تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: التحذير من التعصب المقيت

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي التحذير من التعصب المقيت

    التَّحذير من التَّعَصُّبِ المَقِيت
    إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُه ُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
    إنَّ انتشار المذاهب الفقهية عند أهل السُّنة أخذ مراحل وأطواراً حتى استقرَّ على ما استقرَّ عليه من ثبوت المذاهب الأربعة، مضافاً إليه مذهب الظاهرية، وهذه المذاهب هي مذاهب فقهية، وإلاَّ فهم مُنتسبون إلى منهج أهل السنة والجماعة في التلقي والاستدلال، والعمل والتطبيق، والأخلاق والسلوك.
    هذا ما أردتُ التَّنويهَ إليه ابتداءً؛ ولكن ورغم انتمائهم إلى منهج أهل السُّنة إلاَّ أنَّنا وجدنا تفاوتاً بين بعض المُنتسبين إليها في مدى القُرب أو البُعد عن السُّنة، ارتبط هذا التفاوت بمدى معرفتهم بعلم الحديث وروايتهم له، ومدى تعصُّبِهم للمذهب وتقديمِهم له على غيره، وقد كان لهذا التَّعصُّب أثر بالغ في توجيه آرائهم وموقفِهم من الحديث، وأقل ما يوصف به تعصبهم أنه جانَبَ الصوابَ، وكان من الأَولى ألاَّ يقع مثل هذا من هؤلاء الفقهاء المنتسبين إلى السُّنة.وهناك أحقاد متأصِّلة، واتهامات متبادلة، وحروب متطاولة، وهجمات عنيفة بين بعض أتباع المذاهب على مرِّ التاريخ، وإلى يومنا هذا؛ بسبب التعصب الأعمى للمذهب المتبوع، وترجيحه على المذاهب الأخرى؛ كما قال ابن القيم رحمه الله: (جعلوا التَّعصُّبَ للمذاهب ديانتَهم التي بها يدينون، ورءوسَ أموالهم التي بها يَتَّجِرون، وآخَرُون منهم قَنَعوا بمحض التَّقليد، وقالوا: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 23].
    والفريقان بمعزِلٍ عمَّا ينبغي اتِّباعه من الصواب.
    وكيف يكون من ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم مَنْ يجهدُ ويَكدحُ في ردِّ ما جاء به إلى قولِ مُقَلِّدِه ومتبوعِه، ويُضيع ساعات عُمره في التعصُّب والهوى، ولا يشعر بتضييعه.تاللهِ إنها فتنةٌ عَمَّتْ فأَعْمَتْ، ورمت القلوبَ فأصَمَّتْ، ربَا عليها الصغير، وهرم فيها الكبير، واتُّخِذَ لأجلها القرآنُ مهجوراً[1]، وكان ذلك بقضاء الله وقَدَرِه في الكتاب مسطوراً، ولمَّا عمَّت بها البلية، وعظمت بسبها الرَّزية؛ بحيث لا يَعرف أكثرُ الناس سواها، ولا يَعدُّون العلمَ إلاَّ إياها. فطالِبُ الحقِّ من مظانِّه لديهم مفتون، ومُؤثِرُه على ما سواه عندهم مغبون، نصبوا لِمَنْ خالفهم في طريقتهم الحبائل، وبغوا له الغوائل، ورموه عن قوسِ الجهل والبغي والعناد، وقالوا لإخوانهم؛ كما قال فرعونُ لملئه في موسى: ﴿ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ ﴾ [غافر: 26])[2].
    وقد نتج عن ذلك: هجر السنة النبوية؛ تقليداً وتعصُّباً لمذهب الإمام المتبوع؛ بل وصل الحال إلى التعدِّي على الأئمة والحطِّ من أقدارهم وتسفيه آرائهم وإن كانت راجحة، ومبنية على الدليل الصحيح[3].
    ومن نماذج التعصُّب المقيت[4]:
    1- ما قاله الحصفكي - وهو من أشهر المؤلفين في "الفقه الحنفي": (إذا سُئِلنا عن مذهبِنا ومذهب مخالِفنا؛ قلنا وجوباً: مذهبُنا صوابٌ يحتمل الخطأ، ومذهبُ مخالِفِنا خطأٌ يحتمل الصواب، وإذا سُئِلنا عن معتقدنا ومعتقد خصومنا؛ قلنا وجوباً: الحقُّ ما نحن عليه، والباطل ما عليه خصومُنا)[5].
    2- ومما نَظَمَه الحصفكي في "مدح الإمام أبي حنيفة":
    فَلَعْنَةُ رَبِّنَا[6] أَعْدَادَ رَمْلٍ
    عَلَى مَنْ رَدَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَهْ[7]
    3- وقد بلغ الغلو عند "الحصفكي" إلى أنْ يُنزل الإمامَ أبا حنيفة رحمه الله منزلةً لم يبلغها الصحابة رضي الله عنهم، فيقول: (وَالْحَاصِلُ: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ النُّعْمَانَ مِنْ أَعْظَمِ مُعْجِزَاتِ الْمُصْطَفَى بَعْدَ الْقُرْآنِ، وَحَسْبُك مِنْ مَنَاقِبِهِ اشْتِهَارُ مَذْهَبِهِ. مَا قَالَ قَوْلاً إلاَّ أَخَذَ بِهِ إمَامٌ مِنْ الأئِمَّةِ الأعْلامِ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْحُكْمَ لأصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ مِنْ زَمَنِهِ إلَى هَذِهِ الأيَّامِ، إلَى أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِهِ عِيسَى عليه السلام)[8].
    4- قال أبو الحسن الكرخي الحنفي: (كلُّ آيةٍ تُخالف ما عليه أصحابُنا؛ فهي مؤولة أو منسوخة، وحديثٍ كذلك؛ فهو مؤول أو منسوخ)[9]، وهذا من الغلو الظاهر، والذي نُهينا عنه، حتى مع خير البشر، نبيِّنا وسيِّدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
    5- نَظَمَ منذر بن سعيد رحمه الله عدَّة أبياتٍ تُصَوِّر ما كان عليه بعض فقهاء المالكية "المقلِّدين للإمام مالكٍ" بدون دليل ولا برهان:
    عَذِيرِي[10] مِن قومٍ يقولون كلَّما
    طلبتُ دليلاً: هكذا قال مالكُ

    فإنْ عُدتُ قالوا: هكذا قال أشهبُ
    وقد كان لا تخفى عليه المسالِكُ

    فإنْ زِدتُ قالوا: قال سُحْنُونُ مِثلُه
    ومَنْ لم يقلْ ما قاله فهو آفِكُ

    فإنْ قلتُ: قال "اللهُ" ضجُّوا وأكثَروا
    وقالوا جميعاً: أنتَ قِرنٌ مُماحِكُ

    وإنْ قلتُ: قد قال "الرسول" فقولهم
    ائت مالكاً في ترك ذاك المَسالِكُ[11]
    6- وقال إمام الحرمين الجويني الشافعي: (نحن ندَّعِي: أنه يجب على كافَّة العاقلين وعامة المسلمين شرقاً وغرباً، بُعداً وقُرباً انْتِحَالُ مذهبِ الشافعي، ويجب على العوامِّ الطَّغام والجُهَّال الأنذال أيضاً انتحالُ مذهبه؛ بحيث لا يبغون عنه حِوَلاً، ولا يريدون به بَدَلاً)[12].
    7- ونظم أحد متعصِّبة الحنابلة؛ كما وُجِدَ مكتوباً على نسخةٍ خَطِّيَّةٍ لكتاب "منار السبيل" في "الفقه الحنبلي":
    أنا حنبليٌّ ما حييتُ وإنْ أَمُتْ
    فوَصِيَّتي للناسِ أنْ يَتَحَنْبَلوا
    وفيها أيضاً:
    لَئِنْ قلَّد الناسُ الأئمةَ إِنَّني
    لَفِي مَذهَبِ الحَبْرِ ابنِ حَنبَلٍ رَاغِبُ

    أُقَلِّدُ فَتواه وأَعْشَقُ قَولَه
    وللناسِ فِيمَا يَعشقون مَذاهِبُ[13]


