رجل يطالب بتنقية أصول التاريخ ولا يدقق في معلوماته حتى أنه ليخلط بين الأحداث ويُخطئ في حقائق تاريخية مشهورة ومعروفة جداً، يتهم السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وهو لا يدري أكان الزبير بن العوام رضي الله عنه وهو أحد أهل الشورى وابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم عشرة رجال لا أكثر، أهو أبن أختها أم زوج أختها، وأختها أسماء ذات النطاقين لا تُجهل مثلها لسابقتها ودورها المعروف، فأنظر ما يقول: "وقد أصبحت الحيرة فتنة عندما لحقت السيدة عائشة بطلحة والزبير، وقالت: إنها تطالب بدم عثمان، مع أنها لو قابلت عليا وطالبته بدم عثمان لكان أوقع، ولكنها لم تكن تحب عليا منذ وقف منها الموقف المعروف في حادث الإفك، وهي في غضبها على عليّ كانت ترى أن الزبير بن العوام ابن أختها كان أحق بالخلافة من عليّ" (12) ومع هذا اللبس والخلط تراه يسلِّم بما زُوِّر عن حادثة الإفك بقصد إيجاد سبب لما أسموه بالعداء بين زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه وصهره، لا يجيد هو وغيره الربط بين الفتنة التي نهض بها رأس النفاق عبدالله بن أُبي ابن سلول حين قال "لأن رجعنا إلى المدينة سيخرجن الأعزّ منها الأذّل" وبين افترائه هو ومن تابعه وانخدع به لقصة الإفك، حين عادوا للمدينة، والتي أرادوا من خلالها الطعن بشرف النبي صلى الله عليه وسلم بقصد حرف الأنظار عن الفتنة التي فضحها الله تعالى بالآيات تصديقاً لأذن ابن أبي الأرقم، فكليهما حدث في وقت واحد، خلال العودة من غزوة بني المصطلق عام 6هـ. وهل يصح القول أن علي يؤذي رسول الله في زوجه، وهو أقرب الناس إليه ويعلم بحبه لها، ولا يصح القول أن حادثة الإفك فرية أراد بها المنافقون وعلى رأسهم ابن سلول التغطية على فعلتهم الشنيعة! والإمام علي أجلُّ من أن تنطلي عليه ألاعيب المنافقين لكي يون من الشاكين بزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أقرب الناس إليها، ويعلم عنها ما لا يعلمه غيره، ولو كان يُنكر عليها سلوكاً لما تأخر حتى يدلّه المنافقين. وذلك الذي لم يقل به أحد، حسب علمنا.
كما يحيد المؤرخ عن المشهور المعلن والدافع المصرح به لخروج أصحاب الجمل الذي كان يستهدف أصلا رواد الفتنة وقادتها وليس خليفة المسلمين علي بن أبي طالب عليه السلام، والأدوار التي لعبها أتباع ابن سبأ اليهودي القائد العام لتلك الفتنة في إفشال كل صيغ التفاهم التي كادت تنهي المواجهة وتصحح المسار وتوحد جهود الأمة بسفارة القعقاع بن عمرو التميمي، فيصور الأمر على أساس أنه رفض لخلافته بدعوى رؤية أم المؤمنين بأن (ابن أختها) أحق بالخلافة من عليّ، فأي تنقية هذه؟
وهي لم تكن كذلك على الإطلاق، أو كما وصفها ساسة التشيع الفارسي وابتدعوا لها الأكاذيب وحشروها في بطون كتب السير والتاريخ على أنها حقائق، فاغتيال الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه لم يكن مجرد اغتيال أو انتقام أو تمرد على رأس القرار والسلطة، بل كانت مؤامرة؛ كبيرة في حجمها، واسعة في أطرافها، خطيرة في أهدافها، أُريد من خلالها الإطاحة بالدولة العربية الإسلامية كلياً، فرواد الفتنة لو كانت أهدافهم تتوقف عند اغتيال الخليفة لما احتلوا عاصمة الخلافة وفرضوا عليها وعلى أهلها إرادتهم، وصادروا قرارهم، بل لعادوا إلى ديارهم فقد حققوا مبتغاهم، لكنهم في الحقيقة كانوا أداة مؤامرة واسعة ومتعددة الأطراف، أفشلتها إرادة الإيمان في نفوس أهل المدينة، لأنهم كانوا في الأساس يخططون لإشعال هرب أهلية بين أهل المدينة، حينما وزع ابن سبأ الولاءات بين الأمصار بطريقة لا تُفضي إلاّ للحرب الأهلية، فليس من شك أن مكونات التمرد كانت تنقسم بين أهل الكوفة والبصرة ومصر، وليس من شك أنهم جميعاً تنظيمات أوجدها عبدالله بن سبأ، بدأها بالبصرة ثم الكوفة وختمها بمصر لأن مساعيه في الشام أفشلها التحسب المستمد من الخلفية السياسية التي تركها الروم وحكمهم الملكي المباشر على سلوك أهل الشام - على خلاف العراق الذي لم يكن الحكم الفارسي مباشراً كليا - والتي انتقلت مخلفاتها لتحيط بإمارة الشام وتشكل جوانب مهمة من نظامها السياسي. والمنهج الذي مارسه هذا اليهودي في الكسب في كل هذه الأمصار كان منهجاً واحداً لم يتغير فيه شيء، لكنه تعمد أن يزرع في نفوس أتباعه في كل مصر من الأمصار هدف مختلف عن غيره من الأمصار، في جانب واحد فقط، وهو تسمية ولي الأمر البديل للخليفة المراد تصفيته جسدياً، فزرع في أهل البصرة الانحياز لطلحة بن عبيدالله، وزرع في الكوفة انحياز أهلها للزبير بن العوام، فيما زرع في مصر الانحياز لعلي بن أبي طالب، وهذا كان الأساس الذي علَّقت عليه المؤامرة بكل أطرافها الخفية آمالها في القضاء على أصحاب رسول الله برمتهم من خلال هذا التقسيم الخبيث، فكان من المفروض أن تشتعل شرارة المعارك بين علي ومن سيتبعه وطلحة ومن سيتبعه والزبير ومن سيتبعه في المدينة المنورة وبعد استشهاد الخليفة عثمان بن عفان مباشرة وفقاً لذلك المخطط الرهيب، لكن أهل المدينة خيبوا آمالهم بوعيهم وإيمانهم، فكانت الجمل وصفين والنهروان بدائل لا بدَّ منها، كي لا تتوحد جهود المسلمين خلف رجلٍ واحد فيقتص من رواد الفتنة وعدتها، ولو كانت المتاعب التي وضعها رواد الفتنة في طريق الإمام علي بن أبي طالب خلال فترة خلافته، والتي أفقدته قدرة التأثير والانجاز واستعادة وحدة الأمة ومواصلة المسيرة، بمفردها دليلاً على ما قلناه آنفاً لكفت ووفت، لكن الأدلة كثيرة، وسنأتي عليها لاحقاً.
إن المنهج السليم الذي يقودنا إلى حقائق الأحداث التاريخية وينفي عنها التزوير والتضليل هو العودة إلى الأساس الذي ما كانت الجمل وصفين وقبلهما فتنة اغتيال الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه إلا لبنات رُصِفت فوقه بخبرة بناءٍ ماهرٍ حتى تكامل بناء هذه القلعة الحصينة بعد قرون طويلة من الزمن، يتعهدها بُنَاتها بالرعاية والصبر الطويل، إنها القلعة التي أراد لها الشيطان أن يتحصن بها جنده داخل أسوار العرب المسلمين وليس خارجا عنها.
فكم من كلمة حقٍّ أُريد بها باطل؟ وكم من موقف اتخذه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيرة تلاميذه بقصد منع الانحراف والمحافظة على سلامة المسيرة اتخذته رؤوس الأفعى سبَّة وحرفته عن مقاصده إلى حيث تبغي وتريد؟
كان الصحابي الجليل الشديد في الحقِّ أبو ذرٍّ الغفاري قد وطئ أرض الشام عام 30 هـ فهاله الواقع المختلف كلياً عن حياة الصحراء والأعراب، والذي لم يكن يرى سواه من قبل، يختزن في ذاكرته ووعيه شيئاً لم يألفه في الإسلام من قبل وكأنه غريب عنه، فالشام بلد الخيرات والطبيعة الجميلة والمياه الوفيرة العذبة والمجتمع المتأثر قسراً بثقافة الروم الغزاة وسلوكهم، وإلا لما تمسك بها ولاتها كثيراً، ولما تمسك أهلها بهم أكثر وصاغوا معهم مفرداتٍ للانحراف دون أن يعلموا. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ العراق والشام ومصر كانت مواطن مهمة للمؤامرة في مراحلها الأولى لوفرة مواردها بما يجعل أهلها أكثر التصاقاً بالدنيا من غيرهم، وكلُّ هذا كان غير متيسر في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت مواقفه تجاه الإسلام والمسلمين في الشام منسجمة تماماً مع هذه الرؤية ولا تخرج عن سياقاتها، لكن الذي أزَّمها وحولها إلى معارضة هدامة شرسة لا تبغي معالجة المشكلة إنما تُفاقمها وتوسع أثارها هو الاستغلال البشع لليهود بشخص ابن سبأ ومن وقف خلفه متستراً بخلائف الروم النصارى واليهود ومن التحق بهم من مجوس الفرس يردفهم ويسندهم أهل الردَّة من العرب أنفسهم. فيما كان الأسلوب الذي مارسه الصحابي أبو ذر الغفاري هو الأخر عاملاً مساعداً لجحافل التآمر كي تحقق أغراضها، فهو رضي الله عنه لم يكن يملك من خبرات السياسة ما يؤهله للنجاح في أداء واجبه ودوره ذاك، حيث توجه بدعواته للإصلاح نحو الشعب مباشرة بما يحمل على كاهله من أمراض متفشية بين صفوفه من رعاع وأهل أهواء وردة جاهلية وممن لم تتطهر أرواحهم بعد لتأخذ موقعها بين العقل والغرائز فيقر الإيمان في أعماق نفوسها، الأمر الذي حول دعوته إلى بؤرة للتحريض قابلة للاستغلال المعاكس تماماً، فيما كان يُفترض به أن يتوجه بدعوته إلى الأمراء والقادة وأصحاب الرأي، فاستغلت نواياه الصادقة بالإصلاح وحرصه الشديد على الإسلام وشريعته خشية التشويه كأساس لفتنة دبَّت بين صفوف الرعية وانتشرت كالنار في الهشيم، مما أوجب على معاوية بن أبي سفيان وغيره التصدي لها بشخص أبي ذر الغفاري على أنه هو الذي أرادها لتكون هكذا، ولم يكن كذلك، ولم يستوعبوا أن سكوته أو إسكاته لن ينهي أو يخفي آثارها، كما لم يستوعبوا من قبل أسباب ودوافع شدة وصرامة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تصديه لمثل هذه التجاوزات واجتثاث أسبابها، ذلك لأن الحاشية التي تشكلت سريعاً حول إمارة الشام كانت تنقل إليها دون وعي منها آثار الثقافة السلوكية التي رسخها الاحتلال الروماني في وعيهم وسلوكهم، والتي كانت ترتكز أساساً على الأوضاع المميزة للملوك وأمراء جيوشهم وامتيازاتهم التي تُبيح لهم امتلاك كل شيء وفعل أي شيء دون مسائلة أو حساب، ولعدم رسوخ المنهج السلوكي الجديد في وعيهم، ولأن وعيهم السياسي لم يكن ذلك الحين كافياً ليستوعبوا حقيقة أن أخطر أعداء الإسلام ليس الذين يجردون السيوف على حدود الدولة وثغورها أو الذين ينتهزون فرصاً ليشغبوا في أطرافها، إنما هم الذين يتخفون بين صفوف الأمة فينفثون بسمومهم مستهدفين كلَّ ضعيف قابل لأن يلتوي وينحرف، وكل صاحب غرض سيء أرغمه السيف والخوف فارتدى ثوب الإسلام، ونيران الحقد عليه تُضرم في داخله ويتأجج أُوارها يوماً بعد يوم، كما تصوروا أن النصر العسكري يقتل الطموح في المهزوم ويسحق فكره ويطمس وعيه، فيما هو في الحقيقة لا تزيده الهزيمة التي يمنى بها إلا مزيداً من الحقد والعداء والعزيمة على محو آثارها بالمزيد من الالتصاق بفكره الذي أوجب عليه العداء والهزيمة معاً، ولم يتغير من شأنه إلا تحوله من المواجهة الصريحة إلى التخفي والسرية وما تفرضه لوعة الهزيمة وآلامها من تحسّب شديد وإشغال للفكر في ابتكار كل ما من شأنه أن يبعده عن الأذى مرة أخرى حتى يحقق أهدافه، وهكذا فعل عشاق الجاهلية الأعراب واليهود والنصارى والمجوس. والواقع الذي تعيشه الأمة اليوم مصداق لكل ما سبق قوله، لكن الغالبية من أبناء الأمة لا تستوعب هذه الحقيقة لأنها لا تجيد الربط بين واقعها وبين أحداث أساسها كان قد صُفَّت لبناته قبل أكثر من 1400 سنة. فما الذي فعله الصحابي أبو ذرٍّ الغفاري، وهو القادم من المدينة المنورة، الرابضة وسط الصحراء القاحلة، والمحمل بثقافة اقتصادها، وينوء ذهنه بمشاهد البؤس والجوع فيها؟ انه يعتقد أن المسلم لا ينبغي له تملك أكثر من قوت يومه وما ينفقه في سبيل الله، فكان مما يقوله لأهل الشام: "يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء بَشِّر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك وأوجبوه على الأغنياء وشكا الأغنياء ما يلقون منهم"(13) وحين علم الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه بما وصله من قادة الشام وفقاً لما تصوروه من أن أبا ذرّ قد حرَّض الرعية على ولاة أمورها أمر بعودته إلى المدينة معتقداً هو الآخر بما اعتقدوه فكتب إلى معاوية بن أبي سفيان: " إنَّ الفتنة قد أخرجت خطمها وعينيها، ولم يبق إلا أنْ تَثِب، فلا تنكأ القرح، وجَهِّز أبا ذر إليَّ وابعث معه دليلاً، وزوده، وأرفق به، وكفكف الناس ونفسك ما استطعت"(14)
فلم يكن إخراج أبا ذرَ من الشام ليحلَّ المشكلة، لأنه لم يكن سببها، إنما كان شاهداً عليها، لفت الأنظار إليها، ولم يكن هو الآخر ليعلم أسبابها الحقيقية أو يضع يده على أسباب مثيريها ومنفذيها، ولهذا لم تُعالج بل تفاقمت عما كانت عليه عند خروج الصحابي منها، والخليفة كان قد لفت نظره أمير الكوفة الجديد سعيد بن العاص بن أُميَّة قبل ذلك بقليل حينما كتب إليه قائلاً: "أَنَّ أهل الكوفة قد اضطرب أمرُهُم وغُلِبَ أهل الشرف منهم والبيوتات والسابقة، والغالب على تلك البلاد روادف قدمتْ، وأعراب لحقت، حتى لا يُنظر إلى ذي شرف وبلاء من نابتتها ولا نازلتها"(15) لكن الخليفة لم يكن بشدَّة وحرص الفاروق لكي يردعها ويقمعها، وقد نبهه الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى ذلك خلال حوارٍ دار بينهما في خضمّ تلك الفتنة: "أنشدك الله يا عليّ: هل تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك؟ قال: نعم. قال: فتعلم أنَّ عمر ولاّه؟ قال: نعم. قال: فَلِمَ تلومني أنْ وَلَّيْتُ ابن عامر في رحمه وقرابته؟ قال علي: إنّ عمر كان يطأ على صماخ مَنْ وَلَّى إنْ بلغه عنه حرفٌ جلبه ثم بلغ به أقصى العقوبة، وأنت لا تفعل ضعفتَ ورققتَ على أقربائك"(16)
