بسم الله الرحمن الرحيم
معنى ( لم يعملوا خيراً قط )
لا شك و لا ريب أن الحق الذي لا ينبغي المحيد عنه ـ أخي السلفي ـ أن الإيمان قول و عمل؛ قول القلب (و هو اعتقاده)، و قول اللسان، و عمل القلب و عمل الجوارح؛ مع اعتبار كل من القول و الاعتقاد و العمل أركاناً في الإيمان؛ لا يقوم الإيمان إلا بها جميعاً، أما تصور وجود إيمان شرعي صحيح في القلب مع تخلف جميع أعمال الجوارح فغير ممكن، بل و مخالف لإجماع السلف الصالح في حقيقة الإيمان.
و أما من جعل مسألة تارك عمل الجوارح بالكلية مسألة خلافية بين أهل السنة، فقوله مخالف للصواب بلا أدنى ارتياب، فالإجماع منقول عن السلف على كفر تارك جنس العمل، و انظر ـ لزاماً ـ رسالة ’’تنبيه الغافلين إلى إجماع المسلمين على أن ترك جنس العمل كفر بالدين‘‘
(( فهم [أي المرجئة] لم يفرقوا بين جنس العمل ـ و الذي يعد شرطاً في صحة الإيمان عند أهل السنة ـ و بين آحاد العمل و أفراده و الذي يعد تاركه غير مستكمل الإيمان ))، ’’الأجوبة السديدة‘‘ (6/318).
و قد يعترض أحدهم بالأحاديث التي جاء فيها: ( أن الله يخرج من النار أناساً لم يعملوا خيراً قط )، و هذه الأحاديث حق، غير أنها من المتشابه، و سبيل أهل السنة هو رد المتشابه إلى المحكم، فلا تعارض بين نصوص الكتاب و السنة، و لله الحمد.
و أنقل هنا بعض كلام أهل العلم في توجيه هذا الحديث، أسأل الله أن ينفع به من لم يزل عنده شك في المسألة؛ خاصة و كثير من طلبة العلم الذين لم ترسخ أقدامهم في فهم عقيدة السلف لا يزالون يثيرون الشبه حول إجماع السلف في هذا الباب، هدانا الله و إياهم إلى الحق.
قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله في كتاب ’’التوحيد‘‘ (2/732): (( هذه اللفظة: ( لم يعملوا خيراً قط ) من الجنس الذي تقوله العرب بنفي الاسم عن الشيء لنقصه عن الكمال و التمام، فمعنى هذه اللفظة على هذا الأصل: لم يعملوا خيراً قط على التمام و الكمال، لا على ما أُوجب عليه، و أُمر به )).
و قال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: (( معنى قوله: ( لم يعملوا خيراً قط ) أنهم ما عملوا أعمالاً صالحة، لكن الإيمان قد وقر في قلوبهم، فإما أن يكون هؤلاء قد ماتوا قبل التمكن من العمل؛ آمنوا ثم ماتوا قبل أن يتمكنوا من العمل، وحينئذ يصدق عليهم أنهم لم يعملوا خيراً قط.
وإما أن يكون هذا الحديث مقيداً بمثل الأحاديث الدالة على أن بعض الأعمال الصالحة تركها كفر كالصلاة مثلاً؛ فإن من لم يصل فهو كافر ولو زعم أنه مؤمن بالله ورسوله، والكافر لا تنفعه شفاعة الشافعين يوم القيامة، وهو خالد مخلد في النار أبد الآبدين، والعياذ بالله.
فالمهم أن هذا الحديث: إما أن يكون في قوم آمنوا ولم يتمكنوا من العمل فماتوا فور إيمانهم فما عملوا خيراً قط، وإما أن يكون هذا عاماً ولكنه يستثنى منه ما دلت النصوص الشرعية على أنه لابد أن يعمل كالصلاة؛ فمن لم يصل فهو كافر لا تنفعه الشفاعة ولا يخرج من النار ))، ’’فتاوى العقيدة‘‘ (رقم123، ص123) ط. دار المنهاج.
و سئل الشيخ العلامة صالح الفوزان حفظه الله أن هناك من يقول بأن ترك العمل الظاهر بالكلية لا يكفر و يستدل على هذا بحديث ( لم يعملوا خيرا قط )، و حديث صاحب البطاقة، فما هو الرد على هذه الشبه؟
فأجاب أطال الله في عمره بما نصه: (( هذه طريقة أهل الزيغ؛ يأخذون حديثاً واحداً و يتركون بقية الأحاديث. الراسخون في العلم يجمعون بين الأدلة، بين كلام الله و كلام رسوله و يفسرون بعضه ببعض، أما أنه يأخذ حديث البطاقة فقط، أو حديث ( لم يعملوا خيراً قط )، و يترك الأحاديث المقيدة لهذه الأحاديث المطلقة، فهذا ضلال و العياذ بالله، { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } [آل عمران:7].
