إدارة نبي الله سليمان لمملكته في القرآن
د. أحمد مصطفى نصير
تناولت سورة النمل الحديث عن عصا موسى، وأوضحت أنها لم تأطر الناس على اتباع الحق ولم تكن آية واحدة بل تسع آيات، ولم ينتفعوا بها، فكانت هذه القصة توطئة للحديث عن نبي الله سليمان، وكيف أن الله مكَّنه، فأخضع الناس للإسلام على يديه حتى ملكة سبأ بما أعطاه الله من مواهب ومعجزات تفوق قدرات البشر؛ كتواصله من النمل والطير والجان، فكأن ذلك إشارة إلى أن الحضارات المادية التي يصنعها الإسلام والتقدم التكنولوجي أو المعجزات الخارقة قد تُلْهِم بعض الناس وليس كل الناس كي ينظروا للإسلام بمنظور يحملهم على الإيمان به، وكأنهم يأطرون إليه أطرًا، وذلك حين يرون شكر المسلم لربه كما كان حال سليمان، بينما ترى آخرين لا يلهمون بذلك؛ بل تجدهم أكثر جحودًا واستكبارًا؛ كفرعون وقومه، وذلك راجع إلى الطبيعة النفسية لهؤلاء البشر وليس إلى الطبيعة المادية للمعجزة النبوية أو الجهد البشري الذي يبذله المسلمون لتعمير الكون، فملكة سبأ أسلمت مع سليمان لله رب العالمين، في حين استكبر قوم فرعون على الحق وعلوا عنه، وكذلك انحرفت فطرة بني إسرائيل.
وقد وقفت سورة النمل عدة وقفات في إظهار سليمان وهو يدير مملكته، فاستظهرت علمه وقوَّته وضبطه وربطه وقيادته وانفعاله لرؤية الباطل أو السماع عنه، والتحرك لاستنقاذ الناس من عبادة الشيطان، وعدم قبوله للمساومة أو الرشوة في دين الله، واستعانته بالله فيما سخره له من قدرات خارقة للعادة، وحيلته لاختبار ملكة سبأ.
وفي هذا السياق عرفت الآيات بنبي الله سليمان؛ فهو من نسل نبي الله داود، كما حكت ما فعله نبي الله سليمان في ثلاثة مواقف، الأول مع النملة، والثاني مع الهدهد، والثالث مع ملكة سبأ.
تمهيد:
التعريف بنبي الله سليمان بن داود:
قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾ [النمل: 15، 16].
قوله: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ﴾؛ أي: العلم بالله وبصفاته، فهو أشرف من غيره، وهذا العلم حاصل لجميع المؤمنين لكن الله فضلهما بمزيد من العلم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول للمؤمنين: ((أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ))، وكان يقول: ((إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا))[1]، قال العلماء: (وهو ظاهر في أن العلم بالله درجات، وأن بعض الناس فيه أفضل من بعض)[2]؛ ولذلك بوَّب البخاري بابًا بعنوان (بَاب قَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ، وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُ الْقَلْبِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ [البقرة: 225])[3].
قوله: ﴿ وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ فحمد الله هو نتيجة تحصيل العلم؛ لأن الحمد عمل، والعلم لا بد وأن يؤدي إلى العمل به، وكل علم لا يتوصل به إلى حمد الله فليس بعلم، نقل ابن كثير في تفسيره: (إن الله لم ينعم على عَبد نعمة فحمد الله عليها، إلا كان حَمْدُه أفضل من نعمته)[4]، قال الشوكاني: (والعطف هنا على محذوف والتقدير: (ولقد آتيناهما علمًا فعملا به وقالا الحمد لله)، (ويؤيده أن الشكر باللسان إنما يحسن إذا كان مسبوقًا بعمل القلب؛ وهو العزم على فعل الطاعة وترك المعصية)[5].
