( مُؤرِّخ المملكةِ المغربية : عبدالوهابِ ابنِ منصور في سُطور )
بقلم : نوَّاف بن محمَّد آل رشيد
فقدَ الباحِثُون و المؤرخونَ قبلَ أيامٍ مُؤرخاً من المشرقِ وهو العلاَّمة القاضي إسماعيل الأكوع ، وهاهمُ اليومَ يفقدون مُؤرخاً من المغربِ خدمَ التاريخَ والأدب وعلم الرجال، وأثرى المكتبة العربية بكثيرٍ من إسهاماته اليافعة ، وتحقيقاتهِ اليانعة ، ومؤلفاتهِ القيمةِ النافعة .
وهو المؤرخ الكبير والمحقق النحرير والعارف البصير في التراثِ الإسلامي أُستاذنا العلاَّمةُ المؤرخُ الأديب معالي الدكتور عبدالوهاب بن منصور – رحمةُ الله تعالى عليه –
يرجعُ نسبه إلى المولى سُليمان بن المولى عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه - .
وُلدَ بمدينةِ فاس في اليوم السابع من ربيعٍ الأول سنةَ 1339 هـ الموافق السابع عشر من نوفمبر من عام 1920م ، ودرسَ مراحلَ التعليمِ بها ، وتخرج في جامعةِ القرويين ؛ ثمَّ عُين أُستاذاً للتعليمِ الثانوي بالرباطِ وسلا ، وفي عام 1957 م عُين نائباً لمديرِ الإذاعةِ الوطنية ، وفي نفسِ العام عُين رئيساً للقسمِ السياسي بالديوانِ الملكي ، وفي عام 1963م عينه الملك الحسن الثاني مُؤرخاً للملكةِ المغربية ورئيساً للديوانِ الملكي ، وتقلَّد بعدها عِدةَ مناصبٍ إلى أن تمَّ تعيينه مُديراً للوثائق الملكية بالمملكةِ المغربية .
عُرف -رحمه الله - باهتمامهِ الشديد بالتاريخِ والأدبِ والتراجمِ وتدوين الرحلات ، وكتبَ كثيراً من المقالاتِ في الصُحفِ ، وحققَّ عدداً كبيراً من كتبِ التراث .
وكنتُ قد تشرفتُ وسعدتُ بزيارتهِ صباحَ يومِ الثلاثاءِ الرابع والعشرين من شهرِ جُمادى الثانية من عام ألفٍ وأربعمائةِ وثمانٍ وعشرين بمكتبهِ بمدينةِ الرباط ورحبَّ بي وأكرمني وقد ذكرتُهُ بمقامتي المغربيَّةِ فقلتُ : (ثمَّ زُرْتُ الشَيخَ ابنَ مَنصور، فـَاسْتقبلـَني وَمُحَيـّاهُ طافِحٌ بالابتِهاجِ وَالسُرور، وَأهْداني مِن مُؤلـَّفاتهِ النافِعة، وَتـَحقيقاتِهِ اليانِعَة، جُمْلة ً مِنَ الآثارِ وَالأعْلاق ِ النـَفيسَةِ البَديعَة، المُزدانـَةِ بالفـُصولِ الضافيةِ عَن أحْوالِ أعْلامِ التأريخِ وَالشريعَة، فـَممّا أهْداني، وَبـِهِ حَباني فـَأحْرَزَ شُكري لـَهُ وَامتِناني، كِتابُهُ «أعْلام المَغرب» وَهوَ سِفـْرٌ قـَيِّمٌ شـَائِقٌ مُمْتِعٌ مُطرب، عَن فَـَضلِهِ الجَمِّ وَسَعَةِ اطـّلاعِهِ مُعْرب، حَوى كثيرا ً مِن التراجُم، لأهْلِ العِلمِ وَالأدَبِ مِمَّن ليْسَ لـَهُم في مِضْمارِ الفـَضيلـَةِ مُزاحِم، وَكانَ قدْ شـَغـَلَ رئاسَة َ الديوان، وَجَالَ في الكثيرِ مِنَ البُلدان، وَهُوَ الآنَ مُؤرِّخُ المَمْلكةِ المُشارُ إليهِ بالبَنان، وَقدْ طابَقَ الخـَبَرُ مِنهُ العـِـيان،
وَمَن وَعى التأريخَ في صَدْرهِ ***أضَافَ أعْماراً إلى عُمْرهِ) . أ .هـ

وسألتُه عن العلاَّمةِ خير الدين الزركلي فقال لي : كانَ سفيراً بالمغربِ من قبلِ المملكةِ العربيةِ السعودية ، وكانَ يطلبُ من الملكِ الحسن الثاني أن يُكلمَ الملكَ فيصل بأن يُمدد لهُ بِحجةِ أنَّه يبحث عن الكتب ويكتب عن عُلماءِ المغرب ، وهذا من أجلِ مصلحةِ المغرب . ثمَّ عقَّب ابن منصورٍ قائلاً : بل من أجلِ مصلحتهِ ، فأمرني الملك أن أكتب حولَ تمديدِ عمله .
وحدثني عن المحدث الشيخ عبد الفتاح أبو غُدة فقال : التقيتُ بهِ في المغرب معَ الملك الحسن الثاني ، فقال الشيخ أبو غدة للملك : لو أمرتم بطبعِ كتابِ «التمهيدِ» لابنِ عبدِ البر . قال ابنُ منصور : فأمرَ الملِكُ بطعِ الكتابِ فطُبِعَ .

