قال الحارث المحاسبي رحمه الله:
« فالعجب يا إخواني رحمكم الله لقوم حيارى تاهت عقولهم عن طرقات الهدى ،
فذهبت تند محاضره في أودية الردى ،
تركوا ما قدمه الله عز وجل في وحيه ، وافترضه على خلقه ، وتعبدهم بطلبه ، وأمرهم بالنظر ، والعمل به ،
وأقبلوا على ما لم يجدوه في كتاب ناطق ،
ولا تقدمهم فيه سلف سابق ،
فشغلوا به ،
وفرغوا له آراءهم وجعلوه دينا يدعون إليه ، ويعادون من خالفهم عليه ،
أما علم الزائغون مفاتيح أبواب الكفر ، ومعالم أسباب الشرك ..
التكلف لما لم تحط الخلائق به علما به ، ولم يأت القرآن بتأويله ، ولا أباحت السنة النظر فيه ،
فتزيد الناقص الحقير ، والأحمق الصغير بقوته الضعيفة ، وعقله القصير أن يهجم على سر الله المحجوب ، ويتناول علمه بالغيوب يريدها لنفسه ،
فكل ما لم ينزل الوحي بذكره ، ولم تأت السنة بشرحه من مكنون علم الله ، ومخزون غيبه ، وخفي أقداره ، فليس للعباد أن يتكلفوا من علمه ما لا يعلمون ، ولا يتحملوا من نقله ما لا يطيقون ،
فإنه لن يعدو رجل كلف ذلك نظره ، وقلب فيه فكره ، أن يكون كالناظرين في عين الشمس ليعرف قدرها ، أو كالمرتمي في ظلمات البحور ليدرك قعرها ..
فليس يزداد على المضي في ذلك إلا بعدا ، ولا على دوام النظر في ذلك إلا تحيرا ..
فليقبل المؤمن العاقل ما يعود عليه نفعه ، ويترك إشغال نظره ، وإعمال فكره في محاولة الإحاطة بما لم يكلفه،
فيسلك سبيل العافية ، ويأخذ بالمندوحة الواسعة ، ويلزم الحجة الواضحة ،
فمن خالف ذلك وتجاوزه إلى الغمط بما أمر به ، والمخالفة إلى ما ينهى عنه ..
يقع والله في بحور المنازعة ، وأمواج المجادلة ، ويفتح على نفسه أبواب الكفر بربه ، والمخالفة لأمره ، والتعدي لحدوده .
والعجب لمن خلق من نطفة من ماء مهين ،
فإذا هو خصيم مبين ،
كيف لا يفكر في عجزه عن معرفة خلقه ،
أما يعلمون أن الله عز وجل قد أخذ عليكم ميثاق الكتاب أن لا تقولوا على الله إلا الحق ،
فسبحان الله أنى تؤفكون »
الإبانة الكبرى لابن بطة - (ج 1 / ص 356)
[ بتصرف ]