الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض, وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والأخرين , وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله أكرم خلق الله أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين أما بعد:
فلا زالت جراح المعاصي تنخر في جسم الأمة نخرا , وسمومها تفتك بالناس فتكا, وإن مما يهز النفس وتبكي له العين تلك الخصلة الذميمة التي ارتمى في أحضانها من لبسوا لباس الكبر والعجب وامتطوا مطية السخرية والإحتقار فتسلطوا على عباد الله بألوان من الغمز واللمز, أطلقوا العنان لألسنتهم ولم يرقبوا الله في أقوالهم و{ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }(ق: ١٨) . لم يسلم من قبيح فعلتهم صغير ولا كبير ولا وزير ولا حقير لا يرضى فعلهم أحد ولا يرضون عن أحد , حذّر الله من فعلتهم فقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} (الحجرات: ١١) وأنذر النبي صلى الله عليه وسلم أمّته فقال: " كل المسلم علىالمسلم حرام ماله وعرضه ودمه حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم "(أخرجه مسلم) . خصلتهم هذه هي بخصال أهل الكفر أقرب منهم لخصال أهل الإيمان قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ}المطففين:( ٢٩ – ٣٠) . هانت على ألسنتهم أعراض المسلمين ولم يعلموا عظم الجرم الذي اقترفوه {وَتَحْسَبُونَه هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ }( النور:١5).{ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا }( الأحزاب: ٥٨) .
والمتأمل في حال هؤلاء يجد أنهم سلكوا أضربا شتى في السخرية بإخوانهم !!! فتراهم تارة يتهكمون من هيئتهم ومهنهم{ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ }( هود: ٢٧ ) , وتارة يغمزونهم في خِلقتهم التي خلقهم الله عليها والله حل وعلا يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين: ٤) . وتارة بالسب والشتم والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:" ليس المؤمن بالطعان ، ولا باللعان ، ولا بالفاحش ، ولا بالبذيء" (السلسلة الصحيحة برقم320) وتارة بالتنابز بالألقاب والله سبحانه يقول: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } (الحجرات: ١١)وتارة بالهمز واللمز والله جل ذكره يقول:{ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ }(الهمزة: ١) .
أفلا يتق الله هؤلاء الذين لم يرضوا قسمة الله في خلقه !! ألم يسمعوا قول الحق سبحانه:{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ }(الزخرف: ٣٢) .
هل أمنوا مكر الله بهم أن يبتليهم بمثل ماكانوا به يسخرون!! {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} (هود: ٣٨) ,{ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) }(المطففين: ٣٤ – ٣٦)
ألا يخشون على أنفسهم أن تصيبهم سهام الداعي " ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب " !!! .
أهانت عليهم حسناتهم أن يفقدوها أحوج ما يكونوا إليها فيقدموا على الله مفاليس !!!
ألا إن العبد يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا فتهوي به في نار جهنم سبعين خريفا فعن عائشة رضي الله عنها قالت :قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذاتعني قصيرة فقال لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته قالت وحكيت له إنسانا فقال ما أحب أني حكيت إنسانا وأن لي كذا وكذا" ( صحيح ) (صحيحالترمذي 306/2برقم 2636 - 2637 )قال القرطبي-رحمه الله- :" وبالجملة فينبغي ألا يجترئ أحد على الإستهزاء بمن يقتحمه بعينه إذا رآه رثّ الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق في محادثته، فلعله أخلص ضميرا وأنقى قلبا ممن هو على ضد صفته ، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله ، والإستهزاء بمن عظمه الله.
ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمرو بن شرحبيل: لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه لخشيت أصنع مثل الذي صنع.
وعن عبد الله بن مسعود: البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا. اه (تفسير القرطبي ج16 ص325)
فلزاما على العبد المسلم أن يحفظ حق أخيه المسلم عليه في ماله ونفسه ودمه وعرضه فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول "لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه أو قال لجاره ما يحب لنفسه " (رواه البخاري ومسلم).
وختاما رحم الله من كان مفتاحا للخير مغلاقا للشر , يصل إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه , ويكف أذاه عن الناس فيريحهم من شره , والله يكتب ماقدم العباد وآثارهم , ويجزي كلا بما قدم وأخر , والزمن زمن إمهال , والمغبون كل الغبن من فاته وقت الزرع وأدركه الحصاد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ـــــــــــ