كما لم يكن ممن يملك وعياً سياسياً يكفيه ليسترشد لأسباب الفتن ومسببيها وطبيعة أهدافهم ونواياهم، ليتمكن من عزلهم عن أدواتها، فلم يكن الحل في تعيين سعيد بن العاص أميرا على الكوفة بدلاً من الوليد بن عقبة الذي مكث فيها أكثر من خمس سنين، لم يكن لداره فيها باب، حتى صيره تنظيم المؤامرة معاقراً للخمر، فأخلى لهم ساحة الكوفة يمهدون أرضها لمتطلبات مؤامرتهم، وإن كنا نرى في أبي زبيد الشاعر النصراني الذي قيل أنه أسلم على يد الوليد نفسه، ملمس خيط النسيج الذي حاكه أرباب المؤامرة كما نجد في سرجون الرومي كاتب أمير الشام وصاحب أعماله، وإلا فما حاجة الأمويين للنصارى مع وجود الدهاة والمتعلمين وأصحاب الرأي من العرب المسلمين الذين يضرب بهم المثل! فقد كان هذا النصراني نديم وجليس الوليد يوم اتُهِم بشرب الخمر. ولم يكن الحل إشغالهم بالفتوح كما فعل حين سيَّر سعيد بن العاص إلى طبرستان لغزوها، كما انه لم يذهب بعيداً في تفكيره حتى كان يرى أن واجبه دعوة الرعية للاجتهاد والاقتصاد ولا يملك إجبارهم على الزهد، فالأمر لم يكن قلة وشحٍّ في الزهد إنما كان أبعد من ذلك بكثير. وجدير بالذكر أن أبا ذرّ حين عودته من الشام وجد الانحراف قد سبقه إلى المدينة نفسها، فقد رأى الناس يرتقون بمجالسهم في أصل جبل سلع فقال: "بشر أهل المدينة بغارة شعواء وحرب مذكار"(17)
على إنَّ صراحة وصرامة أبي ذرٍّ رضي الله عنه في الحقِّ وهو يُلْفِت أنظار المسلمين لِما يحيق بهم لم تكن لأغراضٍ تنتقصُ من شأنها، فلم يكن فيها من دوافع الدنيا ولم يكن به كِبَر،لكنه العابد الزاهد في كلِّ شيء إلا الإيمان، فحين نزل الربذة كان فيها رجلاً من الرقيق يلي صدقتها ويتقدم الناس في الصلاة، فقال له: "تقدَّم يا أبا ذر فقال: لا تقدم أنت فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال لي: اسمع وأطع وإنْ كان عليك عبدٌ مجدّع فأنت عبدٌ ولستَ بأجدع"(18) فهل في رجلٍ كهذا رجعة للدنيا؟
ولعلنا نتبين من تصريح للصحابي حذيفة بن اليمان حين جاءته أخبار الفاجعة بمقتل خلفية المسلمين وهو من المعترضين على إسلوب إدارته، الفرق الشاسع بين إرادة الصحابة في اعتراضهم على السلبيات التي حدثت في خلافة ابن عفان استجابة لأمر الله تعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأمانة النصح للمسلم، وخصائص الشورى ولوازمها، وبين نوايا جيوش الظلام والضلال التي تغلغلت بين الجلد واللحم، لتستغلها وتذهب بها بعيداً عن أهدافها حينما يقول رضي الله عنه: "اللهم العن قَتَلَته وشُتَّامَه اللهم إنَّا كنا نعاتبه ويعاتبنا فاتخذوا ذلك سلَّماً إلى الفتنة"(19) ففي عام 34هـ خرج من الكوفة أحد المسخرين في سياق المؤامرة وهو يزيد بن قيس " يريد خلع عثمان ومعه الذين كان ابن السوداء يكاتبهم فأخذه القعقاع بن عمرو فقال: إنما نستعفي من سعيد.
فقال: أما هذا فَنَعم، فتركه. وكاتب يزيد المسيرين (الذين أبعدهم سعيد بن العاص إلى الشام بأمر الخليفة وأقاموا عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد في حمص) في القدوم عليه فسار الأشتر والذين عند عبد الرحمن ابن خالد فسبقهم الأشتر فلم يفجأ الناس يوم الجمعة إلاَّ والأشتر على باب المسجد يقول: جئتكم من عند أمير المؤمنين عثمان وتركتُ سعيداً يريده على نقصان نسائكم على مائة درهم، وردّ أولي البلاء منكم إلى ألفين، ويزعم أنَّ فيئكم بستان قريش"(20) والملاحظ هنا أن المفاهيم التي اتخذ منها ابن سبأ اليهودي وسيلة للكسب كانت ترتكز على أساس الحق الإلهي للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الخلافة، وأن غيره مغتصب لحق ليس له، وأبتدع لها من إرثه اليهودي نصاً ووصية، وأضفى على عليّ صفات الإلوهية من إرثهم وإرث النصارى، لكن عمليات التحريض على الخليفة والدولة وكيانها كانت ترتكز على أمرٍ مختلف تماماً، فقد كانت تعتمد مصالح دنيوية خالصة، تتعلق بالمال فحسب، كما حدث في مصر مع ابن أبي سرح، وفي الشام مع معاوية، وفي الكوفة مع سعيد بن العاص، وليس لها أية علاقة بأحقيات الاستخلاف، إنما كانت عمليات اغتنام للهفوات والأخطاء في العمل لاستغلالها كوسائل في تقويض وحدة الأمة وتمزيق شملها بعد تشتيت رأيها.