مُؤلفاته وتحقيقاته :
لم تشغله السياسة والأعمال الإدارية بالدولة عن التأليفِ والتحقيقِ والتدريسِ وخدمةِ التراث المغربي ، فقد تركَ لنا تراثاً ضخماً.
فمن مؤلفاته :
( تعقيباتٌ حولَ السياسة الاستعمارية بشمالِ أفريقيا ) ، و ( الحسنُ الثاني .. حياته .. جهاده ..) ، و (كشَّاف الأسر المغربية ) ، و (حفريات صحراوية مغربية ) ، و ( أعلامُ المغرب العربي ) ، وهو أشهر كُتبه طُبعَ منه إلى الآن ثمان مُجلداتٍ ، وثمان أخرى جاهزةٌ للطباعةِ ، و ( المنتخب النفيس من شعر أبي عبدالله بن خميس ) ، و ( قبائل المغرب ) ، و ( الرحلة الملكية إلى المملكة المتحدة البريطانية ) ، و ( مع جلالة الملك الحسن الثاني إلى فاس) ، و ( مع جلالة الملك الحسن الثاني إلى باريس ) . وغيرها كثير .
تحقيقاته :
( البدائع ) لمحمد بن الطيب العلمي طُبعَ بسلا بمطبعةِ الثقافةِ سنة 1357 هـ = 1938 أي كان عمره آنذاك : 18 سنة ، و (أخبار المهدي بن تمروت لأبي بكرٍ الصنهاجي ) ، و (المقتبس من كتاب الأنساب في معرفة الأصحاب لأبي بكرٍ الصنهاجي ) ، و (الإعلامُ بمن حلَّ بمراكش وأغمات من الأعلام ) للعباس بن إبراهيم ، وهو في عشر مجلدات ، و ( رسائل أبي القاسم ) ، و ( بلغة الأمنية ومقصد اللبيب فيمن كان بسبتة وفي الدولة المرينية من مُدرسٍ وأُستاذٍ وطبيب ) ، و ( الروض الهتون في أخبار مكناسة الزيتون ) ، و ( القرطاس لابن أبي زرع ) ، و ( الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية لابن أبي زرع ) ، و ( ديوان الأمير عبدالقادر ) ، و ( روضة الآس العاطرة الأنفاس في ذكرِ من لقيته من أعلام الحاضرتين مُراكش وفاس ) ، و ( روضة النسرين في دولة بني نسرين ) ، و ( اختصارُ الأخبار عمَّا كان بثغرِ سبتة من سنن الآثار ) لمحمد بن القاسم الأنصاري ، وكانَ هذا الكتابُ في عداد المفقود وعثرَ عليه ابن منصور ، و ( روضةُ التعريف بمفاخرِ مولانا اسماعيل الشريف لمحمد الإفراني ) ، و ( إتحاف أعلام الناس بجمالِ أخبارِ حاضرة مكناس )لعبد الرحمن ابن زيدان ، ويقع في خمسةِ مُجلدات ، وغيرها .

وفاتُه :
تُوفيَ رحمه الله تعالى الساعة السادسة والنصف من يومِ الأربعاءِ الرابعْ عشر من ذي القعدة من عام ألفٍ وأربعمائة وتسعَةٍ وعشرين الموافِق الثاني عشر من نوفمبر من عام 2008 م ، وصُليَ عليهِ بعدَ صلاةِ العصر من يوم الخميس ، ودُفِنَ بمقبرةِ الشُهداءِ بالرباطِ ، وحضرَ مراسمَ التشييع صاحبَ السمو الملكي الأمير رشيد ، وبعثَ الملك محمد السادس برقيةَ تعزيةٍ لذويهِ جاءَ فيها : ( .. وبرحيله يكون المغرب، قد فقد أحد علمائه ومفكريه ومؤرخيه المخلصين الذين اضطلعوا بعدة مهام سامية، على امتداد أزيد من نصف قرن من تاريخ المغرب، سواء في عهد جدنا ووالدنا المنعمين، جلالة الملكين محمد الخامس والحسن الثاني، أكرم الله مثواهما، أو في عهدنا الميمون، حيث ظل مثالا للولاء والوفاء والإخلاص، في القيام بمختلف المسؤوليات التي تقلدها، مؤرخاً للمملكة، ومديراً للوثائقِ الملكيةِ ، ومحافظاً لضريح محمد الخامس وعضواً لأكاديمية المملكة، حيثُ يُعد من المراجعِ الرسميةِ للتوثيقِ والبحثِ في تاريخ المغرب( .
نسألُ الله سبحانه وتعالى أن يغفرَ لهُ ويرحمه ، ويعوضنا خيراً .