بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
موضوع الخطبة: إذ أخرجه الذين كفروا. الخطيب الظريفي
11 محرم الحرام 1432 هـ 17 / 12 / 2010 م
الحمد لله الذي خلق الإنسان فأتقن ما صنع، وشرع الشرائع فأحكم ما شرع، سبحانه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فيما خلق وأبدع، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أفضل من عبد الله وخضع، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله حتى انتشر دين الله وسطع، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم يحصد فيه الإنسان من الدنيا ما زرع.
أما بعد فيقول الله تعالى:﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا..... ﴾.
أيها الإخوة المؤمنون قد قدمنا لكم في الجمعة الماضية أن هذه الآية الكريمة نزلت بعد تسع سنوات من الهجرة، عندما دعا النبيr أصحابه لمحاربة الروم في غزوة تبوك، فتخلف بعض الصحابة، فنزلت هذه الآية الكريمة توبيخا لهم على تقاعسهم عن الاستجابة لنداء النبي r،
وقدمنا لكم وفقة تأمل وتدبر عند قوله تعالى:﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾.
وخطبة اليوم سنقف فيها عند قوله تعالى:﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ لنقف على حقيقة الذين كفروا في كل زمان ومكان.
- إخوة الإيمان - إن الهجرة لهي نقطة تحول من الذل إلى العز، ومن استعمار الشرك إلى حرية الإيمان، ومن جور الكفر إلى عدل الإسلام، لقد كان المسلمون في مكة يتعرضون لأنواع التنكيل وأشكال التعذيب، على يد كفار قريش، خصوصا منهم المستضعفين، حتى إن أحدهم لا يستطيع أن يعبد الله إلا من وراء الستار، بل لقد وصلت العنجهية والغطرسة بالمشركين إلى أن يمدوا يد الأذى للمصطفى r، لقد نالوا منه بالضرب والشتم، وبالسب والتسفيه، وبالحصار الاقتصادي والاجتماعي، وفي آخر المطاف، عندما علموا بإسلام الأنصار في المدينة المنورة، ثارت حفيظتهم، وفقدوا صوابهم، وانتهى صبرهم، فعقدوا مؤتمرا مغلقا، تحت الرياسة المشتركة بين الشيطان الرجيم في صورة شيخ نجدي، وبين عدو الله أبي جهل، فأسفر هذا المؤتمر الملعون عن اقتراح يتضمن قتل المصطفى r بعد أن رفض إبليس اقتراح سجنه واقتراح نفيه، ثم انتخبوا من كل قبيلة شابا للقيام بهذه المهمة، ليضربوا النبي r ضربة رجل واحد، فلا يعرف حئنئذ من قتله، فيضيع دمه هدرا، والقرآن الكريم يعلق على هذه المقترحات الماكرة إذ يقول:﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.
نعم -أيها الإخوة المؤمنون- والله خير الماكرين، فما يكاد أي ظالم على مر العصور والأزمان، يكيد للإسلام ويضيق الخناق على الدعاة إلى الله، ويقف حجر عثرة في سبيل مده ونشره، إلا ورأينا الإسلام يمتد رغم أنفه، وينتشر في مكان لا يخطر بباله، لقد هال المشركين وصعب عليهم أن يسلم بضع عشرات من أهل مكة، إذا بهم يفاجئون بإسلام قبيلة الأوس والخزرج عن بكرة أبيها في المدينة، والمدينة يومئذ هي الطريق الرئيسي والاستراتجي الذي يمد مكة بالتجارة من الشام، فتكون تجارتهم تحت رحمة المسلمين.
وقد شهدنا في هذا العصر أمثلة واضحة لذلك، لقد كان الإسلام عند الاستعمار الغربي في النصف الأول من القرن الماضي في الستينات وقبل الستينات مشكلا خارجيا، إنهم يحاربونه في الدول الإسلامية، إذا به يمتد اليوم امتداد خيوط النار والظلمة على الكرة الأرضية، فينتشر في عقر دارهم وبين مفكريهم بكيفية لم يحسُبوا لها أي حساب، حتى أصبح لديهم الإسلام اليوم مشكلا وخطرا داخليا كما يزعمون، والحقيقة أنه ليس في الإسلام أي مشكل ولا أي خطر ولله الحمد؛ بل المشاكل والأخطار في فسوقهم التي يقف الإسلام بطهارته ضدها، ومطامعهم التي يقف الإسلام بعدله حربا لها.
وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ وإذ يقول:﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَ هَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ﴾.
هكذا –يا عباد الله- صعب على قريش إسلام الأنصار، فأغلقت الأبواب على النبي r وأنذرته في خلال أربع وعشرين ساعة أن يغادر مكة ولا يبقى في ساحتها، مكة الذي ولد في ربوعها وترعرع في تلالها، وشرب من ماءها، وله فيها ذكريات الطفولة البريئة، والشباب الطاهر، فيخرجوه منها، ويا ليتهم تركوه ليخرج سالما معافى، بل يريدون أن يخرجوه جثة هامدة، فخرج r من مكة خفية، خيفة من أذى الكفر وأعداء الإسلام، محاطا بجنود ربانية لا ترى بالعين المجردة عن الإيمان، فكانr كما قيل:
تخفيت من خصمي بظل جناحه فعيني ترى خصمي وليس يراني
لقد دخل الرسول r بيته وضرب عليه الكفرة الفجرة طوقا محكما، لأنه يهدد مصالحهم الظالمة، ولأنه يصادر شهواتهم الغاشمة، ولأنه لا يطاوعهم في نزواتهم العاتية، وهكذا أهل الباطل قديما وحديثا، يرون في حملة المبادئ ورواد الحق خصماء ألداء، لأن رواد الحق يقولون: لا، في وجه كل معصية، لا في وجه كل شهوة، لا في وجه كل نزوة، لأنهم لا يرضون بفتات الموائد، لأنهم لا يخافون في الله لومة لائم، ولا يرضون أن يكونوا من الدواجن الذين يقيسون الأشياء بمقياس البطن والمعدة، فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين…
أقول قولي ..

الخطبة الثانية
لقد طوق الكفار بيت النبي r، وتحروا متى يخرج ليفتكوا به، وهنا تأتي الشجاعة؛ ليست الشجاعةَ التي يبديها الناس اليوم من أجل الأراضي والمصالح والمناصب، ومن أجل الجيوب والبطون، بل إنها شجاعة يقدم فيها النبيr رأسه من أجل دين الله، من أجل لا إله إلا الله! وفي هذا الظرف الخطير، يأتي جبريل عليه السلام، فيخبر النبي r قائلا: الأعداء خارج البيت يريدون قتلك، وربك يأمرك بالهجرة، وحينئذ كلف r علي بن أبي طالب ليرد الودائع والأمانات التي بيده r إلى أهلها، ولينام في فراشه حتى يشوش على أجهزة الرصد عند الكفار، فيظنون أن النبي r لازال في فراشه لأنهم ينظرون من شقق الباب، وينتظرون خروجه r، فإذا ما نظروا رأوا عليا فيظنوه محمداr.
وهكذا خرج المصطفى r من البيت بلا سيف وهم بالسيوف، وخرج بلا سلاح وهم مدججون بالسلاح، لقد علمنا التاريخ أن الله عز وجل ينصر المسلم بمعجزات لا تخطر بباله، ولكن بعد أن يبرهن بالامتحان والابتلاء على إيمانه، والله تعالى يقول:﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ لقد أخذ الرسول r حفنة من التراب فألقى الله النوم على الكفار الذين طوقوا بيته فناموا، وسقطت سيوف الخزي والعار من أيديهم، فخرج r بعد أن نثر التراب والغبار على رؤوسهم ووجوههم، وهو يقرأ قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سُدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ ُسدًّا فَأَغْشَيْنَاهُ مْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ فكان القرآن له حرزا وحجابا والله تعالى يقول:﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا﴾.
أما بقية أحداث الهجرة فذلكم هو موضوع الخطبة في الجمعة المقبلة إن شاء الله
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهr