النوازل مفهومها والمخول بالإفتاء فيها
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فهذه دراسة مختصرة حول ما يعرف بالنازلة، ومن يخول الاجتهاد فيها.
أولاً: تعريف النازلة:
في اللغة: "النزول في الأصل هو انحطاط من علوٍ، يقال نزل عن دابته، ونزل في مكان كذا حط رحله فيه، .. ويعبر بالنازلة عن الشدة وجمعها نوازل[1]"، وأيضاً "النُّزُول الحلول وقد نَزَلَهم ونَزَل عليهم ونَزَل بهم يَنْزل نُزُولاً ومَنْزَلاً، .. والنازِلة الشديدة تنزِل بالقوم وجمعها النَّوازِل[2]".
في الاصطلاح: تعدد مدلول النازلة في الاصطلاح الفقهي، وأشهر معانيها:
"اجتهاد الرأي على الأصول عند عُدْم النصوص في حين نزول النازلة[3]"
أو: "المسألة الواقعة الجديدة التي تتطلب اجتهاداً، وبيان حكم[4]".
وعرفها د. مسفر بن علي القحطاني[5] بـ:"الوقائع الجديدة التي لم يسبق فيها نصٌّ أو اجتهاد.[6]"
ومن التعاريف الآنفة الذكر نستطيع تلمس أركان (النازلة) بـ: الوقوع أو توقع الوقوع القريب، والجِدّة: أي تكون جديدة غير مسبوقة، ونضيف: أو مهجورة غير معمول بها، وتظهر حاجة للعمل بها على وجه من الوجوه، وأخيراً أن تكون الواقعة المستجدة ملحة من وجهة النظر الشرعي.
فتخرج المسائل الافتراضية بعيدة الوقوع، أو التي سبق وقوعها والحكم فيها بحكم مبرم معمول به، والمسائل الخارجة عن نطاق الفتوى مثل الكوارث الطبيعية والتقلبات الاقتصادية والسياسية..[7].
وقد نحى بعض العلماء نحو تأصيل باب من الفقه يحمل اسم النوازل منهم الإمام بدر الدين الزركشي الشافعي ت(794هـ)[8]، فمن ذلك قوله:((الفقه أنواع، أحدها: معرفة أحكام الحوادث نصّاً واستنباطاً))[9].
أهمية البحث في النوازل:
الاجتهاد في النوازل ابتلاء وتشريف من الله تعالى للعلماء الصالحين الذين امتلكوا آلة الاجتهاد، إذ يمثل البحث في النوازل شهادة العلماء على عصرهم؛ فالعالم حين يجتهد لاحتواء المسائل المستجدة ضمن أحكام الدين الإسلامي، إنما يشهد على حكم الله في تلك المسائل، يقول الإمام الشافعي:" ومنه[10] ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد، كما ابتلى طاعتهم في غيره[11] مما فرض عليهم، يقول تعالى: ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ pمحمد: ٣١i[12]"
ومن جهة أخرى يمثل السعي نحو العلماء وسؤالهم عن حكم الله تعالى في مستجد المسائل دليل حياة الإسلام عند جمهور المسلمين، إذ إن الأمم المهزومة لا تبحث عن الأحكام عند علمائها، بل عند هازمها وغالبها، لظنها بأن اتباعه سفينة نجاتها، بينما تظهر الاستفتاءات أن جمهور الأمة لم يزل متعلقاً بدينه يرى نصره في العمل به.
يقول ابن خلدون ت(808هـ): ((المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه، ونحلته وسائر أحواله وعوائده، والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه، إما: لنظره بالكمال بما وفر عندها من تعظيمه، أو: لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي؛ إنما هو لكمال الغالب))[13].
كان هذا عرضاً للباعث على الاجتهاد والمقصد منه، فبذلك يستبين قيمة الشيء وعظمته، لأنّ ((الأمور بمقاصدها))، أي يبدو خطرها ومسيس الحاجة إليها حين تكون مقاصدها متصلة بضرورات الحياة، وما لا يمكن الاستغناء عنه.
وعدّ د. مسفر القحطاني خمس نقاط تبدو من خلالها أهمية البحث في النوازل:
((أولاً: التأكيد على صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان.
ثانياً: مراعاة حاجات ومصالح العباد.
ثالثاً: تفويت الفرصة على الآخذين بالقوانين الوضعية.
رابعاً: تجديد الفقه الإسلامي.
خامساً: ربط قوة الأمة الإسلامية في ضعفها بتقدم الاجتهاد أو تأخره)) [14].
المُخَوَّل في الاجتهاد بالنوازل:
قال الحسن البصري[15] ت(110هـ): ((كان الرجل إذا طلب العلم لم يلبث أن يُرى ذلك في بصره وتخشعه ولسانه ويده وصلاته وزهده))[16].
وقال محمد بن سيرين، ت (110هـ)[17]: (( إنّ هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ))[18] .
وطالما قلنا إن المسائل المتجددة الملحة تتطلب اجتهاداً لمعرفة حكمها، فهذا يعني حكماً أن القائم بالعملية الاجتهادية ينبغي أن تتوفر فيه آلة الاجتهاد علماً، والعدالة حالاً، وطالما قلنا: إن النوازل لا تكون إلا وقائع حصلت أو قريبة الحدوث، فهذا يعني أن عملية الاجتهاد تأخذ طريقها باتجاه أن تكون فتوىً، فإذاً لابد أن تتوفر أيضاً شروط المفتي في الباحث في النوازل المُبَيِّن لحكم الله تعالى فيها، وعملياً المؤدَّى واحدٌ؛ إذ اشترط الفقهاء في المفتي أن يكون مجتهداً.
وقد مر في كتب الفقهاء تقسيم الفقهاء إلى مراتب منهم من هو أهل للاجتهاد، ومنهم من دوره التقليد، وفي هذا الصدد أذكر قول ابن الهمام[19] رحمه الله:
((استقرَّ رأي الأصوليِّين على أنَّ المفتي هو المجتهد، وأمّا غير المجتهد ممّن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفتٍ ، والواجب عليه إذا سُئِل أن يذكر قول المجتهد كأبي حنيفة على جهة الحكاية.. وطريق نقلهِ كذلك عن المجتهد أحد أمرين إمّا أن يكون له فيه سندٌ إليه أو يأخذه من كتاب معروفٍ تداولته الأيدي ، نحو كتب محمّد بن الحسن ونحوها من التّصانيفِ المشهورة للمجتهدين لأنّه بمنزلة الخبر المتواتر عنهم أو المشهور))[20].
من هنا نعلم أن المفتي المستجمع للمواصفات - عند الحنفية - هو من كان في الحد الأدنى مجتهداً في المذهب.
وكذلك الأمر عند الشافعية؛ فبعد أن عدّ ابن الصلاح، شرائط المجتهد المطلق، وهي بمجملها شرائط عدالة، وضبط وإتقان لعلوم الشريعة بأصولها وفروعها، قال: ))والمجتهد المستقل (المطلق) هو الذي يستقل بإدراك الأحكام الشرعية ،من غير تقليد، وتقيد بمذهب أحد))[21].
فاستبان لنا أن الفروق بين الشافعية والحنفية - وكذلك سائر المذاهب - شكلية؛ إذ إن شروط الاجتهاد تكاد تكون مجمعاً عليها، كيف لا وهي من الضرورة بمكان؟!





[1]- الراغب الأصفهاني، غريب مفردات القرآن، مادة (نزل).

[2]- ابن منظور، لسان العرب، باب اللام، فصل النون، فالزاي، مادة (نزل).

[3]- ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله، ط3، 1418هـ، دار ابن الجوزي، الدمام، 2/844.

[4]- الجيزاني، محمد بن حسين، فقه النوازل، ط2، 1427هـ، دار ابن الجوزي، الدمام، 1/21.

[5]- الأستاذ بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن.

[6]- القحطاني، د. مسفر بن علي، منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة، ط1، 1424هـ - 2003م، دار الأندلس الخضراء، المملكة العربية السعودية، جدة، ص90.

[7]- للتوسع في مدلول النازلة، والمسائل التي تنطبق عليها انظر: الجيزاني، محمد، فقه النوازل، 1/22-25.

[8]- هو: بدر الدين أبو عبد الله محمد بن بهادر بن عبد الله المصري الزركشي الشافعي الإمام العلامة المصنف المحرر (745-794هـ) "من تصانيفه: تخريج أحاديث الرافعي في خمس مجلدات، والبحر في أصول الفقه في ثلاث مجلدات..".انظر: ابن حجر العسقلاني، إنباء الغمر، وفيات (794هـ)، 1/446، وللتوسع انظر: ابن العماد، شذرات الذهب، (وفيات 794هـ)، 6/335 .

[9]- الزركشي، بدر الدين، محمد بن بهادر، المنثور في القواعد، تحقيق د. تيسير فائق محمود، ط1، 1402ه - 1982م، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1/69.

[10]- أي بيان الله تعالى شرعه لعباده.

[11]- أي في نصوص الكتاب والسنة

[12]- الشافعي، أبو عبد الله، محمد بن إدريس، (150-204هـ)، الرسالة، تحقيق أحمد شاكر، طبعة 1309هـ، تصوير المكتبة العلمية، بيروت، الفقرة: 59، ص22.

[13]- ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدمة ابن خلدون، ط1، 1428هـ - 2007م، مؤسسة المعارف، الفصل الثالث والعشرون، ص166.

[14]- القحطاني، د. مسفر، منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة، ص114-120.

[15]- الحسن بن يسار، أبو سعيد، البصري (21 - 110 هـ) التابعي، إمام أهل البصرة، وحبر الأمة في زمنه. للتوسع في ترجمته انظر: ابن خلكان، وفيات الأعيان، والمزي، تهذيب الكمال،

[16]- الدارمي، سنن الدارمي، باب التوبيخ لمن يطلب العلم لغير الله.

[17]- محمد بن سيرين البصري، الأنصاري ولاءً، أبو بكر، (33 - 110 هـ) التابعي الشهير، إمام وقته في علوم الدين بالبصرة، للتوسع في ترجمته انظر: ابن خلكان، وفيات الأعيان، والمزي، تهذيب الكمال .

[18]- مسلم، مسلم بن الحجاج القشيري، أبو الحسين، صحيح مسلم، المقدمة:

[19] ابن الهمام الحنفي(790 - 861)هـ:كمال الدين محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود السيواسي ثم الإسكندري، الإمام العلامة في الفقه والأصول والنحو والتصريف ..عن شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي، وفيات (861)هـ، 7/298.

[20]- ابن الهمام، كمال الدين، محمد، شرح فتح القدير، دار الكتب العلمية، ط1، 1415هـ - 1995م، كتاب أدب القاضي، 7/238، وقد أكد هذا المعنى ابن عابدين في الحاشية ورفض أن يعتبر من ليس مجتهداً مفتياً، وللمزيد حول طبقات الفقهاء مجتهدين ومقلدين عند الحنفية انظر: ابن عابدين، الحاشية، 1/253-255.

[21] انظر: ابن الصلاح، أبو عمرو، عثمان بن عبد الرحمن، أدب المفتي والمستفتي، القول في شروط المفتي، القسم الأول، ص21- 26.