الاستشراق والتنصير مدى العلاقة بين ظاهرتين
أ. د. علي بن إبراهيم النملة
المدخل:
اعتنت الدراسات العربية حول الاستشراق والمستشرقين بالبحث عن البواعث أو الأهداف التي حدت بهم إلى دراسة علوم المسلمين، لا سيما التراث الإسلامي مع انطلاقة الاستشراق، ثم المجتمع المسلم الحديث الذي شهد تطورات وتغييرات دعت إلى دراسته والتركيز عليه.
ويقرر كثير من الباحثين الذين درسوا أهداف الاستشراق أن الهدف الديني يقف على قمة هذه البواعث؛ ذلك أن العلاقة بين الغرب والإسلام قائمة على "صراع" ديني، ظهر واضحًا أثناء الحروب الصليبية التي امتدت قرنين من الزمان، من سنة 489 - 691هـ، 1095 - 1291م، هذا مع الأخذ في الحسبان الرأي القائل: إن هذه الحروب لما تنتهِ، ولن تنتهي؛ مصداقًا لقول الباري - عز وجل -: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120].
والمعلوم أن المستشرقين ليسوا جميعًا ممن ينتمون إلى النصرانية دينًا؛ ففيهم المستشرقون اليهود الذين خدموا اليهودية من خلال دراساتهم الاستشراقية، كما أن فيهم الملحدين الذين خدموا الإلحاد من خلال اهتمامهم بالمنطقة العربية والإسلامية، ومحاولاتهم نشر الإلحاد في هذه البقاع بديلًا عن الإسلام.
ويمكن أن يدخل هؤلاء جميعًا تحت الهدف الديني، إذا ما توسعنا في هذا المصطلح،ثم العلمانية التي تعد كذلك دينًا أو اعتقادًا إذا أردنا الدقة،وهناك انتساب واضح إلى العلمانية عند فئة من المستشرقين[1]، كما أن هناك انتسابًا صريحًا للصِّهْيَونية عند فئة أخرى من المستشرقين[2]، مما يعني أن هناك انتسابًا صريحًا للتنصير عند فئة ثالثة من المستشرقين،وهذا يؤيد أن النظرة إلى الاستشراق التنصيري لا تحتاج إلى شيء من التعسُّف أو تلمس البراهين لتأييد وجود منصرين مستشرقين؛ ذلك أن فئة منهم لم تتورع عن قبول اللقب الديني، أو الرتبة الدينية "الأب" أو "الأسقف" أو "البطريرك" أو "المطران" سابقًا للاسم الأصلي، كما سيتبين عند سرد نماذج من المستشرقين المنصِّرين.
ومن الأهداف الفرعية للهدف الديني الرئيسي للاستشراق: الهدف التنصيري[3]؛ إذ وُجد جمع من المستشرقين هدفوا من دراستهم للشرق إلى تعميق فكرة التنصير في هذا المجتمع، وحاولوا بطريقتهم العلمية تحقيق مفهوم التنصير، مع ما تعرض له هذا المفهوم من تحوير، لا سيما عندما يكون موجهًا لمجتمع متدين كالمجتمع المسلم، وبما يحمله المفهوم من حماية النصارى من الإسلام، والحد من انتشاره بين النصارى وفي مواطنهم، ومن ثمَّ الحد من انتشاره بين غير النصارى في مواطنهم أيضًا،كما يمكن أن يكون من الأهداف الدينية التنصيرية السعي إلى توحيد الكنيستين الشرقية والغربية، الأمر الذي يستدعي وجود الاستشراق والإفادة منه في هذا الشأن[4].
ويقول "إدوارد سعيد": "ولقد أظهر مؤرخون عديدون أن أقدم الباحثين الأوروبيين في شؤون الإسلام كانوا من أهل الجدل في القرون الوسطى، ممن كتبوا لتبديد تهديد الحشود الإسلامية وتهديد الارتداد، وبطريقة أو بأخرى تواصل هذا المزيج من الفزع والعداء حتى يومنا هذا في الانتباه البحثي وغير البحثي المنصب على إسلام يرى منتميًا إلى جزء من العالم (هو الشرق) يوضع موقع النقيض ضد أوروبا والغرب على الصعيد التخييلي والجغرافي والتاريخي"[5].
