الحمد لله والصلاة والسَّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتَّبع هداه.
أما بعــدُ:
فإنَّ المتشابهَ المعنويَّ في القرآن فنٌّ لطيفٌ من فنون التَّفسير، مبناه على دقائق النَّحو وأسرار البلاغة وفهم مرامي إشارات الآيات.
والأكثرُ منه هو ممَّا استأثر الله بعلمه، لأنَّه كما أنَّ الله سبحانه لا يُحاط به علمًا فكذلك كلامه الَّذي هو صفةٌ من صفاته، لا سبيل إلى الإحاطة بمعانيه على وجه التَّفصيل في كلِّ ما أريد منه.
وقد أُخلصت له كتب مستقلة، من أجودها كتاب الخطيب الإسكافي المتوفى سنة 420، وعليه اعتماد من جاء بعده كالكرماني وابن جماعة والفيروزآبادي.
وربَّما عرض له بعض المفسرين في تفاسيرهم من غير قصد إلى استيفاء البحث فيه ولا الاستيعاب، كل حسب ما أوتي فمستقل ومستكثر، ومن أحسنهم كلاما في ذلك أبو حيان في البحر.
ثمَّ إنَّ من أغمض أمثلته الآيتان (55) و (85) من سورة براءة، وقد عرضت لي مناسبة اقتضت البحث في الفروق بين الآيتين وكلام العلماء في ذلك، وها هو إليك ما كتبته في فيه ،لك الجنى دانيا، وما عليك من تبعته من شيء.
قال الله تعالى:((فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ))[التَّوبة:55]
وقال سبحانه:((وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ))[التَّوبة:85]
فهاتان آيتان من سورة واحدة، وبينهما من جهة اللَّفظ أربعة فروق:
الأوَّل: أنَّ الآية الأولى معطوفة على ما قبلها بالفاء والثَّانية فبالواو.
الثَّاني: تكرار "لا" في الآية الأولى دون الثَّانية.
الثَّالث: تعليل الفعل في الآية الأولى باللام وفي الثانية بـ"أن".
الرَّابع: وصف الحياة بـ"الدُّنيا" في الآية الأولى وإسقاطه في الثَّانية.
وسرُّ هذه الفروق يظهر في أربعة مباحث:
المبحث الأوَّل
سرُّ عطف الآية الأولى على ما قبلها بالفاء وعطف الثَّانية بالواو
وهذا الفرق راجع إلى دلالة الحرفين، فكلاهما من حروف العطف، لكن الفاء فيه زيادة على معنى الواو، إذ الواو لمطلق الجمع والمصاحبة لا تقتضي فورا ولا تراخيا ولا ترتيبا، بخلاف الفاء فإنها تقتضي زيادةً على العطف الترتيبَ والفورَ وإفادةَ الجزاء، فلهذا قالوا في سرِّ عطف الآية الأولى بالفاء أنها جزاء من الله تعالى على ما حكاه عن المنافقين من الأعمال المقتضية لأن يعاقبهم بما هو نعمة في حقِّ غيرهم من الأموال والأولاد، فسياق الآية في ذم المنافقين على تفريطهم فيما أوجب الله عليهم من إقام الصلاة وإيتاء الواجب من النفقات فقال تعالى: ((ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون))، فرتَّب على ذلك أن جازاهم بالعقوبة المذكورة.
هكذا قال أكثر من تعرَّض لهذا الفرق هنا: الإسكافي فمن بعده، واستظهروا بدلالة الفعل المضارع "يأتون، ينفقون" على الاستقبال، فهو مناسب للجزاء إن وقع منهم مضمونه.
وأبدى أبو حيان فرقًا آخر، فقال في "البحر" (5/84): "ومناسبة الفاء أنَّه عقَّب قوله : "ولا ينفقون إلا وهم كارهون" أي : للإنفاق، فهم معجبون بكثرة الأموال والأولاد، فنهاه عن الإعجاب بفاء التعقيب" اهـ، فكأنَّه يقول: إنَّ الذي ينبغي أن يُغبط على الأموال والأولاد ويعجب بذلك منه هو الَّذي يضعها في مواضعها ويؤدِّي حق الله فيها، أمَّا هؤلاء الَّذين وصف حالهم فلا ينبغي أن يعجب بذلك منهم لأنَّه سيكون وبالًا عليهم في الدُّنيا والآخرة على ما شرحته الآية بعدُ، فإن كان أومى إلى هذا فإنَّه حسن غاية، وهو مطابقٌ لمعنى ما ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم :"لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلَّطه على هلكته في الحق" الحديث.
وهذا كلُّه بخلافه في الآية الثَّانية فإنَّ الكلام وقع في سياق ما شرعه الله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم في معاملة المنافقين، فأمره أوَّلًا أن لا يأذن لهم بالخروج معه إن هم استأذنوه لذلك، ثم نهاه عن أن يصلِّي على من مات منهم أو أن يقوم على قبره، ثم عطف عليه نهيه عن الإعجاب بأموالهم وأولادهم، فالسِّياق هنا اقتضى الواو لأنَّه ليس هنالك جزاء ولا شيء مترتِّب على آخر، وإلى هذا المعنى إشارة أبي حيان، وبه جزم البقاعي في نظم الدُّرر (8/567) .
وغيرُ أبي حيان ممَّن بحث في المتشابه قالوا :سرُّ ذلك أن الفعل قبل العطف ماض، والماضي لا يتضمَّن معنى الشَّرط فلهذا حسن الواو دون الفاء ([1]).
وهذا صحيح وهو راجع إلى ما تقدَّم.