بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله وكفى, وصلاة ربي وسلامه على نبيه الذي اصطفى؛ محمدٍ وآله ومن اتبعه واقتفى, وبعد؛
تعلمُ –هُديتَ- أنه لا ينفكُّ الناس المخلصون عن البحث في الملل والنحل قاصدين معرفةَ الحق من الباطل, وتخليصَ الهدى من شوائب الضلال؛ حتى تنجليَ البراهين والحجج على صلاح سبيلٍ, وفساد آخرٍ؛ فيتَّبعُ قاصدون الحقَّ؛ الحقَّ, ويهلك الهالكون عن بينة من الأمر.
ومن ساحات العراك العلمي الفكري؛ ( الاعتقادي أو الفقهي أو السلوكي أو غيره )؛ أقول: من ساحات هذا العراك؛ ساحة العراك (السني) (الشيعي الإمامي), وهي من أقوى الساحات عراكا, وأشدها حِراكا.
ولا ريب عند عاقل (موافق أو مخالف) أن البحث في القرآن الكريم وحفظِه وسلامتِه من جهة, والقول بتحريفه من جهة أخرى؛ لهو من أهم المسائل التي يدندن حولها المدندنون؛ لتعلقها المباشرِ بأجلِّ كتاب وأهمِّه وأعظمِه على وجه الإطلاق؛ ألا وهو كتاب الله تعالى, وكلامه الذي تكلم به, وأوحاه إلى أشرف رسله وخلقه؛ محمدٍ –صلى الله عليه وسلم-.
ونحن قاصدون – بعون الله- في هذه الكُلَيْمات الخفيفات بيان استقرار عقيدة التحريف لكتاب الله تعالى عند علماء وأعمدة الشيعة الإمامية الاثني عشرية.. وليس مقصودنا في هذا إثارةَ المخالف, أو استعداءَه, أو غيرَ ذلك من المقاصد التي ( قدْ ) يؤمُّها البعض؛ لا.. فليس هذا المقصود إطلاقا, وإنما نُحاوِل تَطلَّبَ الحق من خلال تجلية الحقائق العلمية, وتوضيحها لكل من يقرأُ ويتدبرُ ويتأمَّلُ ويطلبُ الحق؛ فإن وُفِّقنا لذلك, وأصبنا في ادعاءنا؛ فنحمد لله –تعالى-, وما على العاقل المنصف, والمحرر المدقق, والمتأمِّل الغوَّاص إلا أن يشكر صديقه وقبيله على إسداءه الفائدة له, وتجلية الصراط السوي لمن يتبعه, وإن أخطأنا؛ فما على أعرج في ذاك من حرج؛ فـ(( كل ابن آدم خطاء وخير الخطَّائين التوَّابون ))-كما قال النبي المعصوم-صلى الله عليه وسلم-, وحينئذٍ لا ننتظر من قراءنا الأعزاء إلا تصويب الخطأ, وبذل النصح, وبيان الحق.
ومن الأمور التي يجدر التنبيه عليها قبل الشروع في المقصود هو أننا سنتكلم في المسألة المطروحة حسبَ مباني الطائفة الإمامية الاثني عشرية؛ بل إني إخالُك تحسب أن المتكلم من أفراد هذه الطائفة, وأهمية هذا عائدة إلى أنَّ الخطاب متوجه بالمقصد الأوَّل إلى أبناء هذه الطائفة لا إلى غيرهم.
الشروع في المقصود:
أخرج حجة إسلامهم الكليني في كتابه الجليل الكافي (ج 2 ص 27634) فقال:
((28- عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي جَاءَ بِهِ جَبْرَئِيلُ (ع) إِلَى مُحَمَّدٍ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ آيَةٍ )) انتهى.

