لا يخفى على الباحث في عِلْمٍ من العلوم أهميةُ تحرير مصطلحاتِهِ ، وأثرُ ذلك في صحة التصوُّرِ ، ودِقَّةِ الحكْمِ ، وتحريرِ محل النزاع .

والمتأملُ في كلام العلماء - رحمهم الله - يَجِدُ لمصطلح «آيات الأحكام» إطْلاقَيْنِ مشهورَيْن ، أحدهما أعمُّ من الآخر .

فأولهما : أنَّ « آيات الأحكام » : هي كلُّ آية يُستفاد منها حكمٌ فقهيٌّ ، وتدلُّ عليه نصاً أو استنباطاً ، سواء سِيْقَتْ لبَيانِ الأحكام الفقهية ، أو لغير ذلك كآيات العقيدة ، والقصص ، والترغيب ، والترهيب(1).
وهذا المعنى هو الأعم .

والثاني : أنَّها الأيات التي تُبيِّنُ الأحكامَ الفقهية على وَجْهِ التَّصْريح ، دون ما يُؤخَذُ منه الحكْمُ الفقهي بطريق الاستنباط والتأمُّل(2). أو : هي الآيات التي سِيْقَتْ لبيان الأحكام الفقهية ، دون ما يُستنبطُ منه الحكم الفقهي ولم يُسَقْ لذلك(3).

فعلى سبيل المثال :

- قوله تعالى : {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} . استدلَّ به الشَّافعيُّ رحمه الله وغيرُه على صحَّة أنكحةِ الكفَّارِ(4).
- وقوله تعالى : { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل : 8] . استدلَّ به بعضُ الفقهاء على تحريم أكل لحم الخيل(5).

فهاتانِ الآيتان هما من « آيات الأحكام » على المعنى الأول ، وليْسَتَا منها على المعنى ا لثاني ؛ لعدم التصريحِ بالحكم الفقهي ، وكَوْنِها لم تُسَقْ لبيانه .

وقد اجتهد العلماء-رحمهم الله- في عدِّ آيات الأحكام ، واختلفوا في قَدْرِها اختلافاً مشهوراً .

فقيل : هي خمسمائة آية .
قال الغزالي رحمه الله في معرض بيانه لشروط الاجتهاد : ( لا يشترط معرفة جميع الكتاب ، بل ما تتعلق به الأحكام منه ، وهو مقدار خمسمائة آية ) (6). ووافقَهُ - في هذا الحصْرِ- جماعةٌ ،منهم : ابن رشد الحفيد ، والرازي ، وابن قدامة -رحمهم الله-(7).

وقيل : مائتا آية .
وهو ما قرره صديق حسن خان رحمه الله ، وقال : ( وقد قيل : إنها خمسمائة آية . وما صحَّ ذلك ، وإنما هي مائتا آية أو قريب من ذلك ، وإن عَدَلْنا عنه وجَعَلْنَا الآيةَ كل جملةٍ مفيدة يصحُّ أن تُسمَّى كلاماً في عرف النحاة ، كانت أكثر من خمسمائة آية ، وهذا القرآن مَنْ شكَّ فيه فَلْيَعُدَّ )(8).

وقيل : مائة وخمسون آية (9).

وقيل : مائة آية فقط (10).

فهذه أشْهَرُ الأقوال في حَصْرِ آيات الأحكام وعَدِّها .

وأنكر جماعةٌ من أهل العلم حَصْرَ آياتِ الأحكام ، وتقديرَها بهذه الأعداد .
قال الطُوفي رحمه الله : ( والصحيح أنَّ هذا التقديرَ غيرُ معتبر ، وأنَّ مقدار أدلة الأحكام في ذلك غيرُ منحصِر ؛ فإنَّ أحكامَ الشرع كما تُستنبط من الأوامروالنواهي ، كذلك تُستنبط من الأقاصيص والمواعظ ونحوها ، فَقَلَّ آية في القرآن الكريم إلاّ ويُستنبَطُ منها شيءٌ من الأحكام ... وكأنَّ هؤلاء الذين حصروها في خمسمائة آية إنما نظروا إلى ما قُصِد منه بيانُ الأحكام ، دون ما استُفيدتْ منه ولم يُقصَد به بيانُها ) (11).

وردَّ القرافيُّ رحمه الله الحصْرَ، وقال : ( فإنَّ استنباطَ الأحكام إذا حُقِّقَ لا يكادُ تَعْرَى عنه آية ، فإن القصَص أبعد الأشياء عن ذلك ، والمقصودُ منها الاتِّعاظ والأمْر به، وكلُّ آيةٍ وَقَعَ فيها ذِكْرُ عذابٍ أو ذمٌّ على فعلٍ كان ذلك دليلَ تحريمِ ذلك الفعل ، أو مدحٌ أو ثوابٌ على فِعْلٍ فَذَلِكَ دليلُ طَلَبِ ذلك الفِعْل وجوباً أو ندباً ، وكذلك ذِكْرُ صفاتِ الله U والثناءِ عليه ، المقصودُ به الأمرُ بتعظيم ما عظَّمه الله تعالى وأن نُثني عليه بذلك ، فلا تكاد تجِدُ آيةً إلا وفيها حُكْمٌ ، وحَصْرُها في خمسمائة آية بعيد ) (12).