قوله: ﴿ فَضَّلَنَا ﴾: قال العلماء: وجه التفضيل (علم القضاء، والعلم بكلام الطير والدوابِّ) [6]، لكن للرازي رأي آخر؛ وهو أن الله فضلهما بالعلم عن الله وصفاته، بحيث يصير المرء مستغرقًا فيه، فلا يخطر بباله شيء من الشبهات، ولا يغفل القلب عنه في حين من الأحيان، ولا ساعة من الساعات)[7].
وقد فهم سليمان ذلك فقال: ﴿ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 40]؛ أي: أن ترى الله في كل نِعَمِه التي أنعم بها عليك فتزداد شكرًا.
قوله: ﴿ فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾: قال الرازي: (لم يفضلا أنفسهما على الكل، وذلك يدل على حسن التواضع)[8]، وتخصيص ذلك بالمؤمنين؛ لأن المؤمن مفضل عن الكافر بإيمانه بالله، وهذا ظاهر، وإنما التفاوت حاصل بين المؤمنين في النعم، فيكون التفاضل بينهم بحسب الشكر عليها؛ أي إن الله فضلهما بالإعانة على الشكر كما فضلهما بالنعم.
قوله: ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ﴾؛ أي: ورث سليمان العلم من داود عليه السلام؛ لأن الأنبياء لم يورثوا أي شيء من الدنيا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ علم الدين منهم نال الفضل والمنزلة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ))[9].
قوله: ﴿ وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ﴾: كان من جملة ما تعلمه منطق الطير، وفي ذلك كناية عن علمه غير ذلك، يقول ابن عاشور: (والاقتصار على منطق الطير إيجاز؛ لأنه إذا علم منطق الطير وهي أبعد الحيوان عن الركون إلى الإنسان، وأسرعها نفورًا منه، علم أن منطق ما هو أكثر اختلاطًا بالإنسان حاصل له بالأحرى)[10].
ومن الطريف أن نعلم أن الطيور تحذر الحيوانات في الغابات التي تعيش معها من خطر قريب، والحيوانات عندما تعلم من الطيور اقتراب إنسان أو حيوان مفترس تسرع في الهرب، فتغريد الطيور هو وسيلة لتحذير الحيوانات الصديقة من اقتراب الحيوانات المفترسة، وصوت التحذير يكون ثابتًا وبدرجة ملحوظة، ويختلف صوت التحذير عند اقتراب الحيوان المفترس على الأرض من نوع لآخر، وهكذا علم الله الطير وظيفته ويسَّره لها.
وذلك يعني أن نبي الله "سليمان" كان يملك شبكة استخبارات واسعة على بقاع الأرض لتواصُله مع الطير، فالرؤية من العلو تكشف معلومات استخباراتية بدقة، والقدرة على التحليق لمسافات تزيد من كمية المعلومات، فإذا ما تعلم سليمان منطق الطير، استطاع مناقشة الطير، فلم يُسلم بالمعلومة التي تأتيه وحسب، وإنما يقوم باستقصائها وتحليلها ومراجعتها مع الطير ليستفهم أهميتها وكيفية توظيفها، فكل مُيَسَّر لما خُلِق له.
وقوله: ﴿ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ﴾؛ أي: إن حاله مثل حال الملوك وأكثر، كما كان ذلك هو حال ملكة سبأ عندما نقل الهدهد المعلومة الاستخباراتية بشــــــأنها فقال: ﴿ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النمل: 23]، فكلاهما أوتي من كل شيء كما يعيش الملوك، لكن ملك سليمان يفوق كل ملك، ولا ينبغي لأحد من بعده، ولم يكن لأحد من قبله؛ لقوله: ﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [ص: 35]، وذلك من باب الابتلاء والاختبار، لينظر الله أيشكر أم يكفر؛ ولذلك لم يكفَّ سليمان عن شكر ربِّه.
وقوله: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾، وهكذا تكون النعمة جزء من الابتلاء، ويكون الشكر الواجب محل الجواب، فيحصل الفضل بالتوفيق للشكر، قال الزمخشري على القول أطلق على سبيل الشكر والمحمدة[11].
