أصول الفقه
وتأثير علم الكلام والفلسفة عليه
علم الفقه في الاصطلاح الشرعي
هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية. أو هو مجموعة الأحكام الشرعية العملية المستفادة من أدلتها التفصيلية. "والأدلة ترجع إلى أربعة مصادر: القرآن والسنة والإجماع والقياس".
علم أصول الفقه في الاصطلاح الشرعي
هو العلم بالقواعد والبحوث التي يتوصل بها إلى استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية. وأما موضوع البحث في علم أصول الفقه فهو الدليل الشرعي الكلي من حيث ما يثبت به من الأحكام الكلية. فالأصوليّ يبحث في القياس وحجيته، والأعم وما يقيّده، والأمر وما يدل عليه، وهكذا. فالدليل الكلي هو النوع العام من الأدلة الذي تندرج فيه عدة جزئيات مثل الأمر والنهي والعام والمطلق والإجماع الصريح والإجماع السكوتي.
نشأة الفقه وأصوله
نشأ الفقه مع نشأة الإسلام، لأن الإسلام يحتوي على أحكام عملية وهذه الأحكام كانت في عصر النبي “مكونة من الأحكام التي وردت في القرآن أو ما صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم” (السنة القولية والفعلية..). ثم اجتهد الصحابة -رضوان الله عليهم- بعد رسول الله " وهذه الأحكام الفقهية في طورها الثاني. وأما في طورها الثالث فقد ضمّت القرآن والسنة وأقوال الصحابة ومن جاء بعدهم وحتى القرن الثالث. وكان أول ما دُوِّن في علم الفقه كتاب (الموطَّأ) للإمام مالك بن أنس رحمه الله ، حيث جمع فيه ما صحَّ عنده من الحديث وفتاوى الصحابة وتابعيهم، فكان كتابه هذا كتاب حديث وفقه، وهو أساس فقه الحجازيين. ثم دَوَّن يوسف -صاحب أبي حنيفة- كتباً في الفقه هي أساس فقه العراقيين وغيرهم.
أما علم أصول الفقه فلم ينشأ إلاَّ في القرن الثاني الهجري، وأسباب ذلك هو الفتوحات الإسلامية، ودخول كثير من العجم في الإسلام، وخوف العلماء على ضياع العربية، فاضطروا إلى وضع ضوابط وقواعد نحوية يُقتَدر بها على صحّة المنطق.
ولقد احتدم الجدال بين أهل الحديث وأهل الرأي وظهور أصحاب الأهواء والمذاهب إلى وضع ضوابط وبحوث في الأدلة الشرعية وشروط الاستدلال بها وكيفته. فمن هذه البحوث الاستدلالية وتلك الضوابط اللّغوية تكوَّن علم أصول الفقه.
قيل أنَّ مَن جمع هذه القواعد والمتفرقات هو أبو يوسف صاحب أبي حنيفة، لكن لم يصِل منه إلينا شيء. وأول من دوَّنَ في قواعد هذا العلم وبحوثه مجموعةً مستقلَّةً مرتبةً مؤيِّداً كلَّ ضابطٍ منها ووجهةَ النظرِ فيه كان الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله (توفي 204 هـ) في كتابه (الرسالة).
وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب خلاف في كتابه "علم أصول الفقه" أنَّ هناك طرقاً للتأليف فيه علم أصول الفقه. فبيَّنَ طريقة علماء الكلام وعلماء الطريقة الحنفية، فقال: "فأمَّا علماء الكلام فتمتاز طريقتهم بأنهم حققوا قواعد هذا العلم وبحوثه تحقيقاً منطقيَّا، وأثبتوا ما أيَّده البرهان ، لم يجعلوا وجهتهم انطباق هذه القواعد على ما استنبطه الأئمة المجتهدون من الأحكام ولا ربطها بتلك الفروع، فما أيَّده العقل وقام عليه البرهان فهو الأصل الشرعي سواء أوافق الفروعَ المذهبية أم خالفها. ومن هؤلاء أكثر الأصوليين من الشافعية والمالكية". ثم يستأنف قائلاً: "ومن أشهر الكتب الأصولية التي أُلِّفَتْ على هذه الطريقة كتابُ (المستصفى) للغزالي (ت 505 هـ)، و (الأحكام) لأبي الحسن الآمدي الشافعي (ت 631 هـ)، و (المنهاج) للبيضاوي (ت 685 هـ)".
