الدبلوماسية الإسلامية عبر العصور
أ.د. حسن عبد الغني أبوغدة

تمهيد:
نشأت الدبلوماسية بين الأمم والدول منذ القديم كوسيلة للتفاهم والاتصال؛ وذلك نظرا لحاجة المجتمعات إليها، باعتبارها مفتاح العلاقات الدولية التي تتداخل فيها المصالح، ولا يستغني فيها أحد عن غيره. فما هي الدبلوماسية ؟ وما تاريخ نشأتها؟ وما مدى مشاركة المسلمين فيها؟وما أهم معالمها المعاصرة؟
مفهوم الدبلوماسية:
الدبلوماسية: كلمة يونانية الأصل مشتقة من لفظة: " دبلو " ( diploo ). ومعناها: الطَوْيُ والثَنْيُ، ومنها جاء اسم تلك الوثيقة الرسمية التي كانت تُطوى وتُثنى، والتي عرفت بالدبلوما ( diploma ). وكان يَبعث بها الحكام بعضُهم إلى بعض في علاقاتهم الدولية الرسمية.
وقد تطور النشاط الدبلوماسي نسبيا بممارسة الرومان له، ثم ممارسته من قبل العرب في الجاهلية والإسلام، وغيرهم من الدول والأمم الأوربية الحديثة كالفرنسيين والإنجليز... وصار من دلالاته الشائعة ممارسة الكياسة واللباقة والمهارة في التعامل.
ثم غدا العمل الدبلوماسي مصطلحا على عِلْمٍ متكاملٍ له أسسه ونظرياته ومعالمه وامتيازا ته وأحكامه الدولية المتعارف عليها، والتي يقصد بها في النهاية: إتقان فن إدارة العلاقات بين الدول وتوثيقها وتنميتها نحو الأفضل في زمن السلم، وفض المنازعات ونحوها في زمن الحرب.
صور قديمة من الدبلوماسية:
مارست المجتمعات القديمة العمل الدبلوماسي منذ آلاف السنين، وعُرِف به الصينيون، والهنود القدماء، والفراعنة، وقد ذكر لنا القرآن الكريم بعض صور الدبلوماسية القديمة فيما حكاه عن النبي سليمان - عليه السلام - وبلقيس ملكة سبأ، وذلك عبر " الهدهد " الرسول السفير اللطيف السريع، الذي حمل رسالة فيها أوجز العبارات وأجزل المعاني، قال الله تعالى في حكاية ماجرى بين سليمان والهدهد وبلقيس: { اذهب بكتابي هذا فالقهْ إليهم ثم تولَّ عنهم فانظر بِمَ يرجع المرسلون. قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلو عليَّ وأتوني مسلمين }. ثم قال عن الملكة بلقيس:{ وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بِمَ يرجع المرسلون... }. الآيات 28 ـ 35من سورة النمل.
وعُمِل بالدبلوماسية أيضا في المجتمع الجاهلي قبل الإسلام، وكانت تسمى السِفارة، وكان يقال لصاحبها: السفير، والرسول، والمبعوث، وظلت وظيفة سفارة قريش في بني عدي ـ قوم عمر بن الخطاب ـ فترة طويلة، وكان عمر آخر سفرائها إلى القبائل الأخرى التي كانت تنازعها وتنافرها وتفاخرها...
ثم قام عمرو بن العاص بمهمة سفير قريش إلى النجاشي ملك الحبشة ليطرد المسلمين الذين فروا إليه بدينهم من أذى قريش، لكنه فشل في إقناع النجاشي بطردهم من بلاده.
وأرسل مسيلمة الكذاب مبعوثًيْن إلى النبي- صلى الله عليه وسلم -ليفاوضاه في إمكان مشاركة مسيلمة له في النبوة، فردهما النبي- صلى الله عليه وسلم -قائلا: " لو لا أن الرسل لا تُقْتَل لضربت أعناقكما". رواه أبو داوود والحاكم.
الدبلوماسـية النبويـة:
بعد أن استقر النبي- صلى الله عليه وسلم -في المدينة المنورة وكوَّن الدولة الإسلامية، تصدَّى في خلال سنواتها الخمس الأولى للحملات العسكرية التي كانت تشنها قريش على المسلمين.