    [1] وإذا هُجِر القرآنُ هُجِرت السُّنة كذلك؛ لأنهما من مشكاة واحدة.
    [2] إعلام الموقعين، (1/ 7-8) باختصار.
    [3] انظر: إرشاد النقاد (ص 16).
    [4] انظر: زوابع في وجه السنة، (ص 303-305).
    [5] رد المحتار، (1/ 115)؛ إرشاد النقاد، (ص 17).
    [6] كثير هم الذين ردُّوا قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله وخالفوه في كثير من الأصول والفروع، فهل تشمل كلَّ هؤلاء هذه اللعنة؟ نعوذ بالله من التعصُّب.
    [7] رد المحتار، (1/ 147)؛ إرشاد النقاد، (ص 17).
    [8] رد المحتار، (1/ 136).
    [9] رد المحتار، (ص 17).
    [10] (عَذِيرِي): العَذير: النَّصير، يقال: مَنْ عَذِيري من فلانٍ؛ أي: مَنْ نَصِيري. انظر: المحكم والمحيط الأعظم، لابن سِيده (2/ 72).
    [11] جامع بيان العلم وفضله، (1/ 329).
    [12] مغيث الخلق، (ص 16)؛ إرشاد النقاد، (ص 17).
    [13] إرواء الغليل في تخريج أحاديث "منار السبيل"، للألباني (1/ 22-23).
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: التحذير من التعصب المقيت

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو البراء محمد علاوة مشاهدة المشاركة
    قال ابن القيم رحمه الله:
    (جعلوا التَّعصُّبَ للمذاهب ديانتَهم التي بها يدينون، ورءوسَ أموالهم التي بها يَتَّجِرون، وآخَرُون منهم قَنَعوا بمحض التَّقليد، وقالوا: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 23].

