الخلاف والاختلاف .. فروق وآداب


أحمد إبراهيم عصر








خلق الله - سبحانه وتعالى - البشر مُختلفين، فلم يَخلقهم على هيئة واحدة، ولم يجعل صفاتهم واحدة، بل جعَلهم مُتفاوتين في العقل والإدراك وفي كل شيء، وهذا هو معنى الاختلاف الذي يعدُّ سنَّةً كونية من سنن الله تعالى في كونه، ويَصِل بنا هذا أيضًا إلى الاختلاف في الرأي، فلا شك أن كلاًّ منا له رأيه وله وجهة نظره التي يتبناها أو يدافع عنها أو ينحاز إليها، وهذا بالطبع لا غبار عليه، فلكلٍّ رأيُه الذي لا يضرُّ به غيره، ولا يَميل به على حقوق الآخرين، إلا أن هذا الاختلاف في بعض الأحيان قد يتحوَّل إلى خلاف يؤدِّي إلى النزاع وشقِّ الصف وتشتُّت الجماعة، فلقد فرَّق كثير من العلماء بين الاختلاف الذي هو سنَّة كونية وبين الخلاف الذي يكون مؤدَّاه ضياع الأمم وخرابها، وقد وضع الخبراء بعض الملامح التي تفرق بين الاختلاف المحمود، وبين الخلاف المذموم كما أطلق عليه البعض، كما اجتمع الخبراء أيضًا على بعض الآداب التي يجب أن يَتبعها كل فرد في حياته، والتي يجب أن تسود أي نقاش أو أي حوار يتمُّ بين فردَين أو بين مجموعة من الأشخاص، فلا شك أن الحوارَ الذي يُراعى فيه آدابه وأخلاقياته سوف يخرج بنتيجة إيجابية، وليس بنتيجة سلبية، وبقياس هذا على كافة أمور ومناحي الحياة فإنها سوف تعمل على نبذ الخلاف، الذي لا يتعارَض في الأصل مع الاختلاف الذي هو في طبيعة البشر.



في البداية يقول الدكتور أسامة عبدالفتاح - أستاذ علم الاجتماع -:

إنه من الناحية اللغوية فإن الخلاف والاختلاف من مادة واحدة، ولكن جرى الاستعمال على أن يكون الاختلاف إنما هو في التنوُّع والتعدُّد، وهذا أمر محمود، فيَجوز لنا حينئذ أن نقول: إن الاختلاف لا يُفسد للود قضية؛ وذلك لأن البشر قد وجدت على هذا التعدُّد، وهذا إنما يعد نوعًا من أنواع التدافع، والتدافع إنما هو سنَّة من سنن الله - سبحانه وتعالى - في كونه، فلا بدَّ أن تَختلف الأنظار، فمن الطبيعي أن يكون لكل عين نَظرة خاصة، وكذلك لا بد أن تَختلِف الآراء، ولا بد أن تتلاقَح وأن تتلاقى هذه الأفكار؛ ولذلك تتمُّ عملية التدافع والتقدُّم والمسيرة في كل مناحي الحياة، أما الخلاف فهو ينبئ في الاستعمال بالنزاع والخصام، وقد جاءت الشريعة الإسلامية وسدَّت موارد النزاع والخصام، ومِن ثَم يمكن أن نقول بصورة عامة: إن الاختلاف ممدوح، وإن الخلاف مذموم، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يَبِع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خِطبته حتى يذَرَ))، وهذا القول إنما جاء من النبي صلى الله عليه وسلم منعًا للخلاف أو النزاع أو الشقاق، إذًا فإن الشريعة الإسلامية قد جاءت من أجل أن تُصفي ما بين الناس من خلاف.



ويُضيف:

إن الله - عز وجل - ما أنزل الوحي إلا ليَجتمع الناس وليتآلفوا، وإذا نظرنا إلى القرآن سنجد أن الله - عز وجل - قد أشار إلى ذلك في مواضع عديدة؛ منها: قوله - عز وجل -: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، فإن الخلاف من شأنه أن يهدم البناء من أساسه، ولو أن قوانين الكون اختلفت - ولو قيد أنملة - لاندثر الكون بأكمله، وهذا على عكس الاختلاف الذي عادةً ما يكون إيجابيًّا؛ إذ إن كل فرد يختلف عن الآخر، ومِن ثم يُكمله، في حين أن الخلاف يستدعي التناحر الذي يؤدي في نهاية الأمر إلى إضعاف الأمة، مشيرًا إلى أن أمتنا الإسلامية لم تَضعُف إلا حينما دبَّ بها داء الخلاف، فأدى إلى ضعف قوتها، وأصبحت سهلة المنال في أيادي أعدائها، فإن الخلاف بلا شك يُفرِّق الشمل، ويذهب بعزِّ الأمم، ويؤجِّج الصراعات، ويخلُقُ الضغائن والأحقاد، ويشتِّت الأهداف، وكذلك يؤدي إلى تشرذم الأمم، وخَلْق أعداء جدد، على العكس من الاختلاف الذي من شأنه أن يؤدي إلى التكامل لبلوغ القِمم.