جدير بالذكر أن الكثير ممن لا تستوعب عقولهم ولا تمتد مديات وعيهم لتكتشف حقائق المؤامرة التي حيكت ضد العروبة والإسلام، أو الذين يسعون لحرف الحقائق نحو قناعاتهم وما يخدم نواياهم، يطرحون الشكوك حول حقيقة وجود عبدالله ابن سبأ اليهودي، رغم أن أخباره وردت من طرق كثيرة غير الطريق الذي يُطعن في رواته، مع إن مؤامرات اليهود وطبيعة تحالفاتهم أقدم وأسبق من ابن السوداء هذا، والشكوك التي تثار حول حقيقة وجوده لا تغير من حقائق التاريخ شيئاً، فمؤامرات اليهود على الإسلام والمسلمين وعلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كانت قد رافقت الدعوة منذ بداياتها ولم تتوقف حتى يومنا هذا، وصفحات التاريخ والسير تطفح بحقائقها الكثيرة، لا تشوبها شائبة، ولا ينالها التشكيك أبدا، والله تعالى حذَّرنا من دسائسهم بقوله:{ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً}(21) وهذه واحدة من مساعيهم، كادت تطيح بوحدة الطلائع من الأنصار فيما بينهم، فالوحدة الرصينة التي تكونت بين الأوس والخزرج بفعل العقيدة الإسلامية وثقافتها السلوكية والإيمان الكبير الذي طهر أرواحهم من أدران الجاهلية، والتي محت عداء وأحقاد بين القبيلتين دام أمدها مائة وعشرين عاماً من الحروب الدامية، كانت هدفاً لليهود ليل نهار للنيل منها، كما كانت وحدة الأنصار مع المهاجرين هدفاً أيضا، وكما كان التأليب للقبائل العربية في كل مكان لمؤازرة كفار قريش في حروبهم ضد العرب المسلمين جميعاً، فقد ورد في تفسير الطبري للآية 100 من سورة آل عمران: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} عن مجاهد قوله:" كَانَ جِمَاع قَبَائِل الْأَنْصَار بَطْنَيْنِ الْأَوْس وَالْخَزْرَج، وَكَانَ بَيْنهمَا فِي الْجَاهِلِيَّة حَرْب. وَدِمَاء وَشَنَآن، حَتَّى مَنَّ اللَّه عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ وَبِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَطْفَأَ اللَّه الْحَرْب الَّتِي كَانَتْ بَيْنهمْ، وَأَلَّفَ بَيْنهمْ بِالْإِسْلَامِ قَالَ: فَبَيْنَا رَجُل مِنْ الْأَوْس وَرَجُل مِنْ الْخَزْرَج قَاعِدَانِ يَتَحَدَّثَانِ، وَمَعَهُمَا يَهُودِيّ جَالِس، فَلَمْ يَزَلْ يُذَكِّرهُمَا أَيَّامهمَا وَالْعَدَاوَة الَّتِي كَانَتْ بَيْنهمْ، حَتَّى اِسْتَبَّا، ثُمَّ اِقْتَتَلَا. قَالَ: فَنَادَى هَذَا قَوْمه، وَهَذَا قَوْمه، فَخَرَجُوا بِالسِّلَاحِ، وَصَفَّ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ. قَالَ: وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاهِد يَوْمئِذٍ بِالْمَدِينَةِ، فَجَاءَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَزَلْ يَمْشِي بَيْنهمْ إِلَى هَؤُلَاءِ وَإِلَى هَؤُلَاءِ لِيُسَكِّنهُمْ، حَتَّى رَجَعُوا وَوَضَعُوا السِّلَاح ، فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الْقُرْآن فِي ذَلِكَ: { يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب } إِلَى قَوْله: { عَذَاب عَظِيم } فَتَأْوِيل الْآيَة: يَا أَيّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّه وَرَسُوله وَأَقَرُّوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيّهمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْد اللَّه، إِنْ تُطِيعُوا جَمَاعَة مِمَّنْ يَنْتَحِل الْكِتَاب مِنْ أَهْل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل، فَتَقْبَلُوا مِنْهُمْ مَا يَأْمُرُونَكُمْ بِهِ، يُضِلُّوكُمْ فَيَرُدُّوكُمْ بَعْد تَصْدِيقكُمْ رَسُول رَبّكُمْ وَبَعْد إِقْرَاركُمْ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد رَبّكُمْ كَافِرِينَ; يَقُول: جَاحِدِينَ لِمَا قَدْ آمَنْتُمْ بِهِ وَصَدَّقْتُمُوه ُ مِنْ الْحَقّ الَّذِي جَاءَكُمْ مِنْ عِنْد رَبّكُمْ. فَنَهَاهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ يَنْتَصِحُوهُمْ ، وَيَقْبَلُوا مِنْهُمْ رَأْيًا أَوْ مَشُورَة، وَيُعَلِّمهُمْ تَعَالَى ذِكْره أَنَّهُمْ لَهُمْ مُنْطَوُونَ عَلَى غِلّ وَغِشّ وَحَسَد وَبُغْض"(22) وورد في أسد الغابة في معرفة الصحابة، لابن الأثير: "مر شاس بن قيس، وكان شيخاً قد عسا، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة -يعني الأوس والخزرج- بهذه البلاد، لا، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار؛ فأمر فتى شاباً من يهود كان معه، قال: فاعمد فاجلس إليهم، ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان فيهم، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج؛ ففعل. فتكلم القوم عند ذلك، فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب: أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث بن أوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها الآن جذعة، وغضب الفريقان وقالوا: قد فعلنا، السلاح السلاح، وموعدكم الظاهرة، والظاهرة: الحرة فخرجوا إليها، وتجاور الناس، فانضمت الأوس بعضها إلى بعض على دعوتهم التي كانوا عليها في الجاهلية.