    والفريقان بمعزِلٍ عمَّا ينبغي اتِّباعه من الصواب.وكيف يكون من ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم مَنْ يجهدُ ويَكدحُ في ردِّ ما جاء به إلى قولِ مُقَلِّدِه ومتبوعِه، ويُضيع ساعات عُمره في التعصُّب والهوى، ولا يشعر بتضييعه.تاللهِ إنها فتنةٌ عَمَّتْ فأَعْمَتْ، ورمت القلوبَ فأصَمَّتْ، ربَا عليها الصغير، وهرم فيها الكبير، واتُّخِذَ لأجلها القرآنُ مهجوراً، وكان ذلك بقضاء الله وقَدَرِه في الكتاب مسطوراً، ولمَّا عمَّت بها البلية، وعظمت بسبها الرَّزية؛ بحيث لا يَعرف أكثرُ الناس سواها، ولا يَعدُّون العلمَ إلاَّ إياها. فطالِبُ الحقِّ من مظانِّه لديهم مفتون، ومُؤثِرُه على ما سواه عندهم مغبون، نصبوا لِمَنْ خالفهم في طريقتهم الحبائل، وبغوا له الغوائل، ورموه عن قوسِ الجهل والبغي والعناد، وقالوا لإخوانهم؛ كما قال فرعونُ لملئه في موسى: ﴿ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ
    بارك الله فيك
    هذا الاقتباس من مقدمة اعلام الموقعين - ونعيش مع ما قاله الامام ابن القيم فى مقدمته لما فيه من الفوائد العظيمة
    قال ابن القيم أَمَّا بَعْدُ
    فَإِنَّ أَوْلَى مَا يَتَنَافَسُ بِهِ الْمُتَنَافِسُو نَ، وَأَحْرَى مَا يَتَسَابَقُ فِي حَلَبَةِ سِبَاقِهِ الْمُتَسَابِقُو نَ،
    مَا كَانَ بِسَعَادَةِ الْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ كَفِيلًا، وَعَلَى طَرِيقِ هَذِهِ السَّعَادَةِ دَلِيلًا،
    وَذَلِكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ اللَّذَانِ لَا سَعَادَةَ لِلْعَبْدِ إلَّا بِهِمَا،
    وَلَا نَجَاةَ لَهُ إلَّا بِالتَّعَلُّقِ بِسَبَبِهِمَا،
    فَمَنْ رُزِقَهُمَا فَقَدْ فَازَ وَغَنِمَ، وَمَنْ حُرِمَهُمَا فَالْخَيْرُ كُلُّهُ حُرِمَ،
    وَهُمَا مَوْرِدُ انْقِسَامِ الْعِبَادِ إلَى مَرْحُومٍ وَمَحْرُومٍ،
    وَبِهِمَا يَتَمَيَّزُ الْبَرُّ مِنْ الْفَاجِرِ وَالتَّقِيُّ مِنْ الْغَوِيِّ
    وَالظَّالِمُ مِنْ الْمَظْلُومِ،
    وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ لِلْعَمَلِ قَرِينًا وَشَافِعًا، وَشَرَفُهُ لِشَرَفِ مَعْلُومِهِ تَابِعًا،
    كَانَ أَشْرَفُ الْعُلُومِ عَلَى الْإِطْلَاقِ عِلْمَ التَّوْحِيدِ، وَأَنْفَعُهَا عَلَى أَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعَبِيدِ،
    وَلَا سَبِيلَ إلَى اقْتِبَاسِ هَذَيْنِ النُّورَيْنِ، وَتَلَقِّي هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ،
    إلَّا مِنْ مُشَكَّاةِ مَنْ قَامَتْ الْأَدِلَّةُ الْقَاطِعَةُ عَلَى عِصْمَتِهِ،
    وَصَرَّحَتْ الْكُتُبُ السَّمَاوِيَّةُ بِوُجُوبِ طَاعَتِهِ وَمُتَابَعَتِهِ ،
    وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى؛ إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى
    وَلَمَّا كَانَ التَّلَقِّي عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -
    عَلَى نَوْعَيْنِ:
    نَوْعٌ بِوَاسِطَةٍ،
    وَنَوْعٌ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ،
    وَكَانَ التَّلَقِّي بِلَا وَاسِطَةٍ حَظَّ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ حَازُوا قَصَبَاتِ السَّبَّاقِ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى الْأَمَدِ فَلَا طَمَعَ لِأَحَدٍ مِنْ الْأُمَّةِ بَعْدَهُمْ فِي اللِّحَاقِ،
    وَلَكِنْ الْمُبْرِزُ مَنْ اتَّبَعَ صِرَاطَهُمْ الْمُسْتَقِيمَ،
    وَاقْتَفَى مِنْهَاجَهُمْ الْقَوِيمَ
    وَالْمُتَخَلِّف ُ مَنْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ،
    فَذَلِكَ الْمُنْقَطِعُ التَّائِهُ فِي بَيْدَاءِ الْمَهَالِكِ وَالضَّلَالِ،
    فَأَيُّ خَصْلَةٍ خَيْرٌ لَمْ يَسْبِقُوا إلَيْهَا؟
    وَأَيُّ خُطَّةِ رُشْدٍ لَمْ يُسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا؟
    تَاللَّهِ لَقَدْ وَرَدُوا رَأْسَ الْمَاءِ مِنْ عَيْنِ الْحَيَاةِ عَذْبًا صَافِيًا زُلَالًا،
    وَأَيَّدُوا قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَدَعُوا لِأَحَدٍ بَعْدَهُمْ مَقَالًا،
