من فنون الشعر


د. محمد بن سعد الدبل







يستمرُّ عطاء الشعر الإسلامي عبر تاريخ الإسلام فيُطالعنا شِعر الملاحم، فماذا عن ذلك الفن الشعري المطوَّل؟ ما نَصيب الأدب أو الشعر الإسلامي منه؟ وهل شِعر الملاحم مقصور على العرب الجاهليِّين وعلى مَن قبلهم ومَن بعدهم من الأمم الأخرى؟ الإجابة على هذا السؤال ما قاله أحد النقاد المعاصرين مِن أن مظاهر الشعر باتفاق النقاد مُنحصِرة في ثلاثة فنون رئيسية: هي الشعر الغنائي، والشعر التمثيلي، والشعر الملحمي، ذلك اللون الذي منه شِعر قصص بطولي متشعِّب طويل، السرد فيه العظمة والخوارق والأهداف الكبيرة والآمال العريضة، والنزعة الإنسانية والاتجاه القومي، والمجال الرحب، هدفه الجماعات لا الأفراد، وتمجيد الأمة لا نقد المجتمع، وبهذه الأوصاف يشذُّ عن اللونين: الغنائي والمسرحي، وتعني الملحمة في اللغة: المعركة العظيمة، والملحمَة على حدِّ قول ابن خلدون تعني تاريخ الدول، أما في اليونانية فتعني الملحمةُ القصةَ أو الشِّعر القصصي الذي يختصُّ بوصف القتال، ولما كانت الملحمة قصة طويلة ذات حادثة واحدة أو عدد مِن الحوادث ارتبطت وقائعها بحياة جماعة توحَّدت منها الآمال، وتشابكَت المصالح كان لا بدَّ مِن وحدة موضوعية يقوم عليها الفنُّ القصصي، وتأنُّق الأحداث معها إلى الحلِّ المنطقي، وتتبايَن مراحل العمل الواحد في تعدُّد الأناشيد لبلوغ الهدف الإنساني المطلوب، وإذا اختلفَت الملحمة عن القصة العادية؛ من حيث أغراضها وأسلوبها، فهي لا تقف عن السرد وخَلقِ المتعة الأدبية، بل تتخذ مِن التمثيل، وما يُواكبها مِن وصف وتشبيه، ومِن الحوار المسرحي الخطابي سبيلاً إلى السيطرة على العقول.

وللملحمة موضوع بطولي شعبي، هو صراع بين حضارتَين، صراع مِن أجل البناء البشري والوجود الإنساني، ولذا نجد شِعر الملاحم يَحوم حول كرامة أمَّة، وحماية تراث، وإثبات حق، وتدعيم مصير، وحفظ كيان، وصيانة عقيدة، "وتلك السمات لا تَصدُق إلا على الشِّعر الملحمي الإسلامي"، أما ما كان مِن الملاحم عن التاريخ الإنساني المجرَّد بما فيه مِن قيم صالحة وطالحة فهو شِعر ملحميٌّ يقوم على خلق الصراع الذي يَمتزِج فيه الواقع بالأسطورة، وتعدُّد العقائد الممتزجة بالخرافات، ونجد هذا اللون أكثر بروزًا وأعمَّ ظهورًا عند الأمم الوثنية؛ لتحرُّرها وإيغالها في مجال الأساطير الذي يُمليه عليها تعدُّد آلهتها، وتبايُنُ عقائدها، ولنترك الحديث عن مجال البحث في ملاحم هذه الأمة لنتبيَّن هل يوجد في الشِّعر العربي عند الجاهليين شعر من هذا اللون؟ إن العرب في جاهليتهم عرفوا الشعر الملحميَّ، ولكنهم لم يَعرِفوا الملحمَة كبناء فني على الرغم مِن وجود الموضوعات ووفرة العبقريات ووجود الأدب اليوناني بينهم ومعرفتهم له، وخير دليل على معرفتهم له ما ذكره الجاحظ في البيان والتبيين من تحليل وتعليل الفوارق بين شعر الإغريق وشِعر العرب، وعلى الرغم مِن وقوفهم على شهنامة الفرس وعلى شيء مِن أدب الهند فإنهم لم يَستسيغوا هذا النوع مِن الأدب أو مِن الشِّعر وهم يُقلِّدوه، بل ظلوا في مَعزِل عنه، وهذا ما حدا بابن الأسير أحد النقاد القدماء إلى الحكم بالتقصير في النفَس الشِّعري عند العرب على الرغم من أنهم أبناء بطولة وفروسية وفيض شِعريٍّ، ونَكتفي بالحديث عن العِلل والأسباب التي مِن أَجلِها تأخَّر الشِّعر العربي عند الجاهليِّين عن طول الشِّعر الملحميِّ غير مُغفِلين ما له مِن قصائد طوال عُرفت بالمُسمَّطات والمُطوَّلات والمُعلَّقات والحوليات والمُجمهَرات لكنها على أيِّ حالٍ لا تَصِل إلى حد الملاحم المعروفة عند غيرها من الأمم.