من دروس رمضان: الدعوة (معالمها- ٱدابها- ٱمالها)
.
كتبه/ عبد المنعم الشحات


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ففي رمضان منذ حوالي أربعة عشر قرنًا نزل القرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق:1-5).

كانت هذه هي أهم معالم تلك الدعوة... الله الخالق الذي يجعل من العلقة الحقيرة إنسانا سويًّا، هو الله الهادي الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولكن ها هنا فرق هام بين الخلق والهداية، وهو أن سنن نمو الخلق معظمها لا دخل لإرادة الإنسان فيها وما كان له فيها دخل، فغالبًا ما يدفعه حبه للحياة الدنيا وطلبه للصحة والعافية وطول العمر إلى أن يأخذ النافع ويترك الضار، بينما الهداية دونها شهوات وشبهات، ولا يصل إليها إلا مَن جاهد نفسه في الله -عز وجل-.

أنزل الله -تعالى- على رسوله -صلى الله عليه وسلم- تلك الآيات، يعرِّفه الطريق، فذهب إلى بيته يرتجف من شدة الشعور بالمسئولية، وبينما هو كذلك جاءه الأمر بالبلاغ: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ . قُمْ فَأَنْذِرْ . وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ . وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ . وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ . وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ . وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) (المدثر:1-7).

وكما تضمنت الآيات الأولى معالم المنهج، تناولت تلك الآيات آداب الداعي: (قُمْ فَأَنْذِرْ): أخذ أمر الدعوة بجدية والاستغراق فيه بكل ما يملك. (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ): القدوة الصالحة والالتزام بما يدعو الناس إليه من الطهارة الحسية والمعنوية. (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ): هجران المنكرات، وهذا رغم أن الدعوة لا تتم إلا بإتيان الناس ودعوتهم، ولكن الواجب أن يهجر المعاصي وأماكن الفجور. (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ): لا تستكثر عملك مهما بلغ فتمن على الناس به؛ لأنك تنال الأجر من الله. (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ): أي أن الطريق صعب وطويل، محفوف بالمخاطر، و(وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:35).

نزلتْ هذه الآيات على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتحمله تلك الأمانة العظيمة التي شمر لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ساعد الجد، وواصل عمله من أجلها ليلاً ونهارًا إلا أن الآيات بعدها نزلت لكي تضاعف الأمانة الملقاة عليه -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ أنه كُلِّف -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة إلى الثقلين فقال -تعالى-: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) (الفرقان:1).

إذن فنحن أمام صراع بين الحق والباطل، وهذا القرآن فرقان بينهما، وهذا الفرقان فيه البشارة والنذارة، وميدان ذلك الصراع هو العالم كله.

وتخيل أن رجلاً واحدًا في بلدة لا تكاد تعرف خارج الجزيرة العربية يُكلَّف بحمل دعوة للعالمين، ولكن الدعوة بالفعل بلغت العالمين وصار الإسلام هو الدين الأول في العالم الآن من حيث عدد الأتباع إذا اعتبرنا أن الخلاف بين مذاهب النصرانية الثلاثة يرقى إلى اعتبارها أديانًا مستقلة؛ ناهيك عن استقطاع عدد الملحدين منهم، كما أنه في طريقه لأن يكون الدين الأول في العالم حتى مع اعتبار جميع المذاهب النصرانية دينًا واحدًا.

كيف تم ذلك... ؟!

الجواب جاء في قوله -تعالى-: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ) (غافر:51).

إن آمال الدعوة ليست كغيرها من الآمال الأخرى التي قد تحدث أو لا تحدث، بل هي وعود من الله -عز وجل- وعد بها رسله، ووعد بها أتباعهم، وتحققت منها معجزات حسية رآها الناس بأم أعينهم؛ فأنجى الله نوحًا -عليه السلام- لما دعا: (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)(الق مر:10)، وجاءت نجاته وهلاك قومه على خلاف السنن الجارية، وأنجى الله إبراهيم -عليه السلام- لما أُلقي في النار فقال: "حسبي الله ونعم الوكيل"، وشق الله البحر لموسى -عليه السلام-: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء:61-62).

وهكذا حتى كانت أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ففتح الله لهم البلاد وقلوب العباد في فترة وجيزة حتى قال القائل: "إما أن الدنيا كانت صغيرة في عهدهم أو أن الأرض قد طويت لهم!".

وها هنا نتوقف عند قضية في غاية الأهمية، وهي:

هل يحق لنا أن نستشهد بأحوال الأنبياء في دعوتهم ونسقطها على أحوالنا في دعوتنا، ونذكِّر أنفسنا بنصر الله لأنبيائه، ونستبشر بمثل ذلك ونعتبر أن معنا وعدًا بالنصر لا يخلف؟

الجواب: بالطبع نعم.

ولكن يجب أن نستصحب عدة أمور هامة:

1- عندما تعمل في مجتمع مسلم فإن خصمك الحقيقى هو الشيطان الذي يصد الناس عن طاعة الله -عز وجل-، وما نستصحبه من معاني المعركة الفاصلة والكيد والصد عن سبيل الله والنصر المنشود هو مع ذلك الشيطان، وبالطبع يوجد لشياطين الجن أعوان من شياطين الإنس، قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:112)، وشياطين الإنس هؤلاء ليسوا هم أولئك المسلمين الذين يحتاجون إلى مَن يرفق بهم ويأخذ بأيديهم، بالإضافة أن لهم علينا حقوق الإسلام.

2- ومما ينبغي أن نعيه أن الرسل معصومون غير أن أتباعهم ليسوا بمعصومين حتى في زمانهم، ولكن وجود الوحي يجعل الأخطاء التي يقال في شأنها: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:165)، هذه الأخطاء إذا وقعت في زمن النبوة فسرعان ما يتم تصحيحها، ومِن ثَمَّ تستمر المسيرة بثقة تامة بنصر الله، وأن ما يقدِّره الله بعد تصويب تلك الأخطاء من بلاء هو مِن قبيل قوله -تعالى-: (وَلَنَبْلُوَنَ كُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد:31).

أما بالنسبة لنا فنحتاج آن نقف طويلاً نفتش عن آفات في النفس، وأخطاء في الاجتهاد؛ فكم أوتيت الحركة الإسلامية من تسرع بعض قادتها أو من خلل "المنة على الناس" الذي نهى الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- عنه في الآيات التي أمرته بالدعوة.

3- ومِن ثَمَّ فإن الواجب علينا متى استبطأنا النصر أو شعرنا بانكسار أو تعثرت مسيرتنا أن نراجع أنفسنا على مستوى العلم والعمل والاجتهاد.

- نراجع أنفسنا متذكرين قول العباس -رضي الله عنه- عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يرفع إلا بتوبة".

- نراجع أنفسنا على مستوى النوايا متذكرين أن الله قال لصحابة رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ) (آل عمرن:152).

- نراجع اجتهاداتنا وأولوياتنا، ونتذكر أن موسى -عليه السلام- يشفق يوم القيامة على نفسه من خطأ يسير في ترتيب الأولويات، فيقول: (إِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا) (متفق عليه)، مع أن هذا المقتول كان كافرًا ومعتدٍ في ذات الوقت.

4- ومتى قمنا بتلك المراجعة فلنملأ أنفسنا ثقة لا تهتز، ثقة لا تعبأ بتغير الأحوال، فربنا ورب خصومنا الله الذي لا يعجزه شيء، ثقة كتلك التي كانت عند صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والأحزاب من حولهم وهو يبشرهم بكنوز كسرى وقيصر، (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) (الأحزاب:22).

هذه الثقة تورث تسليم المطمئن رغم اضطراب الأحوال، كهذا الذي ورد في الدعاء المأثور -الذي يشع بأنوار النبوة وإن كان في سنده مقال-: (اللَّهُمَّ إلَيْكَ أشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي وقِلَّةَ حِيلَتِي وَهَوانِي على النَّاسِ، يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ! إِلَى مَنْ تَكِلْني؟ إِلَى عَدُوَ يَتَجَهَّمُنِي أمْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أمْرِي؟ إِنْ لَمْ تَكُنْ ساخِطاً عَلَيَّ فَلا أُبالِي، غَيْرَ أنَّ عافِيَتَكَ أوْسَعُ لِي، أعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الكَرِيمِ الَّذِي أضاءَتْ له السموات والأرْضُ وأشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُماتُ، وصَلَحَ عليهِ أمْرُ الدُّنْيا والآخِرَةِ أنْ تُحِلَّ عَليَّ غَضَبَكَ أوْ تُنْزِلَ عَلَيَّ سَخَطَكَ، وَلَكَ العُتْبى حَتَّى تَرْضى، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ بِكَ) (رواه الطبراني، وقال ابن القيم -رحمه الله-: "عليه نور النبوة").

فلنشكو إلى الله ما نجده، ولنحرص قبل ذلك على ألا يكن به غضب علينا، فاللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.