قال عالمهم المحقق المحدِّث؛ العارف المقدّس؛ الماهر في المعقول والمنقول؛ الجامع للفروع والأصول؛ المولى محمد صالح المازندراني في ( شرحه على أصول الكافي ) (11/ 87 ) :
(( قوله: (إن القرآن الذي جاء به جبرئيل (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله) سبعة عشر ألف آية)
قيل: في كتاب سليم بن قيس الهلالي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد وفات رسول الله (صلى الله عليه وآله) لزم بيته وأقبل على القرآن يجمعه ويؤلفه فلم يخرج من بيته حتى جمعه كله وكتب على تنزيله الناسخ والمنسوخ منه والمحكم والمتشابه والوعد والوعيد وكان ثمانية عشر ألف آية. انتهى.
وقال صاحب إكمال الإكمال شارح مسلم نقلا عن الطبرسي: أن آي القرآن ستة آلاف وخمسمائة منها خمسة آلاف في التوحيد وبقيتها في الأحكام والقصص والمواعظ.
أقول (أي المازندراني) :
كان الزائد على ذلك مما في الحديث سقط بالتحريف, وإسقاط بعض القرآن وتحريفه ثبت من طرقنا بالتواتر معنى كما يظهر لمن تأمل في كتب الأحاديث من أولها إلى آخرها )).
قلت (أبو الأزهر):
هذا كلام فصيح مليح في إثبات قول عالمهم الإمام المحقق المحدِّث المازندراني بتواتر أخبار التحريف من إسقاط وتغيير للآيات!
وتأمَّل حجته التي أوصلته إلى القول بالتحريف؛ فليس التقليد ومتابعة الآباء من أوصله إلى هذا القول؛ بل الذي أوصله إليه تأمُّله في كتب الأحاديث من أولها إلى آخرها, والذي أوجب له القول بتواتر التحريف معنىً, والتواتر كما هو معلوم أمر يقيني لا ظني, ولا يجوز ردهُ عند من ثبت لديه؛ لأن الرادَّ لليقينيات مشكوك في عقله؛ فكيف إذا كان الحاكم بتواتر أخبار التحريف من الذين مهروا في المنقول والمعقول, وممن سبروا غور كتب الحديث, وشرحوا أصولها ؟!
فتدبَّرْ !
وما على كلِّ من يشكُّ في قوله اليقيني إلا أن يَعمل بنصيحته فيتأمَّل كتب الأحاديث من أولها إلى آخرها؛ حتى يصل إلى القول بتواتر التحريف معنى !

وقال إمامهم المازندراني في موضع آخر في كلام طويل له بعد خبر يدل على وجود مصحف مع الأئمة مغاير لما بأيدي الناس (شرح أصول الكافي) (11/82) :
((وفي هذا الخبر دلالة على وجود مصحف غيـــر هذا المشهور بين الناس وعلى وجود التحريف والتغيير والحذف فيما أنزله الله تعالى مـن القرآن على محمد -صلى الله عليه وآله-...)).
قلت (أبو الأزهر):
وهذا من أوضح الكلام العربي الفصيح في تقرير التحريف الصريح حيث أن التحريف والتغيير والحذف كان فيما أنزل الله تعالى مــن القرآن على محمد –صلى الله عليه وسلم-, ولا يمكن تأويل هذا الكلام بأيِّ تأويل ولو بعيد ومتعسف فالتحريف وقعَ:
1-في نفس القرآن وليس في غيره مما قد يلتبس به.
2-فيما أنزل الله على محمد –صلى الله عليه وسلم- من القرآن وليس في الأحاديث القدسية أو غيرها.
3-أن التحريف بعموم له أشكال متعددة مـن تغيير وحذف وتحريف بالمعنى الأخصِّ.
4-أن المصحف الذي بين أيدينا مغايـــر لما أنزل الله على محمد –صلى الله عليه وسلم- ومغايــر لما عند الأئمة .
وقد نسب المازندرانيَّ للقول بالتحريف أحدُ أعمدة المذهب الشيعي الإمامي؛ بل قل: صرَّح شيخ الإسلام والمسلمين, ومروج علوم الأنبياء والمرسلين، الثقة الجليل، والعالم النبيل، المتبحر الخبير، والمحدث الناقد البصير، ناشر الآثار، وجامع شمل الأخبار -على حد قول عباس القمِّي- صاحب الكتاب الأمِّ (مستدرك الوسائل) محمد حسين النوري الطبرسي في كتابه (فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب - المخطوط) ص25 فقال:
((المقدمة الثالثة في ذكر أقوال علمائنا -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين- في تغيير القرآن وعدمه:
فاعلم أن لهم في ذلك أقوالاً؛ مشهورها اثنان:
الأول: وقوع التغيير والنقصان فيه, وهو مذهب الشيخ الجليل علي بن إبراهيم القمي شيخ الكليني في تفسيره؛ صرَّح بذلك في أوله وملأ كتابه من أخباره مع التزامه في أوله بأن لا يذكر فيه إلا مشايخه وثقاته, ومذهب تلميذه ثقة الإسلام الكليني –رحمه الله- على ما نسبه إليه جماعة لنقله الأخبار الكثيرة الصريحة في هذا المعنى في كتاب الحجة خصوصاً في باب النكت والنتف من التنزيل, وفي الروضة من غير تعرض لردها أو تأويلها, واستظهر المحقق السيد محسن الكاظمي في شرح الكافية مذهبه من الباب الذي عقدهُ وسماه باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة عليهم السلام فإن الظاهر من طريقته أنه إنما يعقد الباب لما يرتضيه.
قلتُ: وهو كما ذكر؛ فإن مذاهب القدماء تعلم غالبا من عناوين أبوابهم...))

