(10)-ومما استدل به على تفضيل الملائكة على البشر قوله تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } [النساء:172]
- وقد ثبت من طريق اللغة أن مثل هذا الكلام يدل على أن المعطوف أفضل من المعطوف عليه ، لأنه لا يجوز أن يقال. لن يستنكف الوزير أن يكون خادماً للملك ، ولا الشرطي أو الحارس ! وإنما يقال: لن يستنكف الشرطي أن يكون خادماً للملك ولا الوزير . ففي مثل هذا التركيب يترقى من الأدنى إلى الأعلى ، فإذا ثبت تفضيلهم على عيسى عليه السلام ثبت في حق غيره ، إذ لم يقل أحد إنهم أفضل من بعض الأنبياء دون بعض .
-أجاب الآخرون بأجوبة ، أحسنها ، أو من أحسنها: أنه لا نزاع في فضل قوة الملك وقدرته وشدته وعظم خلقه ، وفي العبودية خضوع وذل وانقياد ، وعيسى عليه السلام لا يستنكف عنها ولا من هو أقدر منه وأقوى وأعظم خلقاً ، ولا يلزم من مثل هذا التركيب الأفضلية المطلقة من كل وجه . (11)-ومنه قوله تعالى:: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام:50] . ومثل هذا يقال بمعنى: إني لو قلت ذلك لادعيت فوق منزلتي ، ولست ممن يدعي ذلك .
-أجاب الآخرون: إن الكفار كانوا قد قالوا: مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق . فأمر أن يقول لهم: إني بشر مثلكم أحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر من الاكتساب والأكل والشرب ، لست من الملائكة الذين لم يجعل الله لهم حاجة إلى الطعام والشراب ، فلا يلزم حينئذ الأفضلية المطلقة .
(12)- ومنه ما روى مسلم بإسناده، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير)) . ومعلوم أن قوة البشر لا تداني قوة الملك ولا تقاربها .
- قال الآخرون الظاهر أن المراد المؤمن من البشر- والله أعلم - فلا تدخل الملائكة في هذا العموم.
(13)-ومنه ما ثبت في (الصحيح) عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه عن ربه عز وجل ، قال: ((يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)) ، الحديث . وهذا نص في الأفضلية .
قال الآخرون: يحتمل أن يكون المراد خيراً منه للمذكور لا الخيرة المطلقة .
(14)-ومنه ما رواه إمام الأئمة محمد بن خزيمة ، بسنده في كتاب (التوحيد) عن أنس رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينا أنا جالس إذ جاء جبرائيل ، فوكز بين كتفي ، فقمت إلى شجرة مثل وكري الطير ، فقعد في إحداها ، وقعدت في الأخرى ، فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين ، وأنا أقلب بصري ، ولو شئت أن أمس السماء مسست ، فنظرت إلى جبرائيل كأنه حلس لاطىء، فعرفت فضل علمه بالله علي)) .
- قال الآخرون: في سنده مقال فلا نسلم الاحتجاج به إلا بعد ثبوته.
وحاصل الكلام: أن هذه المسألة من فضول المسائل . ولهذا لم يتعرض لها كثير من أهل الأصول، وتوقف أبو حنيفة رضي الله عنه في الجواب عنها ، كما تقدم . والله أعلم بالصواب.))
انتهى النقل من كتاب : ( شرح العقيدة الطحاوية )لابن أبي العز الحنفي / المجلد الواحد / من ص :301- إلى ص : 311.
***قلت :- وبعد ما سيق من تفصيل ، عُلِم أن المسألة فيها نزاع بين أهل العلم ، فالأولى بنا والأحرى تجنب مسائل النزاع ما استطعنا إلى ذلك سبيلا ، فما دامت السبيل ميسرة لاجتناب محل النزاع ، فالأجدر بنا التمسك بما لا خلاف ولا نزاع عليه مما جاء ت به النصوص الصحيحة الصريحة غير محتملة الدلالة ؛ اجتنابا للمؤاخذات والمسائل التي تُعد من المشتبهات ، فلا نعلم نزاعًا بين أهل العلم الأثبات على صحة وصف رسولنا الكريم بأنه :
سيد ولد آدم ، أو خير المرسلين ، أو سيد الورى والأنام ؛ لأن الأثر صح بلفظة بعضها ،ولم يخرج الباقي عن معناها.
-فليس أسلم لديننا من العمل بقول السلف : ((إذا صح الحديث فهو مذهبي))
هذا والله تعالى أعلى وأعلم.