هذه قواعد في العلم و العمل قررها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى في رسالة معارج الوصول(19/169-173).
الْخَيْرُ وَالسَّعَادَةُ وَالْكَمَالُ وَالصَّلَاحُ مُنْحَصِرٌ فِي نَوْعَيْنِ :
فِي الْعِلْمِ النَّافِعِ
وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ .
وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا بِأَفْضَلَ ذَلِكَ وَهُوَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ كَمَا قَالَ : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } ؟
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ }. فَذَكَرَ النَّوْعَيْنِ
قَالَ الْوَالِبِيَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ : أُولُوا الْقُوَّةِ فِي الْعِبَادَةِ .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيّ ِ وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَالسَّدِيَّ وقتادة وَأَبِي سِنَانٍ وَمُبَشِّرِ بْنِ عُبَيْدٍ نَحْوُ ذَلِكَ .
و الْأَبْصَارُ قَالَ : الْأَبْصَارُ الْفِقْهُ فِي الدِّينِ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : الْأَبْصَارُ الصَّوَابُ فِي الْحُكْمِ
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : الْبَصِيرَةُ بِدِينِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ .
وَعَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيّ ِ : { أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } قَالَ : أُولُوا الْقُوَّةِ فِي الْعِبَادَةِ وَالْبَصَرِ وَالْعِلْمِ بِأَمْرِ اللَّهِ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَرُوِيَ عَنْ قتادة قَالَ : أُعْطُوا قُوَّةً فِي الْعِبَادَةِ وَبَصَرًا فِي الدِّينِ .
وَجَمِيعُ حُكَمَاءِ الْأُمَمِ يُفَضِّلُونَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِثْلُ حُكَمَاءِ الْيُونَانِ وَالْهِنْدِ وَالْعَرَبِ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : ( الْحِكْمَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ )
فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ : هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَهُوَ الدِّينُ دِينُ الْإِسْلَامِ.
وَالْعِلْمُ وَالْهُدَى: هُوَ تَصْدِيقُ الرَّسُولِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
فَالْعِلْمُ النَّافِعُ : هُوَ الْإِيمَانُ.
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ : هُوَ الْإِسْلَامُ.
الْعِلْمُ النَّافِعُ : مِنْ عِلْمِ اللَّهِ .
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ : هُوَ الْعَمَلُ بِأَمْرِ اللَّهِ .
هَذَا تَصْدِيقُ الرَّسُولِ فِيمَا أَخْبَر.
وَهَذَا طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ .
وَضِدَّ الْأَوَّلِ : أَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمْ .وَضِدَّ الثَّانِي : أَنْ يُشْرِكَ بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا .
وَالْأَوَّلُ أَشْرَفُ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا }
وَجَمِيعُ الطَّوَائِفِ تُفَضِّلُ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ لَكِنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ هُوَ أَفْضَلُ مَا فِيهِمَا كَمَا قَالَ : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }.
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ تَارَةً ( سُورَةَ الْإِخْلَاصِ) و ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)
فَفِي ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) : عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ .
وَفِي ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) : صِفَةُ الرَّحْمَنِ وَأَنْ يُقَالَ فِيهِ وَيُخْبَرَ عَنْهُ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ وَهُوَ الْإِيمَانُ .
هَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ الْقَوْلِيُّ .
وَذَلِكَ هُوَ التَّوْحِيدُ الْعَمَلِيُّ .
وَكَانَ تَارَةً يَقْرَأُ فِيهِمَا فِي الْأُولَى بِقَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } .
وَفِي الثَّانِيَةِ : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } إلَى قَوْلِهِ { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } .
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
قَالَ : خَلَّتَانِ يُسْأَلُ عَنْهُمَا كُلُّ أَحَدٍ : مَاذَا كُنْت تَعْبُدُ ؟ وَمَاذَا أَجَبْت الْمُرْسَلِينَ ؟
فَالْأُولَى: تَحْقِيقُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
وَالثَّانِيَةُ : تَحْقِيقُ الشَّهَادَةِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ .
وَالصُّوفِيَّةُ بَنُو أَمْرَهُمْ عَلَى الْإِرَادَةِ .
وَلَا بُدَّ مِنْهَا لَكِنْ بِشَرْطِ : أَنْ تَكُونَ إرَادَةُ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ بِمَا أَمَرَ .
والمتكلمون بَنَوْا أَمْرَهُمْ عَلَى النَّظَرِ الْمُقْتَضِي لِلْعِلْمِ .
وَلَا بُدَّ مِنْهُ لَكِنْ بِشَرْطِ : أَنْ يَكُونَ عِلْمًا بِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّظَرُ فِي الْأَدِلَّةِ الَّتِي دَلَّ بِهَا الرَّسُولُ وَهِيَ آيَاتُ اللَّهِ وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا وَهَذَا .
وَمَنْ طَلَبَ عِلْمًا بِلَا إرَادَةٍ أَوْ إرَادَةً بِلَا عِلْمٍ فَهُوَ ضَالٌّ .
وَمَنْ طَلَبَ هَذَا وَهَذَا بِدُونِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ فِيهِمَا فَهُوَ ضَالّ.
بَلْ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : الدِّينُ وَالْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ .
وَأَهْلُ الْفِقْهِ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ .
وَأَهْلُ التَّصَوُّفِ وَالزُّهْدِ يَتَكَلَّمُونَ فِي قَصْدِ الْإِنْسَانِ وَإِرَادَتِهِ .
وَأَهْلُ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ وَأَهْلُ الْعَقَائِدِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِرَادَةِ .
وَيَقُولُونَ : الْعِبَادَةُ : لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْقَصْدِ وَالْقَصْدُ لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ الْمَعْبُودِ وَهَذَا صَحِيحٌ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمَعْبُودِ وَمَا يُعْبَدُ بِهِ فَالضَّالُّونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى وَأَشْبَاهِهِمْ لَهُمْ عِبَادَاتٌ وزهادات لَكِنْ لِغَيْرِ اللَّهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ .
وَإِنَّمَا الْقَصْدُ وَالْإِرَادَةُ النَّافِعَةُ : هُوَ إرَادَةُ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَهُوَ إنَّمَا يُعْبَدُ بِمَا شَرَعَ لَا بِالْبِدَعِ .
وَعَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ يَدُورُ دِينُ الْإِسْلَامِ: عَلَى أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَأَنْ يَعْبُدَ بِمَا شَرَعَ وَلَا يَعْبُدَ بِالْبِدَعِ .