ويتابع خلاف قائلاً: "وأمَّا علماء الحنفية فتمتاز طريقتهم بأنهم وضعوا القواعد والبحوث الأصولية التي رأوا أن أئمتهم بنوا عليها اجتهادهم، فهم لا يثبتون قواعد علمية تفرَّعت عنها أحكام أئمتهم، ورائدهم في تحقيق هذه القواعد الأحكامُ التي استنبطها أئمتهم لا مجرّد البرهان النظري. ولهذا أكثروا في كتبهم من ذكر الفروع وصاغوا في بعض الأحيان القواعد الأصولية على ما يتَّفق وهذه الفروع فكانت وجهتهم استمداد أصول فقه أئمتهم من فروعهم. وأشهر كتبهم (أصول) أبي زيد الدبوسي (ت 430 هـ)، و (أصول) فخر الدين البزدوي (ت 430 هـ)، وكتاب (المنار) للنسفي (ت 790 هـ) و [هو] مشروح بـ (مشكاة الأنوار). وقد سلك بعض العلماء في التأليف في هذا العلم طريقاً جامعاً بين الطريقتين السابقتين، فَعَنى بتحقيق القواعد الأصولية وإقامة البراهين عليها، وعَنى كذلك بتطبيقها على الفروع الفقهية وربطها بها. ومن أشهر الكتب الأصولية التي ألِّفَت على هذه الطريقة المزدوجة كتاب بديع النظام الجامع بين البزدوي والأحكام (أصول البزدوي وأحكام الآمدي) لمظفر الدين البغدادي الحنفي (ت 694 هـ)، وكتاب (التوضيح لصور الشريعة)، و(التحرير) للكمال بن الهمام، و(جمع الجوامع) لابن السبكي” اهـ.
"فعلماء الأصول من المذهبيين (كالأحناف مثلاً) أكثروا في كتبهم الأصولية من المسائل الفقهية وعنَوا فيها بالانتصار لمذهبهم، قرروا إلى جانب قواعد أصولية على ضوء ما حكم به إمامهم في هذه المسائل، فكان صنيعهم -مجتهدي المذهب- أشبه بصنيع من تأليفه الذي يعني بمعرفة أصول إمامه من الفروع التي نص على حكمها، لا صنيع المجتهد المطلق أو العالم الأصولي المنصف الذي يعني ويبحث القواعد الأصولية على ضوء أصول الشريعة والاستدلال عليها بالكتاب والسنة دون ميل إلى نصرة مذهب معين في الفروع الفقهية".
ولم يسلك أصحاب الطريقة الحنفية طريق الاستقراء كما فعل الشاطبي في (الموافقات) حيث حاول أن يكثر من المسائل الفقهية على أن يجمعها وحدة أصولية.
نماذج من علماء الكلام الذي ألَّفوا في الأصول، ومدى تأثرهم بعلم الكلام
1) أبو الحسن علي بن أبي علي محمد بن سالم التغلبي الآمدي (551-631 هـ)
ولد الآمدي عام 551 هـ بآمد وقدم بغداد وتفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ثم صار شافعياً، واشتغل بعلم الخلاف وتفنن بعلم النظر. وذكر ابن خلكان أنه لما انتقل إلى الشام اشتغل في العلوم العقلية، ثم انتقل إلى مصر ثم عاد إلى حماة وصنف بها التصانيف، ثم انتقل إلى دمشق ودرَّس بالعزيزية، ثم عزله الأشرف لاشتغاله بالمنطق وعلوم الفلسفة. وحطَّ عليه أبو محمد الذهبي وذكر أنه كان تاركاً للصلاة، وقد أنصفه ابن كثير.
يقول الشيخ عبد الرزاق عفيفي -رحمه الله- في تقديمه لكتاب (الإحكام في أصول الأحكام) للآمدي: "إنَّ الآمدي درس الفلسفة بأقسامها المختلفة وتوغَّل فيها وتشبَّعت بها روحه حتَّى ظهر أثر ذلك في تأليفه. ومن قرأ كتبَه وخاصَّةً ما ألَّفه في علم الكلام وأصول الفقه يتبيَّن له ما ذكرتُ، كما يتبيَّن له منها أنه كان قوي العارضة كثير الجدل واسع الخيال كثير التشقيقات في تفصيل المسائل والترديد والسير والتقسيم في الأدلَّة إلى درجة قد تنتهي بالقارئ أحياناً إلى الحيرة.