القصة الأولى:
سليمان والنملة:
قال تعالى: ﴿ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 17 - 19].
قوله: ﴿ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾: (أخبر الله عن مسير سليمان بجنوده من جميع الكائنات التي سخَّرها الله له من الجن والإنس والطير، وانتظامها في صفوف أي جنود توزع وتُساق بانتظام، بحيث لا يتقدم بعضها بعضًا فيرد دائمًا أولها إلى آخرها محافظة على النظام في السير، وما زالوا سائرين كذلك حتى أتوا على وادي النمل)[12]؛ وذلك لأن الجيوش تقاتل كما تتدرب، وليس معنى أنها في حالة سلم أن تركن للراحة والدعة، فالجيوش كلما تحركت زادت سرعتها وقدرتها القتالية، وكلما ركنت ضعفت.
والحكاية عن انتظام جيش سليمان وحشره بهذه السورة يمهد للحديث في آخر السورة عن حشر الناس يوم القيامة أمام الله مالك الملك ذي القوة والجبروت؛ كما في قوله سبحانه: ﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ [النمل: 83]، ليعلم الناس أن الملوك في الدنيا لا يخلدون، ولو كانوا أنبياء وصالحين ﴿ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ﴾ [النمل: 87].
قوله: ﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ ﴾؛ أي: لما أتى الجيش على وادي النمل حصلت قصة، والنمل حضارة من الحضارات القائمة على مدار التاريخ، ويبني مستعمرات ضخمة تحت الأرض بالنسبة لحجم النمل قد يسكن فيها ملايين أو عشرات الملايين من النمل في المستعمرة الواحدة، وكأن مستعمرة النمل دولة بأكملها، ويُبنى لها طرق وسكك وبيوت، كل ذلك حمل العلماء الذي اكتشفوا تلك المستعمرات على الانبهار.
والتعبير بوادي النمل يدل على أن النمل يبني حضارة هائلة وأودية عظيمة تحت الأرض، وهذا ما اكتشفه العلماء، اكتشفوا أن للنمل قرى مبنية وفق مقاييس معمارية في منتهى الدقة والإتقان على شكل ممالك يتوفر فيها كل متطلبات العيش من حماية ورعاية وأمن واستقرار، وقد بُني معظمها تحت الأرض وعلى شكل وديان وتشغل مساحات واسعة من الأرض يقدرها العلماء بثلاثين فدانًا حسب آخر اكتشاف علمي لهم وبعمق (10) أمتار، حيث تكون درجة الحرارة مناسبة له طيلة أيام السنة، وقد زود الله النمل بمهارة فائقة لصيانة أعشاشه من كل ضار[13]، وأعطاه خلقه وشكله وزوَّده بالأجهزة المناسبة ثم هداه إلى العمل الذي يتناسب وحياته دون ملل أو كلل، قال تعالى: ﴿ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾ [طه: 50].
قوله: ﴿ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل: 18] ذكر القرآن قول النملة نقرؤه في القرآن إلى يوم القيامة؛ مما يدل على حرص الإسلام على نقل الطاقة الإيجابية من النمل إلى البشر ليقتدوا بهذه النملة التي دلت قومها على ما يحميهم من سليمان وجنوده أثناء سيرهم.
وهذه الإيجابية لن نلحظها فقط في النملة؛ وإنما في الهدهد كذلك، فكل جيش سليمان يعيش في حالة معنوية مرتفعة، وكل واحد منهم يقوم بواجبه نحو المجتمع الذي يعيش معه، ولا يبخل على غيره بالإرشاد أو النصيحة، والنملة أدركت أنه جيش سليمان وعرفته، كما عرفت أنه لا يقصد إيذاءهم، وفي ذلك دليل على وعي الحشرات من حولنا بنا وبحركتنا؛ بل وتمييز الطيب من الخبيث منا، وأعذرته بأنه إن وقع من أحد جنوده ما تخاف منه، فهو ولا شك بدون قصد، ولن يشعر بها لضآلتها؛ إذ لو شعر لامتنع عن إيذائها، فالمسلم لا يؤذي حتى نملة، فعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((أَنَّ نَمْلَةً قَرَصَتْ نَبِيًّا مِن الْأَنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَفِي أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَهْلَكْتَ أُمَّةً مِن الْأُمَمِ تُسَبِّحُ))[14].
