شكرا على الإفادة
من الغريب الذي لاحظته حول آية الميثاق (إن جازت التسمية) أن السلف أثبتوها حقيقة، ولم يذكر ابن جرير رحمه الله تعالى فيها إلا رأي السلف، ونقل اسحاق بن راهوية وغيره إجماع السلف على معناها الظاهر، ومع هذا مال ابن تيمية وابن القيم وابن أبي العز رحمهم الله تعالى إلى رأي المؤولين، وهذا على خلاف عادتهم في آيات الاعتقاد، وقد ذكر ابن أبي العز وجوها قوية في منع حمل هذه الآية على ظاهرها كما في شرحه على الطحاوية.
وفيما يلي: تخريج أحاديث الميثاق كما في السلسة الصحيحة للألباني رحمه الله تعالى مع تعليقاته عليها:
الحديث: “ أخذ الله تبارك و تعالى الميثاق من ظهر آدم بـ ( نعمان ) - يعني عرفة - فأخرجمن صلبه كل ذرية ذرأها , فنثرهم بين يديه كالذر , ثم كلمهم قبلا قال : *( ألست بربكم قالوا : بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل و كنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون )* “ .
قال الألباني في “ السلسلة الصحيحة “ 4 / 158 : أخرجه أحمد ( 1 / 272 ) و ابن جرير في “ التفسير “ ( 15338 ) و ابن أبي عاصم في “ السنة “ ( 17 / 1 ) و الحاكم ( 2 / 544 ) و البيهقي في “ الأسماء و الصفات “ ( ص 326 - 327 ) كلهم من طريق الحسين بن محمد المروذي حدثنا جرير بن حازم عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن # ابن عباس # عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فذكره . قال الحاكم : “ صحيح الإسناد “ . و وافقه الذهبي . قلت : و حقهما أن يقيداه بأنه على شرط مسلم , فإن كلثوم بن جبر من رجاله و سائرهم من رجال الشيخين . و تابعه وهب بن جرير حدثنا أبي به دون ذكر “ نعمان “ و قال أيضا : “ صحيح الإسناد , و قد احتج مسلم بكلثوم بن جبر “ . و وافقه الذهبي أيضا . و أما ابن كثير فتعقبه بقوله في “ التفسير “ ( 2 / 262 ) : “ هكذا قال , و قد رواه عبد الوارث عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فوقفه . و كذا رواه إسماعيل بن علية و وكيع عن ربيعة بن كلثوم بن جبر عن أبيه به , و كذا رواه عطاء بن السائب و حبيب بن أبي ثابت و علي بن بذيمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس , و كذا رواه العوفي و علي بن أبي طلحة عن ابن عباس , فهذا أكثر و أثبت . و الله أعلم “ . قلت : هو كما قال رحمه الله تعالى , و لكن ذلك لا يعني أن الحديث لا يصح مرفوعا و ذلك لأن الموقوف في حكم المرفوع , لسببين : الأول : أنه في تفسير القرآن , و ما كان كذلك فهو في حكم المرفوع , و لذلك اشترط الحاكم في كتابه “ المستدرك “ أن يخرج فيه التفاسير عن الصحابة كما ذكر ذلك فيه ( 1 / 55 ) . الآخر : أن له شواهد مرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جمع من الصحابة , و هم عمر بن الخطاب و عبد الله بن عمرو و أبو هريرة و أبو أمامة و هشام بن حكيم أو عبد الرحمن بن قتادة السلمي على خلاف عنهما - و معاوية بن أبي سفيان و أبو الدرداء و أبو موسى , و هي إن كان غالبها لا تخلوا أسانيدها من مقال , فإن بعضها يقوي بعضا , بل قال الشيخ صالح المقبلي في “ الأبحاث المسددة “ : “ و لا يبعد دعوى التواتر المعنوي في الأحاديث و الروايات في ذلك “ <1> , و لاسيما و قد تلقاها أو تلقى ما اتفقت عليه من إخراج الذرية من ظهر آدم و إشهادهم على أنفسهم , السلف الصالح من الصحابة و التابعين دون اختلاف بينهم , منهم عبد الله ابن عمرو و عبد الله بن مسعود , و ناس من الصحابة , و أبي بن كعب و سلمان الفارسي و