المتشابه يرد إلى المحكم، فنحمل حديث صاحب البطاقة و صاحب الذي لم يعمل خيراً قط و يخرج من النار؛ على أنه لم يتمكن من العمل، نطق بـ ( لا إله إلا الله ) عن قلب و عن إيمان، ثم قتل أو مات في الحال و لم يتمكن من العمل، أو كان لم يبلغه شيء من هذا الدين لبعده عن بلاد المسلمين، و لكن قال لا اله إلا الله مخلصا و لم يعمل، لأنه لم يعرف العمل.
أما الذي ليس له عذر في ترك العمل، و تركه من غير عذر، فهذا ليس بمؤمن، بدليل الآيات و الأحاديث التي تدل على أن الإيمان لابد معه من العمل ))، ’’مذهب أهل السنة و الجماعة في الإيمان‘‘ (ص59-60).
و سئل الشيخ العلامة زيد بن هادي المدخلي حفظه الله: كيف توجه حديث: ( أن يخرج من النار أناساً لم يعملوا خيرا قط ) ؟
فأجاب نفع الله به: (( نوجهه أن معهم التوحيد، و أهل التوحيد لا يخلدون في النار و إن عذبوا فيها، بل مآلهم الجنة بشفاعة الشافعين كما جاء في حديث الشفاعة: ( شفعت الملائكة و شفع الأنبياء و شفع الصالحون و لم يبق إلا ارحم الراحمين )، فيخرج من النار قوماً قد امتحشوا فيوضعون في نهر الجنة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يدخلون الجنة و يقال هؤلاء عتقاء الرحمن؛ فالمهم أنه لا يبقى في النار أحد في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، فهذا هو الذي يحمل عليه الحديث في نظري، و الله أعلم ))، ’’العقد المنضد الجديد في الإجابة على مسائل الفقه و المناهج و التوحيد‘‘ (1/45).
ثم علَّق في الحاشية قائلاً (ص45-46): (( و وُفِّقت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء برئاسة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ و عضوية كل من الشيخ صالح بن فوزان الفوزان، و الشيخ بكر بن عبد الله أبي زيد، فقد قالوا ما نصه: ( و أما ما جاء في الحديث ( أن قوماً يدخلون الجنة لم يعملوا خيراً قط ) فليس عاماً لكل من ترك العمل و هو يقدر عليه، و إنما هو خاص بأولئك لعذر منعهم من العمل أو لغير ذلك من المعاني التي تلائم النصوص المحكمة و ما أجمع عليه السلف الصالح في هذا الباب ) اهـ، رقم الفتوى (21436) و تاريخ (8/4/1421هـ).
قلت ـ أي الشيخ زيد ـ: و كلامهم هذا فيه جمع بين نصوص الوعد و الوعيد كما فيه رد المشكل من النصوص إلى المبين، و الله أعلم )).
و قوله حفظه الله: (( معهم التوحيد، و أهل التوحيد لا يخلدون في النار و إن عذبوا فيها..))، يُفسِّره كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في ’’كشف الشبهات‘‘: (( لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب و اللسان و العمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون في مع إبليس و أمثالهما.. ))، انظر ’’شرح كشف الشبهات‘‘ (ص116) للعلامة الفوزان.
و قال أيضاً: (( لا خلاف بين الأمة أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب الذي هو العلم، و اللسان الذي هو القول، و العمل الذي هو تنفيذ الأوامر و [اجتناب] النواهي، فإن أخل بشيء من هذا، لم يكن الرجل مسلماً، فإن أقر بالتوحيد ولم يعمل به؛ فهو كافر معاند كفرعون وإبليس و أمثالهما..))، ’’الدرر السنية‘‘ (2/124).
و قال رحمه الله: (( فلابد في شهادة: ألا إله إلا الله، من اعتقاد بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان؛ فإن اختل نوع من هذه الأنواع، لم يكن الرجل مسلماً؛ فإذا كان الرجل مسلماً، وعاملاً بالأركان، ثم حدث منه قول، أو فعل، أو اعتقاد، يناقض ذلك، لم ينفعه قول: لا إله إلا الله؛ وأدلة ذلك في الكتاب والسنة، وكلام أئمة الإسلام، أكثر من أن تحصر ))، ’’الدرر السنية‘‘ (2/350).
و قال أيضاً ـ كما في ’’الدرر السنية‘‘ (10/87) ـ: (( اعلم رحمك الله: أن دين الله يكون على القلب بالاعتقاد، وبالحب والبغض، ويكون على اللسان بالنطق وترك النطق بالكفر، ويكون على الجوارح بفعل أركان الإسلام، وترك الأفعال التي تكفر؛ فإذا اختل واحدة من هذه الثلاث، كفر وارتد )).
و النقلين الأخيرين استفدتهما من أحد تعليقات الشيخ أسامة بن عطايا العتيبي على شبكة الانترنت، فجزاه الله خيراً، و أعظم له أجراً.
تم ما أردت نقله في هذا المقال، و الحمد لله رب العالمين.
فريد المرادي.
الجزائر في 20 محرم 1428هـ.