أخطاء الواقفين (9-10) الظن بأن الوقف لا ينعقد إلا بالكتابة
قال أهل العلم : «ينعقد الوقف بالعبارة أو الكتابة، فإذا كان الواقف عاجزاً عنهما انعقد الوقف بالإشارة المفهمة».والوقف ينعقد بصيغ متعددة وهي كالآتي:
- أولاً: اللفظ: ويقصد بذلك العبارة الصادرة عن المتكلم التي تعبر عن إرادته في ترتيب آثاره ولزوم تصرفه. وتكاد تجمع كتب الفقه قديماً وحديثاً على أن صيغة الماضي أصرح الصيغ في الكشف عن إرادة المتلفظ وبيانها بياناً جازماً لا تردد فيه ولا احتمال؛ لأن الشرع قد نقلها إلى الإنشاء مثل: وقفت وحبست وسبلت، كقول الواقف بيتي هذا موقوف ومحبوس.
- ثانياً: التعبير بالأفعال: ذهب جمهور الفقهاء إلى صحة انعقاد الوقف بالفعل مع القرائن الدالة عليه، مثل أن يبني مسجداً ويأذن للناس بالصلاة فيه، أو مقبرة ويأذن في الدفن فيها، أو سقاية ويأذن في دخولها، جاء في مواهب الجليل: (من بنى مسجداً وأذن في الصلاة فيه فكالصريح؛ لأنه وقف وإن لم يخص زماناً ولا شخصاً ولا قيد الصلاة فيه بفرض ولا نفل فلا يحتاج إلى شيء من ذلك ويحكم بوقفيته.
- ثالثاً: التعبير بالكتابة: يجوز التعبير عن الوقف بالكتابة من غير لفظ؛ لأن القلم أحد اللسانين وهي إحدى طرائق التعبير عن الإرادة كالعبارة سواء بسواء.
- رابعاً: شهادة السماع: يثبت الوقف بشهادة السماع وبيان مصرفه فإذا اشتهر أن فلاناً وقف على كذا جاز له أن يشهد به؛ لأنه إن لم يجز أدى ذلك إلى استهلاك الأوقاف(1).
الثقة المطلقة في كُتّاب وثيقة الوقف :
من المشاهد أن أكثر الواقفين يضعون ثقتهم في الكتاب لوثيقة الوقف، ويفوضون لهم تحرير ما يريدون، بل إن بعضهم يطلب من أناس ليسوا من أهل الاختصاص بهذا العلم والدراية بأحكام الوقف وتشريعاته وضوابطه وقوانينه، ولا شك أن يؤدي إلى عاقبة مؤلمة، تخرج الوقف عن مقصده، وتخالف شروط الواقف التي قصدها في وقفه .
فلا بد أن يكون الكاتب ذا ضبط ودقة وعناية لتسلم وثيقة الوقف من الأخطاء التي قد تضر بالوقف والموقوف عليهم, وغالباً يحصل ذلك لقلة خبرة الكاتب، ولا بد حين كتابة وثيقة الوقف أن تسلم من الأخطاء التي قد تغير من مقاصد الواقفين، ولعل بعضها يتضمن مخالفات شرعية.
وعلى الواقف أن يتحرى تدوين ثبوت الوقف أو تسجيل إنشائه على وجه يحتج به شرعًا، ولا يتم ذلك إلا بالموثق المؤهل الذي توافرت لهم الخبرة التامة بأمور التوثيق والدراية بالمسائل الشرعية، وأحكام القانون الذي يضبط الأوقاف في البلد الذي ينعقد فيه الوقف، حتى لا يؤدي الوقف إلى خلق متاعب وخصومات طويلة ملتوية لا مسوغ لها.
• عدم تعيين الوقف :
لا يصح الوقف إذا لم يكن العين الموقوفة معيَّنة، فلو وقف إحدى دارَيه، أو إحدى سيّارتَيه من غير تعيين للموقوف، فإن هذا الوقف غير صحيح لعدم بيان العين الموقوفة، وكان قوله هذا أشبه بالعبث، لا بالجد، فلا بد أن يكون الموقوف عيناً معيَّنة.
وكذلك يعد في العين الموقوفة أن تكون عيناً موجودة فلا يصح وقف الدين، كقوله: وقفت ما هو لي في ذمة زيد من فرش أو إناء أو نحوهما، أو قال: وقفت فرساً أو عبداً من دون تعيين.
فالواقف لا بد أن يكون مالكاً للعين الموقوفة، مختاراً، نافذ التصرف فيها بالعقل وعدم الحجر لسفه أو رق أو فلس.
•لا يوقف إلا إن كان غنياً:
فهذا ظن الكثير من الناس أن الوقف مقصور على الأغنياء، فلا يوقف ضعيف الحال أو متوسط الدخل في حياته شيئاً، وقد أخبرنا حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم أن أموراً سبعة يجري ثوابها على الإنسان في قبره بعد ما يموت فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سبع يجري للعبد أجرهُنَّ وهو في قبره بعد موته: من علّم علماً، أو أجرى نهراً، أو حفر بئراً، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجداً، أو ورَّث مصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته»(2).
والحديث جمع سبعاً من الأعمال التي تُعد من الوقف الإسلامي، والتي تجري فيها الحسنات لصاحبها إلى ما بعد الممات، وتتنوع تلك الأعمال لتوسيع دائرة الكُلفة والاختيار، وهذا من فضل الله عز وجل على عباده ورحمته بهم أن فتح لهم أبواباً من الخير ما يدوم فيها الأجر والمثوبة.
وفي إحداها توريث المصحف، وتوزيع نسخه ووقفها في المساجد والمستشفيات وأماكن الانتظار والتجمعات، أجرٌ عظيم كلما تلا في ذلك المصحف تالٍ، وكلما تدبر فيه متدبر، وكلما عمل بما فيه عامل.
وقد هيأ الله عز وجل في عصرنا مؤسسات وقفية تنشر ثقافة الوقف، وترعى الأوقاف، وتجمع الأسهم الوقفية، وتتبنى المشاريع الوقفية، وتيسر للناس سبل الإسهام والمشاركة في المشاريع الوقفية، فيمكن للمسلم مهما كان وضعه المادي أن يجعل لنفسه وقفاً ولو كان غرس نخلة .
•وقف الكثير على فئة قليلة من الناس:
حيث يوقف الواقف مالاً كبيراً على مصارف ضئيلة، كأن يوقف مجمعاً عقارياً على أولاده، وليس له إلا ولد أو ولدين، أو كأن يوقف على طلبة علم من العلوم لا يدرسه إلا ما ندر من الطلاب وليس للمجتمع حاجة لتخصص الكثيرين في هذا العلم.
فالبعض قد ينجذب ويدفعه شغفه واهتمامه في فن من الفنون لأن يوقف له المال الكثير، والفقراء من حوله بأمس الحاجة إلى مد يد العون لهم. فالأولى توسيع مصارف الوقف حتى يشمل التوزيع أكبر عدد ممكن من أهل الحاجة، وهذا من مقاصد الوقف الذي يرعى حاجات المجتمع بكل فئاته، فيبدأ بالفقراء ثم ينتقل إلى غيرهم.
الهوامش:
1 - انظر للاستزادة :المغني، لابن قدامة، (6/6-8).
2- أخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (2/390)، وحسنه الألباني في «صحيح الجامع» برقم: (3602)، ونحوه في «صحيح الترغيب»، برقم: (73).
اعداد: عيسى القدومي