قوله: ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا ﴾: لم تعلم النملة أن الله علَّم نبيَّه سليمان كيف يسمع صوتها، فلما سمع مقالتها انبهر بنعمة ربه عليه، الأمر الذي أشعره بواجب الشكر والاستزادة منه، فالانبهار بنعم الله إذا اتصل بالشكر يؤدي إلى رقة في القلب وراحة في البال، ويحث على الاجتهاد في الذكر، فيزداد المسلم بنِعَم الله إيمانًا.
والتبسُّم خُلُق الأنبياء، ويعني الفرح دون مبالغة، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (مُسْتَجْمِعًا قَطُّ ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ، إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ)[15]، وذكر ابن جزي سبب تبسمه فقال: (تبسَّم لأحد أمرين: أحدهما سروره بما أعطاه الله؛ والآخر ثناء النملة عليه وعلى جنوده، فإن قولها هم لا يشعرون: وصف لهم بالتقوى، والتحَفُّظ من مضرة الحيوان)[16].
قوله: ﴿ وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ﴾ [النمل: 19] [17]، قال ابن قتيبة: (الأصل في الإيزاع هو الإغراء بالشيء، ويقال: فلان موزع بكذا؛ أي: مولع به) [18]، قال ابن القيم: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم موزعًا بالسؤال؛ أي: مولعًا به)[19]، قال الزمخشري: والمعنى (أكفه وأرتبطه لا ينفلت عني، حتى لا أنفك شاكرًا لك)[20].
وهكذا لا يؤجل المسلم شكر نعمة ربه عليه، فهو يشكر الله على كل حال، وقبل أن تنقضي لذته بالنعمة، وهكذا يحتاج الشكر إلى إعانة المُنْعِم على المنْعَم عليه، وهكذا يشعر المؤمن بالفرحة بأن الله أعانه على الشكر كما أنه يفرح بنعمة الله عليه.
قوله: ﴿ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ﴾ [النمل: 19]، قال الرازي: (ولما كان الإنعام على الآباء إنعامًا على الأبناء؛ لأن انتساب الابن إلى أب شريف نعمة من الله تعالى على الابن، لا جرم اشتغل بشكر نعم الله على الآباء)[21]، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ))[22].
قوله: ﴿ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ ﴾ (التنكيرُ للتفخيمِ والتكثيرِ)[23]؛ أي: يستمر عمله الصالح بلا انقطاع حتى يلقى الله فيرضى عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا عسله قبل موته))، قيل: وما عسله قبل موته؟ قال: ((يفتح له عملًا صالحًا بين يدي موته حتى يرضى عنه))[24]، (فشبه الله عمله الصالح بالعسل، وكأنه انغمس فيه، فأصبح معسولًا به) [25].
قوله: ﴿ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾، فالأنبياء ورغم قرب منزلتهم من الله، فإنهم يفتقرون جميعًا إلى رحمة الله تعالى، والأعمال قاصرة عن إدراك الجنة لولا رحمة الله تعالى، وهكذا دأْبُ الصالحين، فيظهر تأدبهم في دعاء الله، كما كان عبدالله بن مسعود يكثر أن يدعو بهؤلاء الدعوات (ربنا أصلح بيننا واهدنا سبيل الإسلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، واصرف عنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتُبْ علينا، إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها، قائلين بها، وأتممها علينا)[26].
القصة الثانية:
سليمان والهدهد:
قال تعالى: ﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّه ُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ﴾ [النمل: 20 - 28].