فمن كَرِهَ من الولاة والعلماء منطقَ اليونان والخوضَ في سائر علوم المنطق وخاصَّةً ما يتعلَّق منها بالإلهيَّات وكَرِهَ كثرةَ الجدل والاسترسال في الخيال والإكثار من تأويل النصوص و ذكر الاحتمالات خشية ما تُفضي إليه من الحيرة والمتاهات مع قلّة الجدوى منها تارة وعدم الفائدة أحياناً -كالأشرف والذهبي- كَرِهَ الآمدي ديناً وأنكر عليه ما رآه منكراً، وقد يجد في كتبه ومسلكه في تأليفها ما يؤيِّد رأيه فيه ويدعو إلى النَّيْل منه" اهـ.
2) محمد بن عمر الرازي (544-606 هـ)
وهو محمد بن عمر بن الحسن بن علي القرشي التيمي البكري، أبو المعالي، أبو عبد الله المعروف بالفخر الرازي، ويقال له ابن خطيب الرَّيِّ.
والرازي هو أحد الفقهاء الشافعية المشاهير المعروف بالتصانيف الكبار والصغار. له نحو 200 مصنف، وله التفسير الكبير. وكان الرازي معظماً عند ملوك خُوارزم وغيرهم، وبُنِيَت له مدارس كثيرة في بلاد شتّى.
ألَّف الرازي في الفقه والأصول والتفسير، وكان على طريقة المتكلِّمين. له مصنَّفات كثيرة في أصول الفقه، أشهرها كتاب (1)- (المحصول في أصول الفقه)، وعنده في العلم ذاته الكتب التالية:
(2)- إبطال القياس، يردّ فيه على من يبطل القياس.
(3)- إحكام الأحكام.
(4)- الجدل.
(5)- ردّ الجدل.
(6)- الطريقة في الجدل.
(7)- الطريقة العلائية في الخلاف (في أربعة مجلدات).
(8)- عشرة آلاف نكتة في الجدل.
(9)- المحصل في أصول الفقه.
(10)- المعالم في أصول الفقه.
(11)- منتخب المحصول.
(12)- النهاية البهائية في المباحث القياسية.
ولقد استمد الرازي مواد كتابه (المحصول) من الكتب التالية:
(1)- (المُستصفى) لأبي حامد الغزّالي.
(2)- (العهد) للقاضي عبد الجبَّار.
(3)- و(المتعمّد) لأبي الحسين البصري، وهو مختصر شرحه لكتاب (العهد).
(4)- و كتاب (البرهان) لإمام الحرمين الجويني.
فهذه الكتب الأربعة احتوت مسائل ومباحث علم الأصول على طريقة المتكلِّمين. ولقد كان الرازي يحفظ عن ظهر قلب ثنين من هذه الكتب هما: المعتمد والمستصفى.
ولقد قضى الرازي عمره في دراسة العلوم الفلسفية والكلامية فلم تنفعه شيئاً، وكما اعترف هو في وصيته حين قال:
وأرواحنا في وحشةٍ من جسومِنا* وحاصلُ دُنيانا أذىً وَوَبالُ
ولم نستفِدْ من بحثِنا طولَ عمرنا* سوى أن جَمَعنا فيه قيلَ وقالوا
"ثم يقول: ولقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتُها في القرآن العظيم، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية إلى الله تعالى، ويمنع عن التعمّق في إيراد المعارضات والمتناقضات، وما ذلك إلاَّ العلم بأنَّ العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك المضايق العميقة والمناهج الخفيّة".
دراسة شخصيات من المدرسة الحنفية
محفوظ بن أحمد بن الحسن، أبو الخطاب الكلوذاني (432-510 هـ)
هو أحد أئمة الحنابلة ومصنِّفيهم، سمع الكثير وتفقَّه بالقاضي أبي يَعلى، وقرأ الفرائض على الوني، ودرَّس وأفتى في الأصول والفروع، وله شعر حسن.. وكانت وفاته في جمادى الآخرة من هذه السنة (510 هـ) عن ثمان وسبعين سنة، وصُلِّي عليه بجامع القصر.. ودفن بالقرب من الإمام أحمد.