مؤيِّدات هذا الهدف:
والذي يؤيد وجود هذا الهدف عدة عوامل مهمة، ومن أبرزها:
• أن أساس العلاقة بين الشرق والغرب قد قام على العداء الديني، ورفض الإسلام بديلًا للنصرانية في الشرق وغيره، بما في ذلك حماية النصارى الشرقيين من الإسلام، والتأثير على الأرثوذوكس في الشرق واستقطابهم للكنيسة الكاثوليكية في الغرب[6].
• وأن هذا الشعور قد "ولَّد" شعورًا بالاستعلاء والفوقية الغربية على بقية أمم الأرض، بما فيها المسلمون، وأن هذا الشعور بالفوقية قد انطلق من الكنيسة الغربية باحتقار كل ما هو غير بابوي النِّحْلة والهوى،وقد تسرَّب هذا الشعور "رويدًا بتأثير وعَّاظ الكنائس والقسس والرهبان، فخلق فيهم حالة نفسية استعلائية، صبغت العقلية الغربية والفكر الغربي في القرون الوسطى"[7]،وقد صدق المستشرقون هذه النظرة "ولم يكلفوا أنفسهم تبديلها مع عيشهم الطويل بين المسلمين، أو من زياراتهم المتكررة واطلاعهم على القرآن الكريم والحديث الشريف"[8]،فاستمر شعورهم العميق بتفوق ما لديهم، إنْ حقًّا وإنْ باطلًا، في الوقت الذي رأوا فيه بطلان ما لدى غيرهم؛ لعدم اتفاقه مع ما لديهم من دين وثقافة وفكر.
• أن طلائع المستشرقين من النصارى كانوا ذوي مناصب دينية، وأنهم قد انطلقوا من الكنائس والأديرة، ويعود هذا إلى النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، القرن العاشر الميلادي[9]، مع أن التبادل "الثقافي" والعلمي بين المسلمين ونصارى أوربا قد بدأ قبل ذلك بكثير، لا سيما في عهد الخليفة العباسي "هارون الرشيد" (ت 182هـ)، و"المأمون" (ت 230هـ)[10].
• وأن كثيرًا من المستشرقين قد بدؤوا حياتهم العلمية بدراسة اللاهوت قبل التفرغ لميدان الدراسات الاستشراقية[11]، وكان همهم إرساء نهضة الكنيسة وتعاليمها، لا سيما في العصور الوسطى[12]؛ أي إن هدفهم كان تنصيريًّا واضحًا، فكأن الاستشراق إنما قام ليغذي التنصير بالمعلومة المنقولة بلغة المنصر، رغم محاولات تعميم اللاتينية لغة للتنصير[13].
• وأن أوائل المطبوعات الغربية باللغة العربية قد ركزت على الكتب الدينية النصرانية، وأن أول ما طبعته لايدن من الكتب كان الإنجيل (1569 - 1573م)،ويذكر "العقيقي" أن أول كتاب عربي طبع في هولندا كان الحروف الأبجدية والمزمور الخمسين تجربة لها (1595م)[14].
• وأن التنصير قد اتكأ كثيرًا على الاستشراق في الحصول على المعلومات عن المجتمعات المستهدفة، لا سيما الإسلامية في موضوعنا هذا، وخاصة عندما اكتسب مفهوم التنصير معنى أوسع من مجرد الإدخال في النصرانية إلى تشويه الإسلامي والتشكيك في الكتاب والسنَّة والسيرة، وغيرها[15]،فكان فرسان هذا التطور في المفهوم هم المستشرقين[16].
• وأن من مقاصد الاستشراق الرئيسة، التي انطلق منها، التعرف على مصادر النصرانية من اللغة العربية، وقد ساقتهم دراسة اللغة العربية إلى تعلُّم اللغة العربية، وتعلم اللغة العربية قاد إلى الاستشراق؛ فاللغة العربية هي لغة دين وثقافة وفكر جاء ليحل محل الدين النصراني والثقافة والفكر المنبثقين عن الدين النصراني، فأوجد هذا نزعة التعصب التي قادت إلى استخدام اللغة العربية والعبرية في هذا المنحى "الاستشراقي الذي اتجه إلى الإسلام والعربية، وقد قيل: إنك "لا تكاد تجد مستشرقًا إلا أجاد اللغة العبرية والعربية معًا"[17].