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليه فيمن معه من المهاجرين من أصحابه، حتى جاءهم فقال: "يا معشر المسلمين، الله الله، أَبِدَعوى الجَاهليَّة وأنا بَين أَظْهُركم بعْدَ أن هَداكم الله تعالى إلى الإسلام، وأَكْرَمَكم به، وقَطَعَ عنكم أمرَ الجاهلية، واسْتَنقَذكم به من الكُفر، وألَّف بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً"? فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم لهم، فألقوا السلاح من أيديهم، وبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، وأطفأ الله عنهم كيد عدوهم وعدو الله: شاس بن قيس(23) وشاس بن قيس هذا من يهود المدينة.
وورد في السيرة النبوية لابن هشام: " قال ابن إسحاق: ومر شاس بن قيس، وكان شيخا قد عسا، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، في مجلس قد جمعهم، يتحدَّثون فيه، فغاظه ما رأى من أُلفتهم وجماعتهم، وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية. فقال: قد اجتمع ملأ بني قَيْلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعَ ملؤهم بها من قرار. فأمر فتى شابا من يهود كان معهم، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بُعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار... ففعل. فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيَّين على الرُّكب، أوس بن قيظي، أحد بني حارثة بن الحارث، من الأوس، وجبَّار بن صخر، أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذَعة، فغضب الفريقان جميعا، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة - والظاهرة: الحرَّة - السِّلاح السِّلاح. فخرجوا إليها. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم، فقال: يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهليَّة وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بين قلوبكم؛ فعرف القوم أنها نَزْغة من الشيطان، وكيد من عدوِّهم، فَبَكوا وعَانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرَفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شأس بن قيس. فأنزل الله تعالى في شأس بن قيس وما صنع: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }(24) والأبعد من هذا أن الحروب التي كانت بين الأوس والخزرج قبل الإسلام والتي تجاوزت القرن بعشرين عاما، كان اليهود هم من يشعلون نارها، فيهود بنو قينقاع كانوا حلفاء للخزرج، يحرضونهم على القتال ويؤججون فيهم روح العداء، فيما كان يهود النضير وقُرَيضة حلفاء للاوس، ويفعلون فعل بني قينقاع، والهدف كان إضعاف القبيلتين، لكيلا تقوى شوكتهم فيفسدوا عليهم حياتهم المليئة بالخطايا والجشع.
فالتاريخ إذن بحاجة إلى بصيرة ثاقبة تسبر أغواره لتفرز عن وقائعه الصادقة كل الدس والتشويه المتواصل حتى يومنا هذا، وقد كانت عصور الانحطاط أكثرها سوءا لأنها حولت أرض العرب إلى بيئة صالحة لإنبات المزيد من التشويهات أفقدت كل أصيل فيها قيمته وتأثيره، ففي عام 1831م كان عدد سكان بغداد يقدر بمائة وعشرين ألف نسمة، لا يشكل العرب فيهم أكثر من الثلث، فيما اقتسم الفرس والأتراك والمماليك والأرمن واليهود العدد المتبقي، اليهود بمفردهم كانوا أكثر من سبعة آلاف نسمة، ساحة للصراعات الدينية والمذهبية والعرقية والثقافات السلوكية الوافدة، ليس للإسلام فيها إلا الشكلي من طقوسه، في ذلك العام تسبب هؤلاء اليهود بجانب من الكارثة الكبرى التي حلت بمدينة بغداد، فقد اجتاحها وباء الطاعون انطلاقا من الحي اليهودي، والذي نقلوه من منطقة البحر الأسود بتجارتهم للملابس المستعملة، فانقضَّ عليها كالوحش الكاسر يملأ الدور والشوارع بجثث صرعاه، ثم جاء الفيضان معاضدا ليجهز على من أفلته الطاعون فيجرفهم مع جثث الموتى إلى الخنادق المحيطة بالمدينة، الأمر الذي أثار انتباه الجيران كالعادة يتسقطون أخبارها، لينقضوا عليها كلما وجدوا فيها ضعفا ووهنا، فاجتاحتها جيوش العثمانيين وأعادت احتلالها مرة أخرى، بعد القضاء على المماليك وحكمهم الذي بدأ منذ عام 1748م واستمر حتى ذلك العام.