ثم بادر في السنة السادسة من الهجرة بالخروج إلى مكة لأداء العمرة مع ألف وأربعمائة من أصحابه، فصدته قريش عن دخول مكة، وأرسلت إليه وسطاء ورسلا حاولوا ثنيه عن دخول مكة، ومن هؤلاء: بديل بن ورقاء الخز اعي، ثم الحليس بن علقمة، ثم عروة بن مسعود الثقفي. وفشل هؤلاء الدبلوماسيون تباعا في تسوية الخلاف بين الطرفين وتقريب وجهتي نظريهما. فبعث النبي- صلى الله عليه وسلم -عثمان بن عفان سفيرا من طرفه إلى قريش، ليبلغهم أهداف هذه الرحلة الدينية التي جاء المسلمون من أجلها، وأنهم لا يريدون الحرب.
لكن قريشا احتبست عثمان عندها فشاع أنها قتلته، فأقبل الصحابة يبايعون النبي- صلى الله عليه وسلم -تحت الشجرة على قتال قريش حتى الموت؛ جرَّاء ما أشيع عن قتلها عثمان مبعوث المسلمين، وهتكها الأعراف الإنسانية الدبلوماسية في هذا الصدد.
ثم ما لبثت قريش أن أدركت حرج الموقف فأطلقت عثمان، وأرسلت سهيل بن عمرو مبعوثا جديدا، ففاوض النبي- صلى الله عليه وسلم -حتى تم الاتفاق بينهما على مجموعة نقاط، وسُمِّي هذا الاتفاق " صلح الحديبية ".
ثم لم يمض شهران على هذا الصلح حتى قام النبي- صلى الله عليه وسلم -بمكاتبة الملوك والأمراء داخل الجزيرة وخارجها، فأرسل مبعوثه الدبلوماسـي عمرو بن أمية الضمري بكتاب يحمله إلى النجاشي ملك الحبشة، كما أرسل حاطب بن أبي بلتعة مبعوثا دبلوماسيا إلى المقوقس ملك مصر، وكتب إلى كسرى ملك الفرس كتابا حمله إليه الصحابي السفير عبد الله بن حذافة السهمي، وبعث دحية بن خليفة الكلبي سفيرا بكتابه إلى قيصر ملك الروم، كما كتب إلى المنذر بن ساوى أمير البحرين كتابا حمله إليها العلاء بن الحضرمي، وبعث عمرو بن العاص سفيرا إلى ملك عمان...
ومن خلال هؤلاء الدبلوماسيين والسفراء والرسل وغيرهم ـ ممن وردت أسماؤهم في السيرة النبوية ـ استطاع النبي- صلى الله عليه وسلم -أن يبلغ دعوته، ويعرِّف هؤلاء الأمراء والملوك وشعوبهم بمبادئ الإسلام الإنسانية التي أرسله الله تعالى بها؛ لينير للناس طريق الحياة السعيدة.
الدبلوماسية في العصر الأموي:
صارت دمشق عاصمة الدولة الأموية فغدت أقوى وأقرب الحواضر الإسلامية إلى القسطنطينية عاصمة دولة بيزنطة وريثة الدولة الرومانية، فنشطت الدبلوماسية الإسلامية في تقديم العديد من الخدمات الإنمائية والتجارية حال السلم، بل قامت أيضا في حال الحرب بجهود واضحة ضخمة للوصول إلى فك الاشتباك والنزاع بين الطرفين في العديد من الحالات.
ومما يروى في هذا: أن الخليفة مروان بن عبد الملك أوفد الشعبي التابعي المعروف سفيرا إلى الإمبراطور " جوستنيان الثاني " في العام 70 للهجرة؛ وذلك لحل بعض المنازعات وتوطيد العلاقات بين الطرفين، وقد أثنى الإمبراطور في كتابه إلى الخليفة على لباقة سفيره الشعبي ومهارته وحنكته وفصاحته ونجاحه في إدارة الحوار والوصول إلى حلول مقبولة لدى الطرفين.
الدبلوماسية في العصر العباسي:
استمرت الدبلوماسية الإسلامية في أداء دورها الدعوي والإنساني وتطويره في العصر العباسي، ومن أشهر تلك النشاطات إرسال هارون الرشيد وفدا من المبعوثين، معهم الكثير من الهدايا والابتكارات الإسلامية العلمية ـ ومنها الساعة الميكانيكية الدقَّاقة ـ إلى " شارلمان " ملك الفرنجة، الذي أبدى هو وحاشيته إعجابهم بتلك الهدايا القيمة، وبما وصل إليه المسلمون ـ وقتذاك ـ من اختراعات وحضارة وتقدم.
كما أرسل الخليفة المتوكل نصر بن الأزهر سفيرا إلى إمبراطور الروم " ميخائيل " لدراسة موضوع تبادل الأسرى وقبول الفداء بين المسلمين ودولة الروم، وقد نجح هذا السفير في مهمته وافتدى ( 2300 ) أسير من المسلمين كانوا في بلاد الروم.
الدبلوماسية في عصور إسلامية لاحقة:
تابعت الدبلوماسية الإسلامية نشاطاتها حال السلم وحال الحرب بين الدولة الإسلامية والدول المجاورة، وذلك على أيدي الأمويين في الأندلس، ثم الفاطميين في مصر، ثم الأيوبيين في الشام، ثم العثمانيين في اسطنبول...
ومن هذه النشاطات الدبلوماسية المرويَّة عن الفاطميين إرسال الخليفة المستنصر بالله عددا من المبعوثين إلى " قسطنطين " ملك الروم في عام 466 للهجرة، للتفاوض معه من أجل تزويد مصر بكميات كبيرة من القمح؛ بسبب ما حلَّ بها من قحط وجفاف، فوافق الإمبراطور على ذلك، لكن المنية عاجلته قبل إنفاذ الصفقة، فخلفته في الحكم الإمبراطورة " تيودورا " واشترطت على المستنصر الدخول معها في تحالف عسكري ضد خصومها السياسيين فأبى ذلك، فامتنعت من تنفيذ الاتفاق، وفشلت البعثة الدبلوماسية في تحقيق مهمتها.
أسس وأهداف الدبلوماسية الإسلامية:
تقوم أسس وأهداف الدبلوماسية الإسلامية على تعاليم الشريعة الغراء، وهي تنهل منها لتعكس بوضوح تطلعات الإسلام الإنسانية النبيلة إلى توثيق العلاقات وتبادل المصالح بين الشعوب، ومن تلك الأسس والأهداف ما يلي:
1ـ التعريف بالإسلام ومبادئه وفضائله والدعوة إليها: وهذا واضح في الرسائل التي حملها سفراء النبي إلى الملوك والحكام في داخل الجزيرة العربية وخارجها.
جاء في رسالته- صلى الله عليه وسلم -إلى قيصر الروم: " من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين... " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله...".
2ـ حل الخلافات والنزاعات بالطرق السلمية: ويتجلى ذلك في إرسال النبي- صلى الله عليه وسلم -عثمان بن عفان إلى قريش ليطلعهم على حقيقة قدومه، وأنه يريد العمرة ولا يريد الحرب، وهو مستعد للتفاهم إن أرادت قريش ذلك، وقد كان له ما أراد، فأرسلت قريش سهيل بن عمرو إليه، فاتفقا على صلح الحديبية كما هو معروف.
3ـ تنمية العلاقات الإنسانية: تهدف الدبلوماسية في الإسلام إلى تكوين علاقات إنسانية بين المسلمين وغيرهم، وتنمية هذه العلاقات بالوسائل المشروعة والتواصل الاجتماعي والاقتصادي والمعيشي والعلمي والفني... ويشهد لذلك اختلاط المسلمين بقريش بعد صلح الحديبية، وتبادلهم معها المصالح الاقتصادية والمعيشية والمعارف الثقافية، فضلا عن توثيق العلاقات الاجتماعية والرحمية التي تجمع بين الطرفين.