• وأن البداية "الرسمية" للاستشراق قد انطلقت من مجمع فينا الكنسي سنة 712هـ/ 1312م الذي نعرف الآن أنه قد أوصى بإنشاء عدة كراسي للغات، ومنها اللغة العربية، ولا سيما التشريع الحادي عشر الذي قضى فيه البابا "إكليمنس الخامس" بتأسيس كراسي لتدريس العبرية واليونانية والعربية والكلدانية (السريانية، الآرامية) في الجامعات الرئيسية[18]،وكانت هذه التوصية قائمة على دعوة "رايموند لول"[19] لإنشاء كراسي للغة العربية في أماكن مختلفة،وينقل "عبداللطيف الطيباوي" عن "رادشل" في كتاب له عنوانه الجامعات في أوربا في القرون الوسطى: أن "الغرض من هذا القرار كان تنصيريًّا صرفًا، وكنَسيًّا لا علميًّا"[20].
• وأن الاستشراق قد استشرى ونال رعاية الكنيسة ومباركتها عندما ثبت فشل الحروب العسكرية من خلال انحسار المد الغربي الصليبي بعد جهود قرنين من الزمان، فاتجهت الكنيسة الغربية إلى التنصير من خلال الفكر والثقافة والعلم، فكان التوجه إلى ما نسميه اليوم بالغزو الفكري في تحقيق ما فشل فيه سلاح الغزو الحربي[21]،هذا الغزو الذي اتخذ من الاستشراق منطلقًا له، سعى من خلاله إلى تشويه الإسلام بطرق شتى، لا تتعدى كونها جملة من الإسقاطات التي نالت حظًّا طيبًا من النقاش والرد، في زمان إطلاقها وبعده، من كثير من المسلمين[22].
وكان الهدف من هذه الدعوة هو أن تؤتي محاولات التنصير ثمارها بنجاح من خلال تعلم لغات المسلمين[23]، وقد عُبر عن هذه الثمار في دعوة "لول" بارتداد العرب إلى النصرانية من الإسلام، كما كان "غريغوري العاشر" يأمل في ارتداد المغول إلى النصرانية، وقبله كان "الإخوة الفرنسيكان" قد توغلوا في أعماق آسيا يدفعهم حماسهم التنصيري،ومع أن آمالهم لم تتحقق في وقتها إلا أن الروح التنصيرية قد تنامت منذئذ[24].
وهذا يعني بتعبير أوضح "إقناع المسلمين بلغتهم ببطلان الإسلام، واجتذابهم إلى الدين النصراني"[25]،وهذا مما أدى إلى الاستنتاج أن التنصير هو الأصل الحقيقي للاستشراق، "وليس العكس صحيحًا، كما يذهب أغلب الباحثين"[26]، والدلائل التي ذكرت في ثنايا هذه الدراسة تؤيد ذلك وتدعمه.
ومن هذا المنطلق يفهم التوجه إلى تعريف المستشرقين بأنهم "الذين يقومون بهذه الدراسات من غير الشرقيين، ويقدمون الدراسات اللازمة للمبشرين، بغية تحقيق أهداف التبشير، وللدوائر الاستعمارية بغية تحقيق أهداف الاستعمار"[27].
وقد انتظم الاستشراق في الفاتيكان وانتشر واستمر على أيدي البابوات والأساقفة والرهبان، فكان رجال الدين النصراني "- ومجمعهم الفاتيكان يومئذ - يؤلفون الطبقة المتعلمة في أوربا، ولا سبيل إلى إرساء نهضتها إلا على أساس من التراث الإنساني الذي تمثلته الثقافة العربية، فتعلموا العربية، ثم اليونانية، ثم اللغات الشرقية للنفوذ منها إليه..."[28]،وكذلك لمقارعة فقهاء المسلمين واليهود والرد عليهم، وتدريب أدلاء يتخاطبون بالعربية للقيام على خدمة مرتادي بيت المقدس من النصارى، ويطلق عليهم "الحجاج"، فأسس البابا جمعية الجوالين سنة 648هـ - 1250م، وطبعت بعد ذلك أدلة الحج، وفيها الأبجدية العربية وطريقة النطق بها، وخريطة لمدينة القدس، ورسوم للزي العربي، لا سيما اللبناني،يقول "نجيب العقيقي" في هذا: "فكان أول ما عرفت أوربا من الطباعة العربية"[29].