لأبي الخطاب الكلوذاني كتاب (التمهيد في أصول الفقه) كتبه على الطريقة الحنفية. وهنا نود أن نأخذ نبذة عن تاريخ الإسلام في فترة حياة الإمام الكلوذاني وفي فترة ما بينالعقد الثالث من القرن الخامس وحتى نهاية العقد الأول من القرن السادس.
من النظر إلى المرحلة التاريخية التي عاش فيها الكلوذاني نعلم أنه قد عاش في فترة ضعف الدولة العباسية وانحطاطها وتفككها. فلقد قسم المؤرخون فترة الحكم العباسي إلى عصرين متباينين، أولهما: عصر القوة، ويبدأ من وقت تأسيس الدولة العباسية 132 هـ وحتى سنة 232 هـ الذي انتهى بقتل الخليفة المتوكل، حيث كان الخلفاء هم الحكام الفعليين، لا الجيش ولا الجند. ثانيهما: ويمتد من سنة 232 هـ إلى فاجعة سقوط الخلافة العباسية ودخول التتار إلى بغداد سنة 656 هـ. وفي بداية هذا العصر أيضاً بدأت تخرج دول جديدة انفصلت عن عن جسم الخلافة العباسية حتى أصبحت دولاً كثيرة على أرض الإسلام، كالدولة العبيدية ودولة القرامطة والبويهية والأغالبة والأدراسة والحمدانيين. وقل الشيء نفسه في أرض الأندلس.
وخلال حياة الكلوذاني بدأت أول حملة صليبية على العالم الإسلامي (سنة 491هـ) والتي استطاعت أن تستولي على القدس عام 492هـ وتكوين أربع إمارات صليبية في بلاد الشام، وهي: الرها وأنطاكية وطرابلس والقدس.
وكما قدمنا من قبل أن الفقه الإسلامي قد مر بمراحل مختلفة حيث كان الصحابة رضي الله عنهم يعتمدون الكتاب والسنة المصدرين الرئيسين للأحكام الشرعية وكانوا يجتهدون رأيهم فيما لا يجدون فيه دليلاً. وكذلك فعل التابعون والفقهاء المجتهدون الذين كان لهم تلاميذ حملوا عنهم العلم ونشروه في الأمصار وكان هذا الدور دور الاجتهاد والقمة في تاريخ الفقه الإسلامي، إذ سرعان ما خبت روح الاجتهاد وحلّ بدلاً عنها روح التقليد.
ويبدأ الدور الجديد -دور التقليد- من أوائل القرن الرابع إلى سقوط الدولة العباسية في منتصف القرن السابع الهجري، ويطلق عليه الدور الخامس، وهي الفترة التي عاش الكلوذاني في وسطها (432-810هـ).
“ضعف العلماء في هذا الدور عن الاجتهاد، وثقلت هممهم عن الغوص في الكتاب والسنة، فعكفوا على مذاهب أئمتهم درساً وتأليفاً، ولم يسمحوا لأنفسهم بالاجتهاد مع طول باع بعضهم وقدرتهم عليه، فانصرف الناس عن مصادر الشريعة الأولى واشتغلوا بدراسة كلام الأئمة وفتاواهم.. لقد اختفت تلك الروح التي أملت على أبي حنيفة أن يقول في أسلافه من الفقهاء والمجتهدين: هم رجال ونحن رجال. وأملت على مالك قوله: ليس من أحد إلا يؤخذ من قوله ويُترَك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم" [1].
اقتصر عمل الفقهاء في هذا الدور على الآتي:
1) تخريج علل الأحكام التي استنبطها الأئمة. فكثير من الأحكام كانت غير معلَّلة، فاجتهدوا في بيان الأصول التي جرى عليها الأئمة في استنباطها، وخاصة الحنفية الذين تتبعوا فروع مذهبهم وبنوا عليها أصوله.
2) الترجيح بين الآراء المختلفة في المذهب وهو على نوعين:
الأول: ترجيح من جهة الرواية، والثاني: ترجيح من جهة الدراية.
أما من جهة الرواية: فإن النقل قد اختلف عن الأئمة في بعض المسائل، وقد نقل عنهم مذاهبهم عدد من تلاميذهم، وهذا الاختلاف في النقل ناشئ من خطأ بعض النقلة، أو من تردد الإمام نفسه في الرأي، فكان من عمل العلماء في هذا الدور الترجيح بين الروايات المتعارضة.
وأما النوع الثاني من الترجيح -وهو ترجيح الدراية- فيكون بين الروايات الثابتة عن الأئمة إذا اختلفت، أو بين ما قال الإمام وما قاله تلاميذه. وهذا إنما يكون من الفقهاء العالِمين بأصول أئمتهم ومناهجهم في الاستنباط، فيرجِّحون ما يتفق وتلك الأصول وما يكون أقرب إلى الكتاب والسنة، وقد يختلفون بسبب تفاوُت درجاتهم العلمية.
3) الانتصار للمذهب: قام كل فريق من العلماء بالانتصار لمذهبه، فنشط كل منهم لنشر مذهبه بين الناس، وألفوا الكتب في مناقب أئمتهم، وتحدّثوا عن سعة اطلاعهم وكمال زهدهم وشدة ورعهم وحسن استنباطهم ودقّة نظرهم وقوّة حجتهم وتمسكهم بالكتاب والسنة. وحملَ التعصبُ بعضَهم إلى النَّيْلِ من الأئمة المخالفين، حتى وصل الأمر إلى أن وضِعَت الأحاديث على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم في ذمّ أو مدح بعض الأئمة دون غيرهم، ونأتي هنا بمثال، يقول الوضِّاع: "يكون في أمِّتي رجل يقال له محمد بن إدريس، أضرّ على أمّتي من إبليس. ويكون رجل يقال له أبو حنيفة، هو سراج أمتي". وقالوا: "من قلَّد عالِماً لَقِيَ اللهِ سالِماً"، وهذا حديث لا أصل له. وتجاهل هؤلاء قوله صلى الله عليه وسلم المتواتر عنه: "من كذب علي متعمداً فليتبوَّأْ مقعده من النار".
كذلك قارن فقهاء ذلك الدور بين المسائل الخلافية واستدل كلٌّ منهم لرأي إمامه، وركب الصعاب والذلول في سبيل نصرته، فألّفوا كتب الخلاف وأطالوا في المناقشات والاستدلالات.
أهم أسباب انتشار التقليد
1) إغلاق باب الاجتهاد وإلزام العامة من الناس وطلاب العلم بمذهب معين بحجة سدّ باب الفوضى والفساد في الدين، وألزموا أنفسهم والناس بشيء لم يشرعه الله ولا رسوله للمسلمين، وإن كان سبب دعوتهم لسد باب الاجتهاد هو دعواهم بأن هناك من يفتي ولمَّا يبلغ درجة الاجتهاد، ولكن هذا لا يبرر تلك الفعلة التي ما زالت الأمة تعاني من نتائجها السيئة.
2) القضاء: أصبح الخلفاء والسلاطين يختارون قضاتهم من أصحاب مذهب معين يلتزمون الحكم به، بعد أن كانوا يختارونهم من العلماء الذين لهم القدرة على استنباط الأحكام من الكتاب والسنة، فمال العلماء لهذا السبب إلى الالتزام بمذهب معين وعدم الخروج عليه، وخاصة إذا وجد من الخلفاء أو السلاطين من يقصر ولاية القضاء على أتباع مذهب معين. وهذا الفعل قد ساعد -بلا شك- في تمكين المذاهب المعروفة في البلاد التي كان القضاء يحكم بها، كالدولة العباسية التي تبنت المذهب الحنفي، وكذلك الدولة العثمانية فعلت، أما الدولة الأيوبية فقد تبنت المذهب الشافعي. وفي المغرب كان مذهب مالك هو السائد خلال الدول التي تعاقبت عليه. ولا بد أن نذكر هنا أن المدارس المذهبية الأخرى كان لها قضاتها وعلماؤها في كل البلاد الإسلامية.
وأما المذاهب الباطنية فقد سيطرت على بقاع من العالم الإسلامي فترة من الزمن، كالشيعة والإسماعيليين، لكنها ذهبت واندثرت باندثار دولها التي كانت تتبناها. وهذه المذاهب الباطلة لا تتقاعص عن العمل في نشر مذهبها كلما سنحت لها الفرصة لذلك، وتاريخنا المعاصر يشهد بهذا.