    فَتَحُوا الْقُلُوبَ بِعَدْلِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ،
    وَالْقُرَى بِالْجِهَادِ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَّانِ،
    وَأَلْقَوْا إلَى التَّابِعِينَ مَا تَلَقَّوْهُ مِنْ مُشَكَّاةِ النُّبُوَّةِ خَالِصًا صَافِيًا،
    وَكَانَ سَنَدُهُمْ فِيهِ عَنْ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عَنْ جِبْرِيلَ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ سَنَدًا صَحِيحًا عَالِيًا،
    وَقَالُوا:
    هَذَا عَهْدُ نَبِيِّنَا إلَيْنَا وَقَدْ عَهِدْنَا إلَيْكُمْ،
    وَهَذِهِ وَصِيَّةُ رَبِّنَا وَفَرْضُهُ عَلَيْنَا وَهِيَ وَصِيَّتُهُ وَفَرْضُهُ عَلَيْكُمْ،
    فَجَرَى التَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ عَلَى مِنْهَاجِهِمْ الْقَوِيمِ،
    وَاقْتَفُوا عَلَى آثَارِهِمْ صِرَاطَهُمْ الْمُسْتَقِيمِ،
    ثُمَّ سَلَكَ تَابِعُو التَّابِعِينَ هَذَا الْمَسْلَكَ الرَّشِيدَ، {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24] ،
    وَكَانُوا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ قَبْلَهُمْ كَمَا قَالَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ:
    {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة: 13] {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 14]
    ثُمَّ جَاءَتْ الْأَئِمَّةُ مِنْ الْقَرْنِ الرَّابِعِ الْمُفَضَّلِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ،
    كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ،
    فَسَلَكُوا عَلَى آثَارِهِمْ اقْتِصَاصًا،
    وَاقْتَبَسُوا هَذَا الْأَمْرَ عَنْ مِشْكَاتِهِمْ اقْتِبَاسًا،
    وَكَانَ دِينُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَجَلَّ فِي صُدُورِهِمْ، وَأَعْظَمَ فِي نُفُوسِهِمْ، مِنْ أَنْ يُقَدِّمُوا عَلَيْهِ رَأْيًا أَوْ مَعْقُولًا أَوْ تَقْلِيدًا أَوْ قِيَاسًا،
    فَطَارَ لَهُمْ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ فِي الْعَالَمِينَ،
    وَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ،
    ثُمَّ سَارَ عَلَى آثَارِهِمْ الرَّعِيلُ الْأَوَّلُ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ،
    وَدَرَجَ عَلَى مِنْهَاجِهِمْ الْمُوَفَّقُونَ مِنْ أَشْيَاعِهِمْ، زَاهِدِينَ فِي التَّعَصُّبِ لِلرِّجَالِ،
    وَاقِفِينَ مَعَ الْحُجَّةِ وَالِاسْتِدْلَا لِ،
    يَسِيرُونَ مَعَ الْحَقِّ أَيْنَ سَارَتْ رَكَائِبُهُ،
    وَيَسْتَقِلُّون َ مَعَ الصَّوَابِ حَيْثُ اسْتَقَلَّتْ مَضَارِبُهُ،
    إذَا بَدَا لَهُمْ الدَّلِيلُ بِأُخْذَتِهِ طَارُوا إلَيْهِ زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانًا،
    وَإِذَا دَعَاهُمْ الرَّسُولُ إلَى أَمْرٍ انْتَدَبُوا إلَيْهِ وَلَا يَسْأَلُونَهُ عَمَّا قَالَ بُرْهَانًا،
    وَنُصُوصُهُ أَجَلُّ فِي صُدُورِهِمْ وَأَعْظَمُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَنْ يُقَدِّمُوا عَلَيْهَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، أَوْ يُعَارِضُوهَا بِرَأْيٍ أَوْ قِيَاسٍ
    ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ،
    وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا وَكُلٌّ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ،
    جَعَلُوا التَّعَصُّبَ لِلْمَذَاهِبِ دِيَانَتَهُمْ الَّتِي بِهَا يَدِينُونَ، وَرُءُوسَ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي بِهَا يَتَّجِرُونَ،
    وَآخَرُونَ مِنْهُمْ قَنَعُوا بِمَحْضِ التَّقْلِيدِ وَقَالُوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] ،
    وَالْفَرِيقَانِ بِمَعْزِلٍ عَمَّا يَنْبَغِي اتِّبَاعُهُ مِنْ الصَّوَابِ،
    وَلِسَانُ الْحَقِّ يَتْلُو عَلَيْهِمْ: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُم ْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء: 123] ،
    قَالَ الشَّافِعِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ تَعَالَى رُوحَهُ:

    أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَبَانَتْ لَهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ،
    قَالَ أَبُو عُمَرَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ:
    أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ الْمُقَلِّدَ لَيْسَ مَعْدُودًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَنَّ الْعِلْمَ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ،
    وَهَذَا كَمَا قَالَ أَبُو عُمَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
    فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ الْحَاصِلَةُ عَنْ الدَّلِيلِ،
    وَأَمَّا بِدُونِ الدَّلِيلِ فَإِنَّمَا هُوَ تَقْلِيدٌ فَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَانِ الْإِجْمَاعَانِ إخْرَاجَ الْمُتَعَصِّبِ بِالْهَوَى وَالْمُقَلِّدِ الْأَعْمَى عَنْ زُمْرَةِ الْعُلَمَاءِ،
    وَسُقُوطَهُمَا بِاسْتِكْمَالِ مَنْ فَوْقَهُمَا الْفُرُوضَ مِنْ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ،
    فَإِنَّ «الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» ،
    وَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ وَرَثَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ يَجْهَدُ وَيَكْدَحُ فِي رَدِّ مَا جَاءَ بِهِ إلَى قَوْلِ مُقَلِّدِهِ وَمَتْبُوعِهِ،
    وَيُضَيِّعُ سَاعَاتِ عُمْرِهِ فِي التَّعَصُّبِ وَالْهَوَى وَلَا يَشْعُرُ بِتَضْيِيعِهِ
    تَاللَّهِ إنَّهَا فِتْنَةٌ عَمَّتْ فَأَعْمَتْ،
    وَرَمَتْ الْقُلُوبَ فَأَصْمَتْ،
    رَبَا عَلَيْهَا الصَّغِيرُ،
    وَهَرِمَ فِيهَا الْكَبِيرُ،
    وَاُتُّخِذَ لِأَجْلِهَا الْقُرْآنُ مَهْجُورًا،
    وَكَانَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا،
    وَلَمَّا عَمَّتْ بِهَا الْبَلِيَّةُ، وَعَظُمَتْ بِسَبَبِهَا الرَّزِيَّةُ،
    بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُ أَكْثَرُ النَّاسِ سِوَاهَا،
    وَلَا يُعِدُّونَ الْعِلْمَ إلَّا إيَّاهَا،
    فَطَالِبُ الْحَقِّ مِنْ مَظَانِّهِ لَدَيْهِمْ مَفْتُونٌ،
    وَمُؤْثِرُهُ عَلَى مَا سِوَاهُ عِنْدَهُمْ مَغْبُونٌ،
    نَصَبُوا لِمَنْ خَالَفَهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ الْحَبَائِلَ،
    وَبَغَوْا لَهُ الْغَوَائِلَ، وَرَمَوْهُ عَنْ قَوْسِ الْجَهْلِ وَالْبَغْيِ وَالْعِنَادِ،
    وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ :
    إنَّا نَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يَظْهَرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ
    فَحَقِيقٌ بِمَنْ لِنَفْسِهِ عِنْدَهُ قَدْرٌ وَقِيمَةٌ،
    أَلَا يَلْتَفِتَ إلَى هَؤُلَاءِ وَلَا يَرْضَى لَهَا بِمَا لَدَيْهِمْ،
    وَإِذَا رُفِعَ لَهُ عِلْمُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ شَمَّرَ إلَيْهِ وَلَمْ يَحْبِسْ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ،
    فَمَا هِيَ إلَّا سَاعَةٌ حَتَّى يُبَعْثَرَ مَا فِي الْقُبُورِ،
    وَيُحَصَّلُ مَا فِي الصُّدُورِ،
    وَتَتَسَاوَى أَقْدَامُ الْخَلَائِقِ فِي الْقِيَامِ لِلَّهِ،
    وَيَنْظُرُ كُلُّ عَبْدٍ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ،
    وَيَقَعُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمُحِقِّينَ وَالْمُبْطِلِين َ،
    وَيَعْلَمُ الْمُعْرِضُونَ عَنْ كِتَابِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ
    وَلَمَّا كَانَتْ الدَّعْوَةُ إلَى اللَّهِ وَالتَّبْلِيغُ عَنْ رَسُولِهِ شِعَارُ حِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ، وَأَتْبَاعِهِ مِنْ الْعَالَمِينَ،
    كَمَا قَالَ تَعَالَى:
    {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]
    وَكَانَ التَّبْلِيغُ عَنْهُ مِنْ عَيْنِ تَبْلِيغِ أَلْفَاظِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ وَتَبْلِيغِ مَعَانِيهِ
    كَانَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أُمَّتِهِ مُنْحَصِرِينَ
    فِي قِسْمَيْنِ:
    أَحَدُهُمَا:
    حُفَّاظُ الْحَدِيثِ، وَجَهَابِذَتُهُ ، وَالْقَادَةُ الَّذِينَ هُمْ أَئِمَّةُ الْأَنَامِ وَزَوَامِلُ الْإِسْلَامِ، الَّذِينَ حَفِظُوا عَلَى الْأَئِمَّةِ مَعَاقِدَ الدِّينِ وَمَعَاقِلَهُ، وَحَمَوْا مِنْ التَّغْيِيرِ وَالتَّكْدِيرِ مَوَارِدَهُ وَمَنَاهِلَهُ، حَتَّى وَرَدَ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ الْحُسْنَى تِلْكَ الْمَنَاهِلَ صَافِيَةً مِنْ الْأَدْنَاسِ لَمْ تَشُبْهَا الْآرَاءُ تَغْيِيرًا، وَوَرَدُوا فِيهَا {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6] ،
    وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي خُطْبَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي كِتَابِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة ِ:
    الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانِ فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
    يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إلَى الْهُدَى،
    وَيَصْبِرُونَ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى،
    وَيُحْيُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَوْتَى،
    وَيُبَصِّرُونَ بِنُورِ اللَّهِ أَهْلَ الْعَمَى،
    فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ لِإِبْلِيسٍ قَدْ أَحْيَوْهُ، وَكَمْ مِنْ ضَالٍّ تَائِهٍ قَدْ هَدَوْهُ،
    فَمَا أَحْسَنَ أَثَرَهُمْ عَلَى النَّاسِ
    وَمَا أَقْبَحَ أَثَرَ النَّاسِ عَلَيْهِمْ،
    يَنْفُونَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالِ الْمُبْطِلِينَ،
    وَتَأْوِيلِ الْجَاهِلِينَ، الَّذِينَ عَقَدُوا أَلْوِيَةَ الْبِدْعَةِ، وَأَطْلَقُوا عَنَانَ الْفِتْنَةِ،
    فَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ، مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ، مُجْمِعُونَ عَلَى مُفَارَقَةِ الْكِتَابِ،
    يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ وَفِي اللَّهِ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ،
    يَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِه ِ مِنْ الْكَلَامِ، وَيَخْدَعُونَ جُهَّالَ النَّاسِ بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ؛ فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْمُضِلِّينَ
    الْقِسْمُ الثَّانِي:
    فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ دَارَتْ الْفُتْيَا عَلَى أَقْوَالِهِمْ بَيْنَ الْأَنَامِ،
    الَّذِينَ خُصُّوا بِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ،
    وَعَنَوْا بِضَبْطِ قَوَاعِدِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ؛ فَهُمْ فِي الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ، بِهِمْ يَهْتَدِي الْحَيْرَانُ فِي الظَّلْمَاءِ،
    وَحَاجَةُ النَّاسِ إلَيْهِمْ أَعْظَمُ مِنْ حَاجَتِهِمْ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ،
    وَطَاعَتُهُمْ أَفْرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ طَاعَةِ الْأُمَّهَاتِ وَالْآبَاءِ بِنَصِّ الْكِتَابِ،
    قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ
    فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا}
    [النساء: 59]
    قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ عَنْهُ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ عَنْهُ:
    أُولُو الْأَمْرِ هُمْ الْعُلَمَاءُ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
    وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ:
    هُمْ الْأُمَرَاءُ،
    وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ [طَاعَةُ الْأُمَرَاءِ تَابِعَةٌ لِطَاعَةِ الْعُلَمَاءِ]
    وَالتَّحْقِيقُ
    أَنَّ الْأُمَرَاءَ إنَّمَا يُطَاعُونَ إذَا أَمَرُوا بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ؛
    فَطَاعَتُهُمْ تَبَعٌ لِطَاعَةِ الْعُلَمَاءِ؛
    فَإِنَّ الطَّاعَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْمَعْرُوفِ وَمَا أَوْجَبَهُ الْعِلْمُ،
    فَكَمَا أَنَّ طَاعَةَ الْعُلَمَاءِ تَبَعٌ لِطَاعَةِ الرَّسُولِ
    فَطَاعَةُ الْأُمَرَاءِ تَبَعٌ لِطَاعَةِ الْعُلَمَاءِ،
    وَلَمَّا كَانَ قِيَامُ الْإِسْلَامِ بِطَائِفَتَيْ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ،
    وَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ لَهُمْ تَبَعًا،
    كَانَ صَلَاحُ الْعَالَمِ بِصَلَاحِ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْن ِ،
    وَفَسَادُهُ بِفَسَادِهِمَا،
    كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ:
    صِنْفَانِ مِنْ النَّاسِ إذَا صَلَحَا صَلَحَ النَّاسُ، وَإِذَا فَسَدَا فَسَدَ النَّاسُ،
    قِيلَ: مَنْ هُمْ؟
    قَالَ:
    الْمُلُوكُ، وَالْعُلَمَاءُ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ:
    رَأَيْت الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ ... وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إدْمَانُهَا
    وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ ... وَخَيْرٌ لِنَفْسِك عِصْيَانُهَا
    وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إلَّا الْمُلُوكُ ... وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا
    كتاب إعلام الموقعين عن رب العالمين

    [ابن القيم]

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •