فعلا يستحق القراءه


بقلم عبدالرحيم التميمي

عدنا من مكة المكرمة عن طريق البر، كنا ثلاثة يتقدمنا شيخناالحبيب، بعد أن قضينا هناك قرابة الأسبوع ...وحينما بقي على وصولنالمدينتنا قرابة مسيرة الساعة والنصف بالسيارة، وكانت الساعة قد جاوزتالواحدة بعد منتصف الليل... ... اقترح شيخنا المبيت في الطريق تطبيقاًللسنة، لنهي النبي عليه الصلاة والسلام أن يطرق الرجل بيته ليلاً....وكناقد أكملنا قرابة 48 ساعة لم ننم خلالها إلا ساعتين أو ثلاث....

وبعد نقاش استجبنا لرأي شيخنا وتوقفنا في إحدى المحطات،ودخلنا أحد مساجدها قبيل الفجر بساعتين تقريباً, فتوضأنا وصلى النشيط مناصلاة الوتر ثم نمنا، غفوت إغفاءة ثم أفقت .... وفتحت عيني مندهشاً.... منبهراً... لصوت شجي يتلو آيات بينات من سورة الكهف (كانت ليلة جمعة).. وإذا بشيخي الحبيب قد نصب قدميه في المحراب....فعجبت لشأنه...وادهشتنيهمته....وبقيت مستلقياً في مكاني أتأمله تالياً لكتابربه...راكعاً.....سا جداً ....مخبتاً..

وبعد مضي فترة، كنت أقرأ كتاباً فوقعت على حديث للرسولعليه الصلاة والسلام، يقول فيه: "ثلاثة يحبهم الله عز وجل، ويضحك إليهم،ويستبشر بهم: وذكر منهم! والذي يكون في سفر، وكان معه ركب؛ فسهروا ونصبوا،ثم هجعوا، فقام من السحر في سراء أو ضراء"، حديث حسن. لقد ظل هذا الموقفيهزني كلما تذكرته....والذي كان أبلغ في نفسي من كل خطبة سمعتها من منبرهأو في حلقة درسه...

كنا في السابق، نرى الشباب عندما يسلك طريق الاستقامةيتسابقون في ميادين العبادة، كان أحدهم عندما ينام عن صلاة الفجر أو يتخلفعن صلاة الجماعة لعذر طارئ يظل ساعات يشعر بالحزن والأسى، وما إن يمضيالشاب على استقامته سنوات، حتى يفتر ويضعف مع بقاء اهتمامه بطلبه للعلم أودعوته أو نشاطه التربوي أو تحصيله الفكري والعلمي، إذ إن الانغماس في لجةالمناظرات العلمية والنقاشات الفكرية والخلافات الدعوية دون زاد تعبدييفضي لجدب إيماني يعتري القلب فيدفع المرء للتعامل مع كافة القضاياالدعوية والعلمية كما يتعامل أي صاحب فكر دنيوي أو تجارة مادية مع معضلاتهومخالفيه.

قبيل تحمل إمام الدعاة والمجاهدين محمد صلى الله عليه وسلملمسؤولية الرسالة وتبليغ الوحي جاء الإعداد الرباني لتحمل هذه المسؤوليةالعظيمة، حيث قال ربنا: "يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقصمنه قليلاً أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً"، هذا الأمر الرباني بقيامالليل وتلاوة القرآن الكريم جاء تمهيداً لتحمل الهم الأكبر "إنا سنلقيعليك قولاً ثقيلاً".

وعلى هذا النسق، سار أئمة السلف والمصلحون، فها هو أبوالعباس ابن تيمية الذي أوتي من الذكاء المفرط والإطلاع الواسع على كافةالعلوم الشيء الكبير، حتى قال عنه الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله:

"
لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلاً العلوم كلها بين عينيه،يأخذ منها ما يريد ويدع ما يريد"، ومع هذا كله فلم يتكئ ابن تيمية علىعقليته الفذة ولا موسوعيته الهائلة فلقد كان يلبث في المسجد كل يوم بعدصلاة الفجر، فيذكر ربه إلى أن تطلع الشمس ثم يصلي ركعتين، ويقول "هذهغدوتي لو لم أتغدها سقطت قواي..".

فكيف يرغب الشاب المتدين في إصلاح نفسه أولاً ثم الإصلاحالشامل لمجتمعه وهو مقصر في فريضة من فرائض الدين كأداء صلاة الفجر، أو لايحافظ على سنة الوتر التي لم يدعها نبي الله صلى الله عليه وسلم في سفرولا حضر، وكيف يلين القلب القاسي مع هدير الشهوات المتدفق وصروف الحياةالمتتابعة ومشاغلها المتدافعة وأنت لا تغيثه بدقائق أو ساعة تخلو فيهابربك جلا وعلا تتذكر فيها ذنوبك وتعدد فيها نعم الله عليك وتتصور فيهاساعة فراقك لهذه الدنيا الفانية في ذلك القبر المظلم لا أنيس لك فيه إلاعملك الصالح، فتريق دمعة تغسل فيها أحقاد القلب وضغائن النفس وغبار البغيوالظلم لإخوانك من الأخيار والدعاة.

يخطئ الشاب والداعية خطأ فادحاً عندما يظن أن الاستماعللمواعظ أو قراءة كتب الوعظ أو الوقوف مع آيات الوعد والوعيد في كتاب اللهمرحلة تم تجاوزها بالنسبة له، وعندما يُذكر أمامه أسماء بعض الوعاظ أويسمع موعظة من أخيه يشيع هذا بابتسامة ساخرة، فليس على هذا سار الأنبياءوالمصلحون، وليس بهذا الطريق سيتمكن من الوصول لمبتغاه وقطع مفاوز الطريق،فالطريق طويل والفتن متتابعة وبلا زاد إيماني بين العبد وربه يصعب عليه أنيواصل السير وأن يحث الخطى في طريق الاستقامة والإصلاح.

قد يعمل الداعية كافة الأسباب الدنيوية لإنجاح مشروعهالشخصي أو الدعوي ثم يكون الفشل بسبب يخفى عليه ويعجز عن كشفه، وربما كانمرد ذلك لتقصير في الجانب العبادي والذي يعد سبباً شرعياً مباشراً فيتأييد الله لمشاريعه وخطواته ودراسته وتحصيله (وما يزال عبدي يتقرب إليبالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر بهويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه وإن استعاذنيلأعيذنه).

فمن أسباب مباركة الرب جل وعلا لخطواتك ومشاريعك، كثرة النوافل والاستنزادة من العبادة.

لقد وقف أعظم جيش عرفه التاريخ عند بئر بدر لخوض المعركةالفاصلة في يوم الفرقان ضد طغاة قريش وفي رجالات ذلك الجيش العظيم من ضاقتكتب السير وجفت محابر المؤرخين عند كتابة مناقبهم وفضائلهم، وفي الجهةالمقابلة، وقف أجناد الطاغوت لإعلاء كلمة الكفر والشرك والظلم، ومع ذلكعاد قائد الجيش بأبي هو وأمي عليه السلام إلى العريش في مركز قيادة الجيشغير معتمد على تاريخ أصحابه الجهادي، بل ليجأر إلى ربه بالتضرع والدعاءرافعاً يديه إلى ربه ((اللهم هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها جاءت تحادكوتكذب رسولك. اللهم فنصرك الذي وعدتني. اللهم أحنهم الغداة...اللهم اللهمإنك إن تهلك هذه ‏ ‏العصابة ‏ ‏من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدا))،فما زال يستغيث ربه عز وجل ‏ ‏ويدعوه حتى سقط رداؤه فأتاه ‏ ‏أبو بكر‏‏رضي الله عنه،‏ ‏فأخذ رداءه فرداه ثم التزمه من ورائه ثم قال يا نبيالله كفاك‏ ‏مناشدتك ‏ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك.

وفي معركة أتباع الأنبياء والرسل ضد خصومهم، لا ينبغيالاغترار بكثرة الاتباع وضجيج الجماهير والمكانة الاجتماعية والمنصبالوظيفي، بل وكثرة الانتاج العلمي والدعوي، فلا بد من زاد إيماني وغوثرباني يسقي شجرة الإخلاص في القلوب، ويصيّرها دوحة تظلل أقوالناوأفعالناِ، نسأل الله أن يعفو عنا، وأن يرزقنا الإخلاص والسداد (منقول).