3) تلاميذ الأئمة: حمل العلم عن الأئمة المجتهدين تلاميذُ نجباء وثق بهم الخلفاء والرعية، فنشروا مذاهب أئمتهم ودوَّنوها ودافعوا عنها، فكان من الصعب أن يخرج مجتهد جديد يدعو الناس إلى اتباعه، لأنهم يعدّونه بذلك خارجاً عن الجماعة، فيرى الفقيه الذي بلغ مرتبة الاجتهاد ألا يظهر بهذا المظهر، بل يكتفي بأن يكون مجتهدَ مذهبٍ معين يفتي على أصول إمامه فيما لا نص لإمامه فيه. فضعفت روح الاجتهاد وغنت روح التقليد. لكن هذا لم يمنع من ظهور أئمة مجتهدين خلال العصور الإسلامية، والذين عرفوا خطورة التقليد على الأمة فجاهدوا بألسنتهم وبأقلامهم وبأيديهم في سبيل عودة الأمة إلى ما كانت عليه من الاتباع والمجد والعزة. ولكن التيار كان شديداً وجارفاً، مما دعا أن تكون نتائج جهاد المجددين والمخلصين والعلماء العاملين محصورة إما في بلدهم أو في قطاع محدود في المجتمع الذي اتصلوا به وأثّروا فيه. ومن فضل الله على هذه الأمة أنه حفظ لنا كثيراً من علم هؤلاء الأئمة فكان نقطة انطلاق لصحوة أهل السنة والجماعة في كل عصر.
ومن سمات العصر العباسي الثاني هو شيوع المناظرات والجدل بسبب انتشار علم الكلام وشهرته بين العام والخاص، حتى ما كاد يفلت منه طبيب ولا فلكي ولا متعلم ولا فقيه ولا أصولي إلا وكان له نصيب منه ومن الفلسفة الدخيلة على ديننا الحنيف. فكانت تعقد تلك المناظرات بين العلماء للمناقشة والجدل، وتكون أحياناً بحضرة السلاطين والأمراء والوزراء وأهل العلم، وهذا أدّى مع الوقت إلى تقرّب كثير من العلماء من السلاطين فألّفوا لهم الكتب، كما فعل الآمدي مع الأشرف، وكما فعل الرازي مع أحد ملوك خراسان، وهذا الفعل أدى بدوره إلى التنافس والتحاسد بينهم على متاع من الدنيا قليل، إلا من عصم الله.
أما نتائج التقليد فكان منها التعصب الشديد للمذهب، والنظر على أنه هو الحق وأن ما سواه هو الباطل. وقد وصلت درجة التعصب للمذهب ببعضهم حتى قال: "كل آية أو حديث لا يتفق مع مذهبنا فهو إما منسوخ أو مؤوَّل". (الكرخي، من الأحناف).
وقد اشتد الخلاف والنزاع بين أتباع المذاهب، وأخذ كل واحد منهم يخطئ الآخر، فاستحكم العداء، ونبتت بذور الكراهية، وتبع الفقهاءَ في هذا عامة الناس حتى وصل الأمر ببعضهم إلى تحريم أو كراهية الصلاة وراء إمام يخالف المأموم في مذهبه. والمحاريب المتعددة في المسجد الواحد -كمسجد بني أمية الكبير في دمشق- أكبر دليل على هذا! وكتب التاريخ مليئة بمثل هذه الأحداث، من ذلك ما ذكره ابن كثير في تاريخه عن فتنة حدثت في دمشق بسبب الحافظ عبد الغني المقدسي، فقال: "وفيها -يعني سنة 595هـ- وقعت فتنة بدمشق بسبب الحافظ عبد الغني المقدسي، وذلك أنه كان يتكلم في مقصورة الحنابلة بالجامع الأموي، فذكر يوماً شيئاً عن العقائد، فاجتمع القاضي ابن الزكي وضياء الدين الخطيب الدولعي بالسلطان المعظم، والأمير صارم الدين برغش، فعقد له مجلساً فيما يتعلّق بمسألة الاستواء على العرش والنزول والحرف والصوت، فوافق نجم الدين الحنبلي بقية الفقهاء واستمر الحافظ على ما يقوله لم يرجع عنه، واجتمع بقية الفقهاء عليه، وألزموه بإلزامات شنيعة لم يلتزمها، حتى قال له الأمير برغش: كل هؤلاء على الضلالة وأنت وحدكَ على الحق؟ قال: نعم. فغضب الأمير وأمر بنفيه من البلد، فاستنظره ثلاثة أيام فأنظره، وأرسل برغشُ الأسارى من القلعة فكسروا منبر الحنابلة (!) وتعطّلت صلاة الظهر في محراب الحنابلة، وأخرجت الخزائن والصناديق التي كانت هناك، وجرت خبطة شديدة، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. وكان عقد المجلس يوم الإثنين الرابع والعشرين من ذي الحجة، فارتحل الحافظ عبد الغني إلى بعلبك ثم سار إلى مصر فآواه المحدِّثون، فحَنُّوا عليه وأكرموه" (البداية والنهاية 13/23).