قوله: ﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴾ من واجبات القائد للجيش أن يقوم بالتفتيش الميداني بنفسه، ونبي الله سليمان كقائد عليه أن يتفَقَّد جنده كعادة القادة العسكريين، والطير هم أحد جيوشه، فلما تغيب الهدهد عن الحشد سأل عنه، وذلك يبين دقة النظام الذي أسسه سليمان لحشد الطير؛ إذ لو لم يكن جيشه منظمًا لما استبان الغائب من الحاضر.
قوله: ﴿ لَأُعَذِّبَنَّه ُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾ فسليمان في هذا الموقف يحكم جنده بقوانين عسكرية، وليست مدنية، والقوانين العسكرية تختلف بالكلية في أغراضها ووسائلها عن القوانين العادية، ذلك أن القوانين العادية تسير الحياة المدنية، وتسعى لتحقيق مزيد من التحضُّر والرقيِّ، بينما القوانين العسكرية تحافظ على غايات ضرورية تتعلق بأمن البلاد برمتها، ولا بد وأن تكون الأوامر العسكرية قائمة على السمع والطاعة، ولا مجال فيها للاعتذار أو المجاملة؛ ولذلك كانت العقوبات العسكرية شديدة القسوة عن الجزاءات الإدارية أو الأحكام المدنية، بل والعقوبات الجنائية في الحياة المدنية.
والعقوبة التي أعلنها سليمان للهدهد بسبب تخلُّفه عن الصفِّ عند الجمع تصل للإعدام، وذلك سائغ في القوانين العسكرية، وإلا لما كان للجيش انضباط ولانفرط عقده، وفي ذات الوقت كان سليمان يتَّسِم بالمرونة؛ أي: إنه جعل هناك سببًا للإعفاء من العقوبة، وذلك يتوقف على درجة الاستخبارات التي جاء بها من تخلف عن الجمع، أي إنه إذا كان له عذر غير مقبول فسوف يعذب عذابًا شديدًا، وإن كان ليس لديه عذر مطلقًا فالجزاء عندئذٍ الذبح؛ لمخالفة الأوامر العسكرية، فإن كان له عذر فلا بد وأن يكون عذرًا مقبولًا حتى يعفى من العقاب، بمعنى أنه في إطار العمليات العسكرية لا بد وأن يسهم هذا العذر في تطوير هذه العمليات، وتحقيق أهداف استراتيجية أو نقل معلومات استخبراتية ذات دلالات مهمة من الناحية العسكرية.
قوله: ﴿ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾: هنا انتبه الهدهد لعظم المسئولية الواقعة عليه وعظم الجزاء الذي يحيق به، فبدأ الهدهد حديثه مع سليمان بمفاجأة غطت على تحقيق سليمان في مسألة تخلفه عن الصف، وبدأ حديثه بثقة بالغة، وأعلن في تَحَدٍّ ظاهر للملك سليمان: ﴿ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ﴾؛ أي: إن لديه معلومة استخبراتية ذات شأن عظيم، وأكد على أنه لم ينقل له خبرًا مشكوكًا في صحته، أو يحتاج لتحري سليمان عن صدقه، فقال: ﴿ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾، فما كان من سليمان إلا أن استمع إلى الهدهد بإنصات، (فالقائد الناجح لا يستهين بأصغر معلومة تأتي إليه من أصغر جندي، فهو يعظم قيمة المعلومة وكأنها سوف تكون سببًا لهداية أمة بأكملها)[27].
قوله: ﴿ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [النمل: 23 - 26].
استرسل الهدهد في نقل الخبر بتفاصيله وتقييمه للموقف بدقة بالغة، ويستبين من حديثه أنه لا يكتفي بالنقل وحسب بل والتحليل مع النقل، كذلك بالنقد مع التحليل، وهكذا يكون البيان محكمًا، ما يعني أن جنود الإسلام لا بد من تدريبهم على الفهم ودقة النقل والوصف والتحليل والنقد والنصيحة، ولا يخلو حديثهم من الدعوة لتوحيد الله.