خلال تلك الأحداث كان الرحالة البريطاني جيمس ريموند ولستيد متواجداً في بغداد، يدون ملاحظاته التي حولها فيما بعد إلى كتاب طبع في لندن عام 1840م بمجلدين تحت عنوان "رحلات إلى مدينة الخلفاء" يصور بعضاً من ملامح ذلك الواقع المتناقض، ويحشر معها التشويهات التي لا يسهل على كل قارئ ملاحظتها واكتشاف أهدافها، فيقول: " ولقد حاولت هيئاتنا الدبلوماسية عبثاً حمل الباشا على إنشاء محجر صحي، أو اتخاذ الإجراءات الاحتياطية الأخرى، ولكن الباشا كان يقنع نفسه بجواب مخالف لرسائلنا"(25)ولا يكتفي هذا الرحالة الانكليزي بسلبية الحاكم بل يجدها مناسبة لعقد المقارنات بين العربي المسلم بصورته المشوهة وبين البريطاني الحازم المتنور، فيقول: " لقد مكث الورعون والمتعصبون في المدينة، وذلك إطاعة لإيمانهم بقوانين القضاء والقدر التي لا تتغير، ومعهم غيرهم من المسلمين ذوي الإحساس المتبلد، وهم ينتظرون وقوع ما هو أسوأ وأمر، غير إن المقيم البريطاني (المستر روبرت تايلر) والأرمن، وغيرهم من المسيحيين لم يكونوا على هذه الشاكلة، فعلى النقيض من ذلك اتخذ هؤلاء كل إجراء ممكن لوقف تقدم الوباء، فقد حول كل بيت إلى مخزن لمواد المعيشة، وسدت أبواب المنازل، واحكم إغلاق النوافذ وتحصينها"(26)
وهكذا رسم الصورة المطلوبة لقومه وأهل دينه، فيما ذهب يمسخ المسلمين من أهل بغداد مسخا شاذا ومفضوحا، بقوله: " ظهر عدد من الأوباش، الذين تشجعوا رغم الأوضاع المحيطة بهم إلى تشكيل عصابات تحت إمرة زعماء منهم أكثر سيطرة، فراحت هذه العصابات تكتسح الشوارع، لقد مررت في إحدى المناسبات بفئة من هؤلاء الأوباش كانت قد تجمعت في إحدى الشقق الواطئة، فوجدتها تتحرك مهتاجة مستوفزة وكأنها تتهيأ للإقدام على ارتكاب أعمالها الجرمية، كان هنالك عجوز شمطاء قد انحنى قوامها فأصبح بمقدار الضعف، وهي تجهز أولئك الأوباش في روحية شريرة بقطع من لحم نصف مشوي...كانت هذه العصابات تتجول من بيت إلى آخر، تنهب ما فيه، وتقتل الأحياء إن كان ذلك ضرورياً، فعملية الموت التي تعهد الطاعون بتنفيذ النصف منها، قد كملت الآن بأفعال هؤلاء الأشرار"(27)وهذه الفرية المقصود منها تشويه صورة العربي المسلم وتحويله في نظر الغرب كأنه الشيطان بعينه يفندها بنفسه، كما سنرى، بل كان يغطي على السلوك المنحرف والشاذ الذي أسس له مقيمه البريطاني ونفذه النصارى، فهو ومن تطوع للعمل معه من المسيحيين ألزموا الناس فعل هذا، إن كان حقاً قد حصل، فقد استوعبوا في مخازنهم المنزلية كل المعروض السلعي من المواد الغذائية احتكارا، وتركوا السكان في حيرة بين الحاجة وأخطار الطاعون، وقد تقطعت بهم السبل، فلا احد من التجار كان يجرؤ على دخول مدينتهم ليعوض أسواقهم بعض ما احتكره الانكليز، وقد يكون هذا الدرس في الوعي السياسي البريطاني هو الحافز على اعتماد صيغة الحصار الذي فرضوه مع حلفائهم من القوى الصليبية على بغداد مرة أخرى عام 1990م، والذي دام ثلاثة عشر عاما، تعرض شعب العراق خلالها إلى صنوفٍ من المعاناة، مما اضطر بعض الذين لا يرتبطون بوطنهم بجذورٍ عميقة إلى الهجرة، متسولين هنا وهناك، ملتمسين بأعداء الأمة فتاتهم من خلال الأكاذيب والادعاءات الملفقة المنصبَّة كلياً على تشويه سمعة بلدهم المحاصر، فيما انتظر آخرون فرصتهم المؤاتية التي حققتها عساكر الغزو لينهبوا ممتلكات لشعب ويتاجروا بمقدراته.