ويذكر ياقوت الحموي في كتابه (معجم البلدان)من أخبار مدينة الري بعد خرابها عند مروره بها سنة 617 هـ، فيقول: “وكان أهل المدينة ثلاث طوائف: شافعية وهم الأقل، وحنفية وهم الأكثر، وشيعة وهم السواد الأعظم، فوقعت العصبية بين السنة والشيعة، فتظافر عليهم الحنفية والشافعين، وتطاولت بينهم الحروب حتى لم يتركوا من الشيعة من يُعرَف، فلما أفنوهم وقعت العصبية بين الحنفية والشافعية، ووقعت بينهم حروب، كان الظفر في جميعها للشافعية، هذا مع قلة عدد الشافعين. وكان أهل الرسْتاق -وهم حنفية- يجيئون إلى البلد بالسلاح الشاك، ويساعدون أهل نحلتهم، فلم يغنهم ذلك شيئاً حتى أفنوهم، ولم يبق من الشيعة والحنفية إلا من يخفي مذهبه، ووجدتُ دورهم كلها مبنية تحت الأرض، ودروبهم التي يسلك بها إلى دورهم في غاية الظلمة وصعوبة المسلك، ولولا ذلك لما بقي بها أحد" اهـ.
وقد وصل الخلاف الفقهي بين الفقهاء المذاهب في مسائل الصلاة والطلاق وغيرها إلى أن منع بعض الأحناف تزوّج الحنفي بشافعية، ثم صدرت فتوى من فقيه آخر ملقَّب بـ (مفتي الثقلين) فأجاز تزوج الحنفي بشافعية، وعلل ذلك بقوله: "تنزيلاً لها منزلة أهل الكتاب". ومفهوم ذلك أنه لا يجوز تزوج الشافعي بالحنفية كما لا يجوز تزوج الكتابي بمسلمة. وقد شنّ الأحناف على الشافعية حملات عنيفة خلال التاريخ. جاء في (مراقي الفلاح) عن ماء البئر النجس الذي وقع فيه حيوان ميت وانتفخ، قال: فإن عجِن بمائها يلقى للكلاب، أو يعلف به المواشي، وقال بعضهم: يباع لشافعي. يل وأكثر من ذلك، فقد جاء في ترجمة قاضي دمشق الحنفي محمد بن بدر البلاساغوني الذي توفي سنة 506 هـ وكان غالياً في مذهبه -كما يقول ابن كثير- قال البلاساغوني: لو كانت لي الولاية لأخذت من أصحاب الشافعي الجزية! ويخبرنا ابن كثير أن البلاساغوني كان مبغِضاً لأصحاب مالك أيضاً. وبالمقابل، لم يقصر الشافعية في الرد والحمل على الأحناف. وأشهر ما كتب عندهم في الحطّ على أبي حنيفة ومذهبه وآرائه، كتاب (مغيث الخلق في ترجيح المذهب الحق) لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وقد أتى في (مغيثه) هذا بطامات يطول ذكرها.
الخلاصة
سأذكر في هذه الخلاصة نتائج استعمال علم الكلام في مسائل الفقه وأصوله وما تبع ذلك من إغلاق باب الاجتهاد وإلزام الناس بالتقليد.
1) تحميل العقل البشري ما لا يطيق في استنباط القواعد الأصولية اعتماداً على المناهج الكلامية دون اعتبار للنصوص الشرعية والتي هي أصل الفقه وقواعده. "فما أيده العقل وقام عليه البرهان فهو الأصل الشرعي سواء أوافق الفروع المذهبية أن خالفها".