فقوله: ﴿ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ﴾ يدل على أن امرأة تتولى ملك سبأ هو ما أثار استعجاب الهدهد، لا لأن المرأة غير مؤهلة لتولي القيادة، فتلك مسألة أخرى ليس المقام هنا الحديث عنها، فقد أثبتت في هذه القصة جدارتها بإدارة البلاد، ولكن لأن هذا الأمر قلما يحصل، ويخالف المجرى المعتاد للأمور لا سيَّما وأن للرجال قوة تفوق المرأة في الأمور العسكرية على وجه الخصوص، فكان هذا الوضع بدايةُ إثارةِ انتباه الهدهد، حيث لم ينازعها في ملكها رجل من الرجال، ولم يكد بها امرأة من النسوة، فكيف جمعت امرأة هذه القوة في يدها، وقلما يحصل ذلك.
وقوله: ﴿ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ كناية عن استتباب حكمها، وأنها أضحت بمنأى عن قتال الأعداء، والمؤامرات الداخلية، بل وتفرغت للاقتصاد والتنمية وترفيه شعبها.
وفي قوله: ﴿ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾ كناية عن بلوغ الغاية في إدارة البلاد حتى اتسع عرشها لدرجة العظمة التي ينبهر بها الناس.
قوله: ﴿ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ تأسف الهدهد لما وجده في تلك الحضارة المادية من بعد عن الله، بل وضلال عن عبادة الله، وهكذا يظهر وجه الضعف في هذه المملكة، فقد استحوذ عليهم الشيطان، فصَدَّهم عن سبيل الله، وهكذا لم تهتدِ ملكة سبأ، ولا قومها للدين الحق، ومن هنا نفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة))[28]، وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَال:َ (لَقَدْ نَفَعَنِي اللَّهُ بِكَلِمَةٍ أَيَّامَ الْجَمَلِ لَمَّا بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ فَارِسًا مَلَّكُوا ابْنَةَ كِسْرَى، قَالَ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً)[29].
ويعزى هذا النقص في قيادة ملكة سبأ لمملكتها رغم نجاحها الباهر في إدارة البلاد من الناحية الاقتصادية والعسكرية بل الإدارية والاجتماعية أنها غير مؤهلة للقيادة الدينية؛ ولهذا لن يفلح قوم ولَّوْا أمرهم امرأة؛ ولذلك جعل الشرع الإمامة في الصلاة للرجل، وليس للمرأة، والدولة ليست بمعزل عن الدين، فقيادة الدولة لا بد وأن يتولاها من يقدر على إمامة الناس في الصلاة، وهذا كان دأب المسلمين من قبل، فسياسة المسلمين لدنياهم ليست بمعزل عن شئون آخرتهم، وهذا ما يميز المسلمين عن غيرهم.
قوله: ﴿ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ [النمل: 25] استنكر الهدهد ما فعلوه بصرف النظر عن موطن الزلل أو الخطأ من الناحية السياسية، فالأصل أن يهتدي البشر لله تعالى دونما حاجة لأي رسالة أو نذارة، فالكون كله دال على وحدانية الله تعالى، والكون كله يدين لخالقه، فالهدهد من الطيور التي تتبع مواطن المطر وأماكن الماء والحَب، وهكذا اهتدى الهدهد بعلامة ظاهرة لله سبحانه، وهو أن الله تعالى يخرج له الحَب من الأرض والمطر من السماء[30]، فكيف بملكها أوتيت كل شيء ولم تتفكر يومًا أن الله هو الذي آتاها ذلك كله.