وقد أضحى هذا المنحى في الرؤية إلى نشأة الاستشراق مما يتفق عليه معظم الباحثين المسلمين في ظاهرة الاستشراق[30]، لا سيما أولئك الذين لا يسعون إلى الاعتذار للمستشرقين بخاصة، وللغرب بعامة،وقد عُد الاستشراق أقرب الطرق وأسهلها للتنصير[31].
على أني لحظت أن هناك من يرى التداخل بين التنصير والاستعمار في الإفادة من الاستشراق، بحيث يقال: إن الهدف من الاستشراق هو "التمهيد للاستعمار الزاحف...حتى يمكن للمستعمرين التعامل مع الشعوب المغلوبة المنهوبة على ضوء ما عرفوه عنها[32]،وفي هذا شيء من الاقتصار على هدف من أهداف الاستشراق يخدم مجال الباحث في بحثه دون النظر إلى الأهداف الأخرى، ويؤدي هذا إلى قصر الأهداف على الهدف الديني التنصيري، الأمر الذي ينبغي ألا يكون.
ومن المهم هنا النظرة إلى التداخل في الأهداف مع القدرة على التمييز بينها، وأن هذه الأهداف إنما تسعى إلى الإفادة من بعضها البعض في تحقيق غاياتها؛فالهدف الديني، ومنه التنصير، للاستشراق يتداخل مع الأهداف الأخرى كالاستعمار والهدف السياسي، بل والهدف الاقتصادي والتجاري، ثم الهدف العلمي؛ وذلك لتعذُّر التخلي عن الخلفية الثقافية القائمة على الدين في النظر إلى الثقافات الأخرى،وهذا ما جعل بعض المستشرقين ينظر إلى الشرق نظرة فوقية مدعيًا أن علو الغرب إنما يعود إلى الديانة النصرانية، بينما يعود تخلف الشرق، وبالتالي دونيته، لتمسُّكه بالإسلام.
وقد استمرت هذه النظرة الفوقية المنبعثة من الدين، وغذَّتها كذلك النظرة العرقية، إلى وقتنا الحاضر،ويذكر "خير الله سعيد" أن "جوهر الاستشراق هو التمييز الذي يستحيل اجتثاثه بين الفوقية الغربية والدونية الشرقية،ثم إن هذا الاستشراق في تناميه وفي تاريخه اللاحق قد عمق هذا التمييز، بل أعطاه صلابة وثباتًا"[33].
وربما كان هذا الشعور أحد مسوغات الاستعمار الذي جثم على الدول المستعمرة ردَحًا من الزمن، بحجة عدم قدرة الشعوب الشرقية على حكم نفسها، فاحتاجت إلى الوصاية الغربية عليها،وهذا ما يشير إليه تاقرير "سكاربرو"[34]، كما يشير إليه "هاملتون جب" في الاتجاهات الحديثة في الإسلام[35].
فئات المستشرقين المنصِّرين:
وللبُعد عن التعميم فإننا نعلم من دراسة سير المستشرقين وأنشطتهم العلمية، لا سيما المتأخرون منهم، أنهم ليسوا بالضرورة جميعًا من المنصِّرين، ولم يكونوا بالضرورة متعاطفين جميعًا مع الحملات التنصيرية، وإن كان مِن هؤلاء المستَثْنَيْنَ مَن قد سعوا إلى تحقيق الأهداف الأخرى للاستشراق؛ كالأهداف الاستعمارية والسياسية والتجارية الاقتصادية والعلمية التي وصفها بعض الدارسين العرب بالغايات النزيهة؛ ذلك أنها رمت إلى العلم بالشيء، دون إبطان أي هدف آخر،وهذا قد يبدو واضحًا عند استعراض سير كثير من المستشرقين، ولا سيما المستشرقون الألمان، في غالبيتهم، وتتبع أنشطتهم الاستشراقية التي اتسمت بالعلمية أكثر من أنشطة المستشرقين الآخرين، بل إن هذا المنحى في النظرة يمكن أن يعين على التعرف على المستشرقين الأكثر تعاونًا مع التنصير، لا سيما عند النظر إلى الخلفية الطائفية للمستشرق، كالكاثوليكي والبروتستانتي والأرثوذوكسي، فنجد أن المستشرقين الفرنسيين، وهم كاثوليك في الغالب، أكثر التصاقًا بالتنصير من غيرهم، وبالتالي فهم أكثر من غيرهم جناية على المجتمع العربي الإسلامي بإسهاماتهم المتعددة في مواجهة المجتمع المسلم،ويمكن التوسع في هذا الافتراض بالدراسة المستقلة[36].