محمد بن كعب و الضحاك بن مزاحم و الحسن البصري و قتادة و فاطمة بنت الحسين و أبو جعفر الباقر و غيرهم , و قد أخرج هذه الآثار الموقوفة و تلك الأحاديث المرفوعة الحافظ السيوطي في “ الدر المنثور “ ( 3 / 141 - 145 ) , و أخرج بعضها الشوكاني في “ فتح القدير “ ( 2 / 215 - 252 ) و من قبله الحافظ ابن كثير في “ تفسيره ( 2 / 261 - 164 ) و خرجت أنا حديث عمر في “ الضعيفة “ ( 3070 ) و صححته لغيره في “ تخريج شرح الطحاوية “ ( 266 ) و حديث أبي هريرة في تخريج السنة لابن أبي عاصم ( 204 و 205 - بتحقيقي ) و صححته أيضا هناك ( ص 267 ) و في الباب عن أبي الدرداء مرفوعا , و قد سبق برقم ( 49 ) و عن أنس , و سبق برقم ( 172 ) و هو متفق عليه , فهو أصحها و فيه : “ إن الله تعالى يقول للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا ? فيقول : نعم . فيقول الله : قد أردت منك أهون من ذلك , قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي “ . إذا عرف هذا فمن العجيب قول الحافظ ابن كثير عقب الأحاديث و الآثار التي سبقت الإشارة إلى أنه أخرجها : “ فهذه الأحاديث دالة على أن الله عز وجل استخرج ذرية آدم من صلبه , و ميز بين أهل الجنة و أهل النار , و أما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس , و في حديث عبد الله بن عمرو , و قد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان كما تقدم “ . قلت : و ليس الأمر كما نفى , بل الإشهاد وارد في كثير من تلك الأحاديث :الأول : حديث أنس هذا , ففيه كما رأيت قول الله تعالى : “ قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا “ . قال الحافظ ابن حجر في “ فتح الباري “ ( 6 / 284 ) : “ فيه إشارة إلى قوله تعالى : *( و إذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم )* الآية . قلت : و لفظ حديث ابن عمرو الذي أعله ابن كثير بالوقف إنما هو : أخذ من ظهره . ..“ , فأي فرق بينه و بين لفظ حديث أنس الصحيح ? ! الثاني : حديث عمر بلفظ : ( ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية ... “ الثالث : حديث أبي هريرة الصحيح : “ ... مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ... “ . الرابع : حديث هشام بن حكيم : “ إن الله قد أخذ ذرية آدم من ظهورهم , ثم أشهدهم على أنفسهم ... “ الخامس : حديث أبي أمامة : “ لما خلق الله الخلق و قضى القضية , أخذ أهل اليمين بيمينه , و أهل الشمال بشماله , فقال : ... ألست بربكم , قالوا : بلى ... “ . ففي ذلك رد على قول ابن القيم أيضا في كتاب “ الروح “ ( ص 161 ) بعد أن سرد طائفة من الأحاديث المتقدمة : “ و أما مخاطبتهم و استنطاقهم و إقرارهم له بالربوبية و شهادتهم على أنفسهم بالعبودية - فمن قال من السلف فإنما هو بناء منه على فهم الآية , و الآية لم تدل على هذا بل دلت على خلافه “ . و قد أفاض جدا في تفسير الآية و تأويلها تأويلا ينافي ظاهرها بل و يعطل دلالتها أشبه ما يكون بصنيع المعطلة لآيات و أحاديث الصفات حين يتأولونها , و هذا خلاف مذهب ابن القيم رحمه الله الذي تعلمناه منه و من شيخه ابن تيمية , فلا أدري لماذا خرج عنه هنا لاسيما و قد نقل ( ص 163 ) عن ابن الأنباري أنه قال : “ مذهب أهل الحديث و كبراء أهل العلم في هذه الآية أن الله أخرج ذرية آدم من صلبه و صلب أولاده و هم في صور الذر فأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم و أنهم مصنوعون , فاعترفوا بذلك و قبلوا , و ذلك بعد أن ركب فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم كما جعل للجبل عقلا حين خوطب , و كما فعل ذلك للبعير لما سجد , و النخلة حتى سمعت و انقادت حين دعيت “ . كما نقل أيضا عن إسحاق بن راهويه : “ و أجمع أهل العلم أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد , و أنه استنطقهم و أشهدهم “ . قلت : و في كلام ابن الأنباري إشارة لطيفة إلى طريقة الجمع بين الآية و الحديث و هو قوله : “ إن الله أخرج ذرية آدم من صلبه و أصلاب أولاده “ . و إليه ذهب الفخر الرازي في “ تفسيره “ ( 4 / 323 ) و أيده العلامة ملا على القاري في “ مرقاة المفاتيح “ ( 1 / 140 - 141 ) و قال عقب كلام الفخر : “ قال بعض المحققين : إن بني آدم من ظهره , فكل ما أخرج من ظهورهم فيما لا يزال إلى يوم القيامة هم الذين أخرجهم الله تعالى في الأزل من صلب آدم , و أخذ منهم الميثاق الأزلي ليعرف منه أن النسل المخرج فيما لا يزال من أصلاب بنيه هو المخرج في الأزل من صلبه , و أخذ منهم الميثاق الأول , و هو المقالي الأزلي , كما أخذ منهم فيما لا يزال بالتدريج حين أخرجوا الميثاق الثاني , و هو الحالي الإنزالي . و الحاصل أن الله تعالى لما كان له ميثاقان مع بني آدم أحدهما تهتدي إليه العقول من نصب الأدلة الحاملة على الاعتراف الحالي , و ثانيهما المقالي الذي لا يهتدي إليه العقل , بل يتوقف على توقيف واقف على أحوال العباد من الأزل إلى الأبد , كالأنبياء عليهم الصلاة و السلام , أراد عليه الصلاة و السلام أن يعلم الأمة و يخبرهم أن وراء الميثاق الذي يهتدون إليه بعقولهم ميثاقا آخر أزليا فقال ( ما ) قال من مسح ظهر آدم في الأزل و إخراج ذريته و أخذه الميثاق عليهم و بهذا يزول كثير من الإشكالات , فتأمل فيها حق التأمل “ . و جملة القول أن الحديث صحيح , بل هو متواتر المعنى كما سبق , و أنه لا تعارض بينه و بين آية أخذ الميثاق , فالواجب ضمه إليها , و أخذ الحقيقة من مجموعها و قد تجلت لك إن شاء الله مما نقلته لك من كلام العلماء , و بذلك ننجو من مشكلتين بل مفسدتين كبيرتين : الأولى : رد الحديث بزعم معارضته للآية . و الأخرى : تأويلها تأويلا يبطل معناها , أشبه ما يكون بتأويل المبتدعة و المعتزلة . كيف لا و هم أنفسهم الذين أنكروا حقيقة الأخذ و الإشهاد و القول المذكور فيها بدعوى أنها خرجت مخرج التمثيل ! و قد عز علي كثيرا أن يتبعهم في ذلك مثل ابن القيم و ابن كثير , خلافا للمعهود منهم من الرد على المبتدعة ما هو هو دون ذلك من التأويل . و العصمة لله وحده . ثم إنه ليلوح لي أننا و إن كنا لا نتذكر جميعا ذلك الميثاق الرباني و قد بين العلماء سبب ذلك - فإن الفطرة التي فطر الله الناس عليها , و التي تشهد فعلا بأن الله هو الرب وحده لا شريك له , إنما هي أثر ذلك الميثاق , و كأن الحسن البصري رحمه الله أشار إلى ذلك حين روى عن الأسود بن سريع مرفوعا : “ ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة ... “ الحديث , قال الحسن عقبه : “ و لقد قال الله ذلك في كتابه : *( و إذ أخذ ربك ... )* الآية “ . أخرجه ابن جرير ( 15353 ) , و يؤيده أن الحسن من القائلين بأخذ الميثاق الوارد في الأحاديث , كما سبقت الإشارة إلى ذلك , و عليه فلا يصح أن يقال : إن الحسن البصري مع الخلف القائلين بأن المراد بالإشهاد المذكور في الآية إنما هو فطرهم على التوحيد , كما صنع ابن كثير . و الله أعلم . -----------------------------------------------------------
[1] نقلته من “ فتح البيان “ لصديق حسن خان “ ( 3 / 406 ) . اهـ .