ومن جانبها قالت الدكتورة سعاد محمد السيد - مختصة التنمية البشرية -: إنه لا شك أن الإنسانَ يجب أن يتحلى بفنِّ الاختلاف في الرأي وآدابه، حتى يتمكَّن من التعامل مع الآخرين بصورة سليمة وموضوعية، ومن ثَمَّ فإن الإنسان يجب أن يكون على دراية واسعة ومعرفة تامة بأسس وآداب الاختلاف والتعامل مع الرأي الآخر، وهذه الآداب يمكن حصرها في ثلاثة أقسام رئيسية، تتمثل في الآتي:

القسم الأول: وهو الآداب الأخلاقية، وهناك مجموعة من الضوابط التي يجب مراعاتها في هذا الصدد، ولعلَّ من أهمِّها: احترام الآخر، وهي من البديهيات التي لا تَرتبط بقضية الاختلاف فقط، بل هي حق على المسلم تجاه أخيه المسلم، ويجب أن يُراعيها كل فرد عند التعامل مع الآخرين، وليس المقصود بهذا المسلمين فحسب، وإنما غير المسلمين كذلك، ومن هذه الأمور التي يجب مراعاتها في الآداب الأخلاقية أيضًا: حُسن الظن بالغير، وعدم سوء الظن بهم؛ فإن الإنسان لا يمكن له أن يحكم على من يتعامل معه من خلال نواياه عن طريق مسلمات معيَّنة، فهذا من أكثر الأمور التي تؤجِّج الخلاف وتؤدي إلى التشرذم، ومن الأمور التي يجب مراعاتها أيضًا: عدم اغتيابِ الآخرين، فيجب على الإنسان أن يكون حريصًا دائمًا على ألا ينجرف إلى تناول شخصية معينة أو إنسان ما بنوع من التجريح أو الذم لمجرَّد الاختلاف معه في الرأي، هذا أيضًا إلى جانب عدم التصيُّد لأخطاء الآخرين من أجل تحقيق مكاسب معيَّنة، بل يجب على الإنسان أن يُساعد غيره على تجاوز أخطائه، بدلاً من العمل على تصيد هذه الأخطاء.



مضيفة: أما القسم الثاني فيتمثل في الآداب العِلمية، فكثيرًا ما يقوم بعض الناس بالحكم على الآخرين وعلى أفكارهم دون إعطاء أي فرصة لتفهُّم هذه الآراء أو هذه الأفكار، وهناك بعض العوامل التي يجب مراعاتها قبل الحكم على أي قضية أو فِكرة معيَّنة، ومنها: ضرورة معرفة هذه القضية بشكل كامل، والدراية بجميع جزئياتها، فضلاً عن ضرورة توافُر القدرة لدى الإنسان أولاً على المحاكمة أو إبداء الرأي، بالإضافة إلى توافر القدر الكافي من الموضوعية التي تُساعد على إنصاف الرأي الآخر إذا كان على حق، وهو ما يتطلب التنازل عن الأهواء الذاتية والأفكار الشخصية؛ بحيث يكون الإنسان نوعًا ما موضوعيًّا، هذا إلى جانب البحث المستمر عن الحقيقة.



أما القسم الثالث فهو يتمثل في الآداب الاجتماعية؛ فمن البديهيات أن الاختلاف بين البشر قائم طالما كانت البشرية قائمة، ومِن ثَم يجب علينا الاعتراف بوجود هذا الاختلاف والاعتراف بتأثيراته على الواقع، وفيما يخص الآداب الاجتماعية ففي هذا الصدد يجب مراعاة عدة أمور؛ من أهمها: قبول الآخرين، وقابلية التكيُّف معهم ومع آرائهم؛ بحيث يكون الإنسان مؤهلاً لأن يتكيف مع هذا الواقع ومع هذا الاختلاف في الكون، مما يجعل الإنسان على استعداد لقَبول الآخرين وتقبُّل آرائهم، ومن الأمور التي ينبغي مراعاتها أيضًا: عدم التقليل من الآخرين اجتماعيًّا، وهذا يجب مراعاته في جميع التعامُلات التي تكون بين شخص وآخر، هذا بالإضافة إلى مراعاة حق الآخرين في إبداء الرأي والتعبير عنه؛ فهو حق مكفول للجميع طالما كان هذا الرأي إيجابيًّا ولا يتعدى به على حقوق الآخرين، أو يتناولهم بالسب، أو ما شابه ذلك.