إلى أن قال ص31:
((وهو مذهب جمهور المحدثين الذين عثرنا على كلماتهم والمولى محمد صالح في مواضع من شرح الكافي, والمجلسيَّيْن..)).
والمجلسيَّان هما: الأب محمد تقي المجلسي , والابن محمد باقر المجلسي صاحب مرآة العقول وبحار الأنوار وغيرهما.
فلا عطر بعد عروسٍ !!

فهذا إمام علامة محدث كبير من أئمة الشيعة الإماميَّة يقرر تواتر تحريف القرآن ويعتقدهُ بأفصح العبارات, وأبين الجُمل المُحكمات يضاف إلى قائمة طويلة من علماء هذه الطائفة يسَّر الله إتمام الكشف عنهم بما لا مزيد عليه, والله الموفق لا معبود سواهُ.

ملاحظات:
1- لا يجوز نقض أو معارضة ما قرَّرناه بنقل أقوال بعض علماء الطائفة الاثني عشرية القائلين بسلامة القرآن من التحريف؛ لأن إلزامنا مبني على تقرير عالم كبير من علمائهم لتواتر القول بالتحريف الصريح عن المعصومين, وهو أمر لا يُعارض بأقوال العلماء غير المعصومين؛ حتى لو كانوا في العِدة مئاتٍ.
2- ولا يجوز -من باب أولى- نقض أو معارضة ما قرَّرناه بتبرئة علماءِ الاثني عشرية من القول بالتحريف من قبل ( بعض العلماء أو المنتسبين إلى العلم من أهل السنة )؛ لأن المقرَّر هنا قد كان على مباني الطائفة الإمامية وهو الذي يُعتبر حجة عليهم, وأقوال غيرهم ليست حجةً على أهل السنة فضلا أن تكون حجة عليهم؛هذا نقضا, وأما معارضةً فنقول: إن كان القلَّةُ قد برَّؤوا الطائفة الإمامية من القول بالتحريف؛ فإن الكثرة الكاثرة من علماء أهل السنة والجماعة الخلَّص؛ فضلا عن المنتسبين إلى السنة بعموم مثل الأشاعرة والمعتزلة وغيرهما؛ أقول: إن هؤلاء أشبه بالمجمعين على رمي الطائفة الإمامية بالقول بالتحريف عن قوس واحدة؛ حتى صارت نسبة القول بالتحريف للإمامية –عندهم- من خصائص هذه الطائفة التي تمتاز بها عن غيرها.
3- إننا قد سلكنا –فيما نحسب- طريق العلم والأدب في هذه المقالة؛ فمن كان رادّاً عليها؛ فلا أقلَّ من أن يعاملنا بالمثْل؛ (علماً وأدباً).
4- حرصنا غايةَ الحرص على التوضيح والتبيين والتجلية للمسائل؛ فمن كان الأمر عنده واضحاً بيِّنا جلياً؛ فهذا من فضل الله, ومن استبْهمَ شيئاً؛ فليستوضحْ, ونحن نبذل قُصارى جهدنا للإيضاح, وربي المستعان !

والله الهادي لأقوم سبيل, والحمد لله رب العالمين.