قال ابن تيمية: (الْإِقْرَار بِالْخَالِقِ وَكَمَالِهِ يَكُونُ فِطْرِيًّا ضَرُورِيًّا فِي حَقِّ مَنْ سَلِمَتْ فِطْرَتُهُ وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ تَقُومُ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الْكَثِيرَةُ وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِن النَّاسِ عِنْدَ تَغَيُّرِ الْفِطْرَةِ وَأَحْوَالٍ تَعْرِضُ لَهَا)[31]، كما استدل الهدهد على الله بتلك الشواهد المادية، فإنه استدل عليه -كذلك- بشواهد غيبية مستقرة في إيمانه هو بأن الله تعالى يعلم ما يخفيه الناس وما يعلنوه، وذلك أمر يدل على أن الطائر استشعر رقابة الله تعالى عليه وعلى الناس أجمعين، وإحاطته بكل شيء حتى أصبحت تلك المراقبة أحد الشواهد التي يستدل بها؛ أي: ما يحتاج إلى إثبات هو الدليل ذاته لقوة يقينه.
قوله: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [النمل: 26] وذلك دليل على عقيدة الألوهية بعدما استقر في وجدانه حقيقة الربوبية، فالإيمان بأن الرب هو الإله المستحق وحده للعبودية هو كمال الاعتقاد الصحيح في الله، والعجيب أن الهدهد اهتدى إلى عرش ربه العظيم الذي ضل عنه كثير من البشر، فهو بعقله الصغير وجد عرش ملكة سبأ فوصفه بالعظمة، لكنه بعقيدته السليمة علم أنه عرش ربه أعظم فوصفه بالعظيم ﴿ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ وعرفه بالألف واللام ليميزه عما ذكره في حق ملكة سبأ بأسلوب التنكير ﴿ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾.
قوله: ﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [النمل: 27]؛ أي: رغم تأكيد الهدهد له لم يصدقه ولم يكذبه؛ لأنه في موضع تهمة، ولا بد من أدلة لنفي التهمة عنه، والمستفاد من ذلك أن الإنسان مهما أوتي من العلم، فإنه لا يحيط بكل العلم ولو كان ملكًا نبيًّا، فلم يحط سليمان بما أحاط به الهدهد، رغم أن الله آتاه ملكًا لا ينبغي لأحد من العالمين.
كذلك لا بُدَّ للقائد ألا يتعجَّل الفهم، ولا بد وأن يتثبَّت من الخبر، لا سيَّما إذا كان هذا الخبر سوف يؤدي إلى تحرُّك الجيوش؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ))[32]، وذلك ما حدا بعلماء الأصول إلى تأليف قاعدة فقهية بعنوان (اليقين لا يزول بالشك)، وهو ما حدا بعلماء الأصول العمل بالاستصحاب عندما لا يجدون دليلًا يحكم المسألة، فيعملون بما علموا به من قبل استصحابًا للحال السابق، فإذا كان الأصل في الفطر السلامة والإسلام، فيجب العمل بهذا الأصل حتى يثبت الدليل؛ ومن ثم لم يثبت التهمة ولم يصدق الهدهد، وفي ذات الوقت لم ينفِ عن قوم سبأ تهمة الشرك، ولم يكذب الهدهد؛ وإنما تريث حتى يقوم بالتجربة والاختبار.
قوله: ﴿ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ﴾ [النمل: 28]، هذا ما فعله سليمان هو ضرب عصفورين بحجر واحد، فبإرسال هذه الرسالة يتثبت من كلام الهدهد من خلال رد فعلهم على رسالته، ومن جهة أخرى اتخذ خطوة إيجابية تجاه هذه المملكة ليخاطبها بصفته نبيًّا قبل أن يكون ملكًا، وهو ما سوف نراه في القصة الثالثة.
القصة الثالثة:
سليمان وملكة سبأ:
قال تعالى: ﴿ قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّ هُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّ هُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ * قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ * قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ * قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 29 - 44].