• وهناك فئة من المستشرقين تعاطفت مع التنصير وأعانته إعانة غير مباشرة بتوفير المعلومة المطلوبة والتحليل المراد حول ثقافة من الثقافات أو مجتمع من المجتمعات،فهذه الفئة ليست من المنصِّرين الذين مارسوا التنصير عمليًّا، ولكنهم يُعَدُّون من المنصِّرين عندما يتبين أنهم باستشراقهم قد خدموا التنصير، على الرغم من أن إسهاماتهم في مؤازرة التنصير ليست بذلك الوضوح الذي نراه عند بعض المستشرقين الذين خدموا هيئات استخبارية حكومية بالدراسة الموجهة والتقارير المقصورة على ما يخدم هذه الهيئات، مما لا نعلم عنه إلا القليل، عندما تطورت هذه الدراسات أو التقارير إلى كتب، أو تحولت إلى مقالات في دوريات علمية؛ أي إذا ما تحولت هذه الأعمال السرية إلى "معرفة عامة" بنشرها بأي وسيلة من وسائل النشر[37].
• وهناك فئة من المستشرقين ممن بدؤوا حياتهم مستشرقين، يركزون على الدراسات الاستشراقية ويواصلون جهودهم فيها، ويرحلون من أجل الوصول إلى المعلومة التي تعينهم على الوصول إلى النتائج التي يرمون إليها، ثم استهواهم التنصير، فانصرفوا إليه على حساب الاستشراق، حتى اشتهروا منصِّرين أكثر من شهرتهم مستشرقين، رغم أن لهم إنتاجًا علميًّا يضعهم في مصاف المستشرقين، فهم هنا يُعَدون منصِّرين مستشرقين، لا مستشرقين منصِّرين؛ أي إن التنصير قد غلب على مسارهم أكثر من غلبة الاستشراق عليه، ولكنهم مع هذا لا يخرجون من دائرة الاستشراق إلى دائرة التنصير الخالص مثل أولئك المنصِّرين غير المستشرقين،ومن أبرز أقطاب هذه الفئة المنصِّر المستشرق الأمريكي صموئيل زويمر.
• وقد تكون هناك فئة من المنصِّرين بدأت خطوات في طريق التنصير، ورحلت إلى حيث تقوم بمهمتها التنصيرية الصريحة الواضحة الخالصة دون اهتمام مباشر بالمعلومة أو الدراسة، سوى ما هو مطلوب من المنصِّر معرفته عن البيئة التي يزمع العمل بها قبل الشروع في العمل بها، ولكنها، بعد ذلك، انخرطت في التعرف على هذه المجتمعات التي تسعى إلى تنصيرها، فانصرفت إلى دراسة مقومات هذا المجتمع أو ذاك دراسة علمية تعتمد على المصادر العلمية التي كتبت عن هذه المجتمعات أو تلك، وتوسعت في ذلك حتى نسيت مهمتها الرئيسة.
ومع هذا بقيت متعاطفة مع التنصير بصور شتى من صور التعاطف، فهؤلاء على عكس أولئك أضحوا مستشرقين منصِّرين؛ أي إن توجههم للاستشراق قد غلب على توجههم للتنصير، فعُرِفوا مستشرقين أكثر من معرفتهم منصِّرين.
• وهناك فئة من المستشرقين كان الدافع لاشتغالها بالاستشراق دينيًّا تنصيريًّا، ثم تبين لها عدم جدوى هذا المنحى، وعدم سلامة الأهداف والغايات، فانسلت من هذه الدافع، وانصرفت إلى الدراسات الاستشراقية العلمية البعيدة عن هذه الغايات، وآلت على نفسها الابتعاد عن هذا المنحى، دون أن تثير أي انتباه علني، وإن تحدثت عنه أحاديثَ خاصة مع الموثوق بهم من الأقران، في مجالس خاصة وفي ومناسبات خاصة.
يتبع