ومن هذا القبيل أيضا: ما حدث في زمن هرون الرشيد الخليفة العباسي الذي أرسل إلى " شارلمان " ملك الفرنجة ( فرنسا ) وفودا تحمل معها الهدايا والمبتكرات العلمية التي أبدعها المسلمون وتفننوا في اختراعها وصناعتها كما هو معروف ومفصل في مواطنه.
الصفات التي راعاها المسلمون في اختيار الدبلوماسيين:
عمد المسلمون إلى مراعاة عدة صفات فيمن يختارونهم لتمثيل بلادهم، ومن هذه الصفات ما يلي:
1ـ الكفاءة الوظيفية: ويراد بها: معرفة أصول العلاقات الدولية في زمن الحرب وزمن السلم، ناهيك عن الاتصاف بسعة العلم والمعرفة، والثقافة العامة، والذكاء، والنباهة، واللباقة، والبصيرة الثاقبة، وشدة التيقظ للمفاجآت، واهتبال الفرص واغتنامها لتحقيق أهدافه.
وقد تجلَّت تلك الأوصاف في جعفر بن أبي طالب حال مناظرته عمرو بن العاص ـ قبل إسلامه ـ لدى النجاشي ملك الحبشة، حيث أراد عمرو مبعوث قريش الإيقاع بجعفر، لكنَّ كفاءة جعفر وحنكته تصدت لكيد عمرو وأبطلت تحريضه على الإسلام والمسلمين في شأن عيسى بن مريم عليه السلام، وذلك حين طلب جعفر من النجاشي أن يستمع إليه ويعرف رأيه، فما وسعه إلا أن يفعل ذلك ويعترف بصدق وصواب ما جاء في القرآن الكريم عن بشرية عيسى عليه السلام وأنه عبد الله ورسوله حقا وصدقا.
2ـ صدق السريرة وحسن الخلق: من أوكد واجبات الدبلوماسي أن يؤمن إيمانا صادقا بنظام الدولة التي يمثلها وينتمي إليها، ويعرض مبادئه وأفكاره وقيمه من خلال تعامله الكريم وخلقه الحسن، بعيدا عن العبث والفظاظة والغطرسة، لا تؤثر فيه المغريات ولا تزعزعه الأوهام والأراجيف، وقد وُصف جعفر بن أبي طالب سفير المسلمين إلى الحبشة بأنه أشبهُ الناس بالنبي- صلى الله عليه وسلم - خَلْقا وخُلُقا، وكفى بهذا ثناء ومدحا.
وحينما راودت قريش عثمان ـ مبعوث النبي- صلى الله عليه وسلم -في الحديبية ـ في أن يعتمر ويطوف حول الكعبة وحده، دون المسلمين الذين جاء يفاوض عنهم أبى ذلك؛ ولاء لقيادته، وانسجاما مع حسن سريرته التي عرف بها، ووفاء لإيمانه وقيمه، ورفض التي المغريات التي عرضتها قريش عليه...
3ـ حسن الصورة والهيئة: أولى المسلمون عناية لافتة بمظهر السفير الخارجي ولياقته ووسامته، لأن ذلك أول ما يقع عليه النظر، وبه يتأثر العامة والخاصة، قال ابن الفرَّاء: يُستَحسن في الرسول تمام القدِّ، وامتداد الطول، وصلابة الجسم وامتلاؤه، فلا يكون قصيرا أو نحيفا، لئلا تقتحمه العيون فتزدريه، وإن كان المرء بأصغريه قلبه ولسانه، لكن الصورة تسبق اللسان، والجسم يستر الجَنان...
وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم -يراعي توفُّر حسن الصورة والهيئة في سفرائه، ومن هؤلاء دحية بن خليفة الكلبي مبعوثه إلى قيصر ملك الروم، فقد كان وسيما، متكامل الخلق، من أجمل الناس هيئة وصورة، وكان جبريل عليه السلام ينزل على النبي- صلى الله عليه وسلم -في صورته. كما كان جعفر بن أبي طالب ممثل المسلمين عند ملك الحبشة جميل الصورة حسن الشكل والهيئة، يشبه النبي- صلى الله عليه وسلم -خَلْقا وخُلُقا.
4ـ الفصاحة وحسن البيان: ينبغي أن يكون الدبلوماسي فصيح الكلام حسن البيان، متقنا لغة من أرسل إليهم؛ وذلك ليتمكن من إبلاغ ما يريد والتعبير عنه بيسر وسهولة، والقيام بمهمته ومعالجة الأمور دون تباطؤ أو عجز أو اضطراب أو تكلُّف. وسبق بيان ما قاله إمبراطور البيزنطيين في الشعبي سفير الخليفة الأموي مروان بن عبد الملك.
5ـ معرفة أحوال الدولة الموفد إليها: ينبغي أن تتوفر في الدبلوماسي المعرفة بالأحوال الاجتماعية والثقافية والسياسية والمعيشية... في الدولة الموفد إليها، فضلا عن إلمامه بعادات الناس ومناسباتهم وتقاليدهم؛ ليكون ذلك أقرب إلى التفاهم معهم وأجدى في تحقيق مهمته، وتنمية العلاقة بين دولته والدولة التي أوفد إليها.
ويشهد لهذا: أن جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان يعلم الأحوال السياسية والدينية في الحبشة، وأن ملكها يتصف بالعدل فلا يظلم عنده أحد، وأنه يؤمن ببشرية عيسى عليه السلام عبد الله ورسوله، وأنه أقرب إلى المسلمين الموحِّدين منه إلى القرشيين الوثنيين...
الحصانة الدبلوماسية عند المسلمين:
أرسى الإسلام مبدأ المعاملة بالمثل في كثير من قضايا العلاقات الدولية، ومن ذلك ما يتصل بالدبلوماسيين وضرورة تأمين كافة أشكال " الحصانة " لهم، وبيان ذلك على النحو التالي:
1ـ الحصانة الشخصية في النفس والمسكن والمقتنيات: وهذا حق من حقوق الدبلوماسي وأسرته، لأنه جاء باتفاقية وعهد وأمان، وبموافقة من سلطات الدولة المضيفة، فلا يجوز التعرض له، أو الاعتداء عليه، أو مضايقته، أو تفتيش أمتعته الشخصية، أو التعرض لأسرته... وهذا عرف إنساني قديم، أقره الإسلام من باب المعاملة بالمثل، قال النبي- صلى الله عليه وسلم -لمبعوثَيْ مسيلمة اللذيْن ارتدَّا عن الإسلام واتَّبعا مسيلمة: " لو لا أن الرسُل لا تُقْتَل لضربت أعناقكما ". أي: لكفرهما بعد أن كانا مسلمين. والحديث رواه أبو داوود والحاكم. قال ابن القيم: مضت السنَّة أن الرسول ـ أي: الدبلوماسي ـ لا يُقْتَل ولو ارتد عن الإسلام.
2ـ الحصانة المالية والإعفاء من الضرائب والرسوم في حدود معينة: ذكر أبو يوسف القاضي في كتابه: " الخراج ": أنه لا تؤخذ من الرسول ضرائب كالعُشْر ونحوه، إلا ما كان معه من بضاعة وسلع للتجارة، أما غير ذلك من أمتعته الخاصة وحاجاته الشخصية فلا ضرائب فيها ولا عُشر.
3ـ الحصانة القضائية والعدلية: للفقـه الإسلامي في هذا الصدد موقف مستقل عن غيره، وأسـاس هذا الموقف تحميل المعاهد أو المستأمن، ومثله المبعوث الدبلوماسي ونحوه المسـؤولية المدنية المالية، والمسؤولية الجنائيـة الجزائية عما يرتكبه من أعمال في بلاد الإسلام؛ لأنـه ملزم بأحكامها حال إقامته فيها أو وجوده على أراضيها الإقليمية، وبيان هذا ـ إجمالا ـ على النحو التالي:
أ ـ اتفق الفقهاء على وجوب استيفاء الحقوق والحدود من المعاهد والمستأمن والدبلوماسي ونحوه إذا تعلقت بالأفراد، ويعبر عن هذه الحقوق في الفقه الإسلامي بحقوق العباد، كالضرب والشتم والسرقة والقذف والقتل، وتقوم هذه الفكرة على مبدأ فطري هو: أن حقوق الأفراد قائمة على المفاتشة والمشاححة، بخلاف حقوق الله تعالى القائمة على المسامحة.