قوله تعالى: ﴿ قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ جمعت الملأ حولها ولم تخف الأمر عنهم في سياسة تدل على ذكائها وفطنتها، واستشعارها أهمية التفكير الجمعي، فبدلًا من أن تفكر بمفردها، فكرت وهي بين أهل الشورى من حولها، ثم وصفت الكتاب بما يليق به، فلم تسخر منه كما يفعل المتكبرون، وإنما وصفته بأنه (كِتَابٌ كَرِيمٌ) بما يجعل المسألة المطروحة أمام أهل الشورى قد وُصفت توصيفًا دقيقًا لا تحامل فيه على أحد، الأمر الذي يضمن أن يخرج الرأي من أهل الشورى سديدًا بناءً على هذا التوصيف السليم، ووصفها للكتاب بأنه كريم يحمل معنى النفاسة والرقي، ولعلها استدلت على ذلك مما هو مكتوب فيه وتصديره بقوله: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ لا سيَّما وأن الذي يعلن هذه البسملة هو أعظم ملك في الأرض سليمان بن داود، ولم تنف عنه وصف الكرم رغم الرسالة التحذيرية المذكورة فيه: ﴿ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾، فهي رسالة تحذيرية مختصرة أفادت معاني كثيرة، ومما أفادت به أن سليمان هو الأعلى، ولا ينفع أن يكون ملكان في أرض واحدة دون أن يعلو أحدهما على الآخر، فكان الأولى أن يستسلم الأقل شأنًا إلى الأعلى منهما حقنا للدماء ومنعًا للقتال بينهما؛ ولذلك استشارت الملأ حولها؛ لأن القرار هنا لا بد وأن يشارك فيه الجميع.
قوله: ﴿ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ قال ابن جزي: (يحتمل أن يكون من الانقياد بمعنى مستسلمين أو يكون من الدخول في الإسلام)[33]، فبالمعنى الأول يبين أنه يريدهم ألا يمنعوه أن ينشر الإسلام في بلادهم، ويعرفهم بالله، فلا يصدُّوا عن سبيله، وبالمعنى الثاني أن يدخلوا هم في الإسلام مباشرة، وقبل أن يشرع في نشر دعوته لهم بالتفصيل، وحذرهم من شيء واحد؛ وهو أن يستعلوا عليه بجنودهم فيحصل بينهم حرب لا خلاص منها إلا بالغالب والأعلى، وليس ذلك هو ما يريده سليمان بل حذرهم من ذلك، أي إن نبي الله سليمان أوضح نيَّته في رسالته: ﴿ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾، فالمصلحة بينه وبين ملكة سبأ ليست مادية، وإنما لأجل إعلاء كلمة الله الرحمن الرحيم، فهي رحمة الإسلام ينشرها في أرجاء الأرض، ولا يحول دون نشرها إلا القوم المستكبرون، فإن كانت من المستكبرين فلا بديل عن الخيار العسكري (الجهاد في سبيل الله)، وإن لم تكن منهم، فالحلول والخيارات كثيرة.
قوله: ﴿ قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ﴾ هذه الاستشارة نابعة من طريقتها التي هي مقتنعة بها في إدارة البلاد، وأن الشورى ليست مجرد أمر مستحسن، وإنما هي أمر تُقطَع به كثير من الأمور الشائكة، وتُحسَم به كثير من القضايا المعلقة، وهم شاهدون على هذه الإدارة الحكيمة؛ بل إن الشورى تعطي للقرار الصادر قوة أكثر وشرعية واضحة، فلا يمكن أن يعترض على قرارها أحد وقد تم التصديق عليه من المجلس الأعلى للشورى، والذي يجمع قيادات الدولة العظام ومسئولي الأجنحة والعمليات العسكرية، (فلا خاب من استخار، ولا ندم من استشار)[34].
قوله: ﴿ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ﴾ قرر مجلس القيادة والشورى وارتأى تفضيل المواجهة العسكرية استنادًا إلى قوتهم وتاريخهم العسكري المشرف، ولكنهم ولاحترامهم للملكة وإيمانهم بسياستها الحكيمة تركوا الأمر في يدها، لعلها تفضل خيارات أخرى غير عسكرية.
يتبع