2) انتشار الجدل والكلام والفلسفة بين الفقهاء والأصوليين كسلاح يستعمل للهجوم أو الرد أو لتقعيد قواعد شرعية اعتمدوها هم.
3) مع كثرة الجدل قلّ العمل، ونتيجة لذلك توقفت -تقريباً- حركة الجهاد ونشر دين الله تعالى في الأرض، وغزا الأمةَ الإسلامية أعداؤها من أهل الكتاب والوثنيين.
4) نتيجة لإغلاق باب الاجتهاد وفرض التقليد حُجِبَت شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم كقدوة أمرنا الله بالاقتداء بها واتباع هديه صلى الله عليه وسلم. ومن ثَمَّ أصبحت شخصيته صلى الله عليه وسلم في تكايا الصوفية وزواياهم صنماً يعبد مع الله تعالى، حيث أضحت شخصية مقدسة تعشَق وتحب دون اقتداء أو اتباع.
5) مخالفة أمر الله تعالى في طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فكانت الفتن تعصف بالأمة من كل جهة.
6) تكاسل الناس عن طلب العلم وانحسار طلب علم الحديث الشريف وتفضيله على آراء الرجال، بعد أن كان هذا العلم سمة أهل الحق وصفة الطائفة المنصورة أصحاب القرون الثلاثة الأولى ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
7) انكباب أصحاب المذاهب على دراسة كتب وآراء الرجال، وبداية عصر الشرح والحواشي والاختصارات.
8) تراجع مستوى اللغة العربية عند العرب عامة، وعند العجم خاصة. فقد كفاهم المذهب عنت التعلم والتعليم، فانتشرت اللغات المحلية، وتعقدت طرق تعليم العربية.
9) انتشار البدع بين العامة والخاصة وذلك لجهلهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهج السلف الصالح في فهم الاتباع، حتى غدت السنن بدعاً والبدعُ سنناً!
10) ومن جراء تلقي الأمة في العصور المتأخرة لذلك التراث المتخم بالغث والسمين وبفقدان المنهجبة السليمة والموازين الصحيحة في التلقي والاتباع والفهم، فقد تشكلت في الأمة أجيال اختلطت عليها الأمور وانحطت شخصيتها وضاعت ثقتها بدينها وبنفسها، وكانت النتيجة هي هذه الفرقة التي نراها بين المسلمين اليوم.
إذن، لا بد من العودة إلى المنابع الصافية لهذا الدين، وأن يكون تلقي شباب هذه الأمة من تلك المنابع الصافية التي لا كدر فيها ولا عكر ليبنى لدينا جيل صحابي يثبت فعّأليته في الأرض ويجاهد في سبيل الله تعالى وينشر كلمته كما فعل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإخواننا المسلمين إلى كل خير وأن يهدينا إلى صراطه المستقيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عبد الرحمن كيلاني
1991م
الحواشي
[1] من مقدمة المحقق د. مفيد أبو عمشة لكتاب الكلوذاني (التمهيد في أصول الفقه).
[2] يبين الدكتور مفيد أبو عمشة في تقديمه لكتاب الكلوذاني أن القرن الخامس بلغ أوج نضوجه بالنسبة للفقه وأصوله، كما يذكر أسماء الأعلام الذين كتبوا في هذا المضمار، ويضيف قائلاً: “أن الكتابة في علم الأصول في القرن الخامس اتسمت بتحرير المسائل وبيان محل النزاع وتفريع الأقوال وبسط الخلاف بين المذاهب المختلفة وحشد الأدلة وشدة الجدل". اهـ هذا في وقت كانت الأمة ترزخ نحت حكم الباطنيين من بويهيين وحمدانيين وقرامطة وعبيديين، ومن ثم جاءتنا جحافل الصليبيين!!
مصادر البحث
-إحكام الأحكام للآمدي، تحقيق عبد الرزاق عفيفي.
-البداية والنهاية، ابن كثير الدمشقي، طبعة الريان.
-بدعة التعصب المذهبي، محمد عيد عباسي
-التمهيد في أصول الفقه، الكلوذاني، تحقيق الدكتور مفيد أبو عمشة.
-سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، الألباني، المجلد الثاني.
-علم أصول الفقه، عبد الوهاب خلاف.
-المحصول في أصول الفقه للرازي، تحقيق د. طه جابر العلواني