ب ـ اختلف الفقهاء في وجوب استيفاء الحقوق والحدود من المعاهد والمستأمن والدبلوماسي ونحوه إذا تعلقت بالحق العام أو النظام العام، ويعبر عن هذا في الفقه الإسلامي بحقوق الله تعالى:
فقال الجمهور: لا تقام حدود الحق العام ولا عقوباته على هؤلاء ونحوهم ، لئلا تُخِلَّ إقامتها بإبلاغهم مأمنهم المأمور به في الآية: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه } الآية/ 6 من سورة التوبة.
وقال أبو يوسف القاضي وبعض الشافعية: تقام حدود الحق العام وتستوفى عقوباته على هؤلاء إحقاقا للحق والعدل، وقياسا على المواطن الذمي في بلاد الإسلام، ولأن المعاهد ونحوه ملتزم ضمنا بمجمل أنظمة الدولة حال مكوثه فيها.
والقول الأخير هو المتعارف عليه والمستقر التعامل به بين الدول في الجملة، وذلك لضمان الأمن والاستقرار، وفرض هيبة القوانين الإقليمية. علما بأن البعض يرى أن تبلغ الدولة المضيفة دولة الموفد بإجراءات محاكمته في أراضيها، كما أن لها أن تعتبره شخصا غير مرغوب فيه، وتطرده من البلاد للمحافظة على سيادتها وسلامتها.
ملامح من الدبلوماسية الحديثة:
طرأ في الأزمنة الأخيرة تطور كبير على الساحة الدولية فـي العمل الدبلوماسي، حيث طور " مؤتمر فينا " في عام 1815م قواعد العمل الدبلوماسي بين الدول، ووضع لائحة درجات الممثلين الدبلوماسيين، ووضَّح الكثير من قواعد العادات والتقاليد والمواسم في الاستقبالات، واستقرار وإقامة الدبلوماسيين في البلاد التي يوفدون إليها بعد أن كانوا يمكثون فيها وقت أداء مهمتهم التي أرسلوا إليها فقط، وأرسى موضوع اصطحابهم لأسرهم إلى تلك البلاد، وتخصيص أماكن لعملهم وسكنهم، وتأمين ممارسة مهامهم بحصانة تامة وحماية من الدولة المضيفة...
ثم جاءت " اتفاقية فينا " المعقودة بين دول العالم في عام 1961م بتطوير العلاقات الدبلوماسية، وتوضيح ألقاب أفراد البعثات الدبلوماسية ( الوزير المفوض، السفير، القنصل، الملحق الثقافي، الملحق التجاري... ) ومساعديهم ومستخدميهم، وحقوق كلٍ وواجباته، ودوائر اختصاصاته ونشاطاته السياسية، أو القنصلية، أو الثقافية، أو العسكرية، أو التجارية، أو الإدارية، أو الفنية، أو المكتبية...
كما أنه تم في العديد من الدول إنشاء المعاهد العلمية والكليات المتخصصة لتدريس العلوم السياسية، والمهارات الدبلوماسية، وأصول العلاقات الدولية، واللغات الأجنبية، ونحوها مما يساعد على تحقيق مزيد من التقارب والتواصل وتبادل المصالح بين الدول والشعوب...
الخـاتمـة:
وهكذا يتضح من خلال ما سبق معالم ومكانة الدبلوماسية عند الأمم القديمة مرورا بالعصور الإسلامية، التي أرست قواعد مميزة في الأسس والأهداف والصفات، التي ينبغي أن تراعى في اختيار الدبلوماسيين، وما يعامل به الدبلوماسيون الأجانب أثناء مكوثهم في البلاد الإسلامية. كما يتضح مدى التطور المعاصر الكبير الذي طرأ على العمل الدبلوماسي وألقاب أفراده، وما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات نصت عليها الاتفاقيات الدولية المتوالية.