعلِّم إذا ربَّانا نحنُ طلبة العلم!
أينَ نذهبُ ونستوطنُ إذا
عابَ علينا الشيخُ أمرا ؟ أو ذمَّ فينا جمرا ؟
كم منَّا من لا يستشعرُ هذه الأبيات عندَ تذوقِ المرِّ!
تصبَّر على طول الجفا من معلّم *** فإنَّ رسوخ العلم في نَفَراته
ومن لم يذق مرّ التعلم ساعة *** تجرَّع ذل الجهل طول حياته
* فحينَ ذاكَ أسفتُ من نفسي غلطي, ورجعتُ إلى رشدي, بأن فتحتُ أول الكتاب كما أمرني الشيخ, ولكنْ استيقظتُ مني أسفًا وحزنًا ! بقولي (لم يجبِ الشيخُ طلبي ؟ ما طلبتُ منه غير فائدةٍ! فإذا هو ينهرني!) ....
وهــكـذا نحنُ !
* فقدَّر اللَّه لي سفرًا طويلَ الأمدِ إلى أحد بلدان دولتي –حرسَها الله- مع جميعِ مشايخي, وكانَ منهم رجلٌ ذا خلقٍ وسمتٍ يعبِّر الرؤى بعدَ أن يتروَّى, فقصصتُ عليهِ الخبر لأبلغَ المخبر ....
فقال لي: ما شاء الله ... ما شاء الله ... أعطَاكَ الشيخ فائدةً نفيسة.. فرجعَ بيَ العجبُ, أين إذًا ذا السبب؟
فقال لي –بما مضمونُهُ-: أنتَ تعجَّلتَ الأمورَ, وبادرتَ الحضور, وأعماكَ الشغف, فأوْداكَ العجب...
يا فتى..خذِ الأمور على مهلٍ ويسْرٍ..تصلِ العُلا
يا فتى..تدرجِ المعالي بصعودِ الدرج...لتجدَ المُنى
ولا تَنـزل الأسافل بطلوعكَ الصعب..ابدأ بصغيرِ العلم قبل كبيرهِ..تدرج في العلوم لتبرع الفنون..
....العلم بحور زاخرة *** لن يبلغ الكادح فيه آخره
لكنَّ في أصوله تسهيلاً *** لنيله فاحرص تجد سبيلاً
اغتنم القواعد الأصولا *** فمن تفته يحرم الوصولا
* فبقيتُ في الأوهام والأحلام: ما مغزى الرؤيا ؟ وإلامَ تنفلق الفتيا ؟ حتى مضتِ الأيام والليالي...إذ بي –وكلِّي أمل- أطالعُ الكتب يمنةً ويُسرًا...حتى وقعتْ عيني على كتاب شيخ الزمان محمد البسام:
(تيسيرُ العلاَّم بشرحِ عمدةِ الأحكام) فتصفحتُهُ تصفُّح المعجبْ, ووسمته بأحسنِ ما تَعجب..
* وفتحت –وجاءَ الأثر-
كتابَ النكاح.....! في المجلد الثالث ..!
فزادَ إعجابي وإحساني بالكتاب..ما أروعه..ما ألذّهَ وأطيبَ فحواه..
فبادرتُ إلى المجلد الذي في أوله كتاب النكاح..وضممتُهُ إلى أحضاني..متوسِّما فيه إعلامي..
سَقَام الحِرْصِ ليسَ له دواءٌ *** وداءُ الجَهلِ ليسَ له طبيبٌ
ومضيت أيامًا بل أسابيعَ منبسطًا فرحًا..أقرأ فيه وأتبصر به..أنصحُ بهِ أخي..حتى جاءَ الدرس الذي تعلمتُهُ..حتى جاءَ الفلق الذي انتظرتهُ..
* بينا أنا راجعٌ من إحدى الأسفار ومعيَ الكتاب مختل به وحدي..أتذكر الأحداث التي سبقتْ بي..فطرقَ فكري من غير إطراق (أمرُ الرؤيا وتعبيرها) وضممتها إلى فعلي وقرائتي...
فقلتُ –وقد شهقتُ النَّفَس-: اللــه أكبر! كيفَ بي غفلت!!
ما بالي لم أقرأ من أول الكتاب..ما بالي وقد أصررتُ على الشروع من نصفِ الكتاب!..بل ومن كتاب النكاح!..فضحكتُ على نفسي..إذ ظننت أن الجرحَ قد ضُمِّدَ قبل جراحه..
ولكلِّ عقلٍ غفوة أو سهوةٌ *** والحرُّ محتاجٌ إلى التنبيهِ
فكلمتُ الشيخ -الذي عبَّر لي رؤايايَ- ما بدرَ مني..فضحكَ متعجبًا..وقال لي: الآن ذقتَ حلاوة الفائدة..وقال لي: هذا تصديق رؤياك وفتوايَ من قبل قد جعلها ربِّي حقًّا...
* فيا طالبَ العلمِ: تدرج في العلوم ولا تعجلْ...فخيرُ الأمور أواسطها..وأوسطُ الأمور أعدلها ...