وقال الزركشيُّ رحمه الله بعد ذِكْرِهِ قولَ الغزالي ومَنْ وافقَهُ : ( وكأنَّهم رأَوا مُقاتل بن سليمان أول مَنْ أفرد آياتِ الأحكام في تصنيف ، وجعلها خمسمائة آية ، وإنما أرادَ الظاهرة لا الحصر ؛ فإنَّ دلالة الدليل تختلف باختلاف القرائح ، فيختص بعضهم بدرك ضرورة فيها ... وقد نازعهم ابنُ دقيق العيد أيضاً ، وقال : هو غير منحصرٍ في هذا العدد ، بل هو مختلف باختلاف القرائح والأذهان ، وما يفتحه الله على عباده من وجوه الاستنباط ، ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام دلالةً أوَّليةً بالذات ، لا بطريق التضمُّن والالتزام )(13) .

والذي يظهر أن سببَ الخلاف بين مُثْبِتِيْ الحصر ومانعيه ، هوعدمُ تحرير محل النزاع ، وعدمُ اتفاقهم في مفهوم « آيات الأحكام » التي يُراد حَصْرُها وعَدُّها .
- فمَنْ قَصَدَ بـ « آيات الأحكام » : كلَّ آية يمكن أنْ يُستنبط منها حكم فقهي ، أنْكَرَ حصرَها وعَدَّها ، لأن ذلك يختلف باختلاف الأفهام ، وما يفتحه الله على عباده في فقه كتابه .
ويظهر في النقولات السابقة - عن الطوفي والقرافي والزركشي رحمهم الله- أنهم إنما أنكروا حصر «آيات الأحكام » بهذا المعنى .
- ومن قصد بـ « آيات الأحكام » : ما سِيْقَ لبيان الأحكام الفقهية أو كان صريحَ الدلالةِ عليها ، فقد أثْبَتَ حَصْرَها واجتهد في عدِّها على وجه التقريب ؛ لإمكان ذلك ، مع تسليمه بإمكان استنباط الأحكام الفقهية من سائر آيات الكتاب العزيز .
وهذا الإمام الرازي رحمه الله وهو من القائلين بحصر آيات الأحكام في خمسمائة آية - قد ملأ تفسيره الكبير باستنباطِ الأحكام الفقهية مِنْ غير مظانها ، واستدلَّ عليها بما يفوق هذا العدد ، فدلَّ ذلك على أنه لم يرِدْ حصْرَ « آيات الأحكام » بالمعنى الأول ، بل أراد المعنى الثاني ، والله أعلم(14).

الحواشي :
([1]) انظر : البحر المحيط للزركشي (6/199) ؛ الإتقان في علوم القرآن (4/35) ؛ إرشاد الفحول (2 / 206) ؛ إجابة السائل (ص384) ؛ تفاسير آيات الأحكام ومناهجها (1/45، 50) .
([2]) انظر : البرهان في علوم القرآن (2/3-5) ؛ التحبير شرح التحرير (8/3870-3871) ؛ آيات الأحكام لمحمد صالح علي (ص2-3) ؛ تفاسير آيات الأحكام ومناهجها(1/50) .
([3]) انظر : شرح مختصر الروضة (3/415) ؛ المدخل لابن بدران (ص368) ؛ تفاسير آيات الأحكام
ومناهجها (1/50) .

([4]) انظر : البحر المحيط للزركشي(4/226) ؛ الإكليل (1/284، 3/1353) .
([5]) انظر : أحكام القرآن للجصاص (3/183) ؛ أحكام القرآن للكيا الهراسي (3/242) ؛ الجامع لأحكام القرآن (10/76-77) ؛ أضواء البيان (2/298-303) .
([6]) المستصفى (2/350) .
([7]) انظر : الضروري (ص137) ؛ المحصول (6/23) ؛ روضة الناظر (3/960) .
([8]) نيل المرام (1/47) .
([9]) انظر : الفكر السامي (1/25) ؛ تفاسير آيات الأحكام للعبيد (46) .
([10]) انظر : التحبير شرح التحرير (8/3871) .
([11]) شرح مختصر الروضة (3/577-578)
([12]) شرح تنقيح الفصول (ص437) .
([13]) البحر المحيط (6/199) . وانظر : البرهان في علوم القُرْآن (2/3-5) ؛ التحبير شرح التحرير (8/3870) ؛ إجابة السائل (1/384) ؛ إرشاد الفحول (1/1028) .
([14]) انظر : البرهان (2/3) ؛ الإتقان (4/35) ؛ تفاسير آيات الأحكام للعبيد (1/50) .