هذه الصورة التي سعت كل أطراف العداء لترسيخها في الوعي الإنساني عن العرب مجدداً كما فعل ذلك الرحالة البريطاني من قبل تماماً، بهدف تشويه صورة الأمة المكلفة بحمل راية التوحيد بعقيدة الإسلام، فالرحالة هذا هو من أكذب نفسه وكشف زيف دعواه، بوصفه لأهل بغداد الذين صورهم لصوصاً قتلة متوحشين، فيقول: " فعندما يسمع صوت المؤذن، يكون المنظر الوحيد المألوف آنذاك، هو رؤية الناس الذين طرق الآذان أسماعهم، وقد تخلوا في الحال عن أعمالهم السابقة مهما كان نوعها، وأسرعوا من كل صوب لأداء صلاتهم بالتوجه إلى الله الخالق، وحينذاك لا يوجد أي خوف من اللصوص، لأن التاجر، وبقصد إبعاد الذباب، ينشر شبكة خفيفة من القماش على سلعته دون خوف إلى أن يعود إليها بعد انتهاء الصلاة"(28) فأين كانت إذن تلك العصابات من المجرمين الذين تآزروا مع الطاعون والفيضان على قتل الناس بهدف تجريدهم من ممتلكاتهم، رغم ما تنطوي عليه من مخاطر العدوى بالوباء الفتاك، وها هي بضائع التجار وممتلكاتهم معروضة أمامهم لا تحتاج إلى قتال ولا قتل أو حتى مخاطر الطاعون، وليس هذا فحسب بل عاد مرة أخرى ليقول قولا ثم ينقضه، بنموذجين من السلوك لا ينسجمان معاً على الإطلاق، فيصف أهل بغداد بقوله " ولكل فرد حرفته المخصصة له، فأما أن يكون من البقالين أو التجار، أو موظفاً لدى الحكومة، ولا يتمتع الفرد بأي احترام إن لم يكن لديه عمل يمارسه"(29) ثم يعود لينقض قوله في نفس الصفحة حين يقول، بعد أن يصف أحوالهم في مساكنهم ومع عوائلهم " وفي الخارج يصبح أهل بغداد كسالى فاتري الهمة، فلا تجد أحداً منهم ينهد إلى ممارسة عمل ما، وإنما تراهم يخلدون إلى الكسل، وقد أمسك كل واحد منهم بغليونه في يد، وبمسبحته في اليد الأخرى"(30) ونسي هذا الرحالة أن الغليون دخيل على العرب نقله إليهم الأغراب بموجب أغراضهم، وتناقض آخر، يقول" ويتصف أهل بغداد أثناء الحديث معهم بالحيوية والإمتاع، فلا تجد واحداً فيما بينهم مغرماً بالتهريج...وهم في تصرفهم كرماء أسخياء، متحررون من روح التعصب، ويكشفون عن كل الفضائل السلبية لغيرهم من الشرقيين"(31) ينقضه بفرية أخرى وإن كان يلمح فيها إلى الأدوار الخبيثة التي مارستها كل القوى المعادية في احتلالها على السلوك الاجتماعي ومحاولاتها لمسخه " في الوقت الذي أسجل فيه شهادتي عن أمثال هذه الصفات الطيبة، فإنني لا استطيع أن أعفي البغداديين من بعض العادات غير المستحبة، وتلك صفات قيل عنها بأنها ناجمة بصفة كلية عن فعل الحكومة الغريبة عن البلاد، ولا يمكن فصلها عنها، ذلك لأنه حيثما أمكن الحصول على الثروة، فإن الغش يكون أمراً ضرورياً على الإطلاق"(32) وقد قال هذا لأنه يعلم جيداً أن هذه المفردات السلوكية السيئة والمنافية للخلق العربي والعقيدة الإسلامية إنما جاءت من أقوام اعتنقوا الإسلام بظاهره في أغلب الأحيان، فقد نقلتها الجيوش الفارسية خلال العصر العباسي، من خلال تعاملها مع التجار العرب، حيث كانوا يفرضون عليهم بيع بضائعهم لهم بأسعار دون قيمتها، مما اضطرهم لوضع هوامش سعرية عالية عن قيمتها الحقيقية لتغطية منهج المساومات والتنازلات تحاشياً للخسارة، فكان الغش سبيلا لذلك، ثم أعقبهم الأتراك ليمارسوا نفس السلوك الدخيل معهم، فأساليب الغش والاحتيال والمساومات السعرية خصائص فارسية قديمة لا زالت راسخة في مجتمعاتهم.
وبعد كل ما احتوته صفحات المجلدين من دسائس مبطنة بحقائق من واقع بغداد آنذاك، يضع الرحالة البريطاني أهم أهداف الرحلة والترحال، بضعة سطور يلخص فيها مكنونات نفسه وأهداف قومه ونواياهم فيحشرها بين هذا الكم المتلاطم من الكسر والجبر، ذمٌّ يمرره بمدائح تكافئها بأساليب ماكرة، هذه السطور كانت تكفي لأن تترك أثرا مشوهاً في وعي المواطن العربي، يقول في هذه السطور الموجزة" لقد شهدت أثناء النكبة أمثلة عديدة من السخاء والتضحية بالنفس في سبيل الآخرين، وقد روى لي كثير من هؤلاء المزيد من هذه القصص فيما بعد، لقد سمع أحد الايطاليين أن صديقا له من أبناء وطنه قد أُلقي به وهو مصاب بذات الوباء(الطاعون) عند أحد بوابات المدينة، فما كان من صديقه هذا إلا أن سارع بالبحث عنه، ولقد عثر عليه فوجده غير قادر على الحركة وهو في حالة تدعو إلى الرثاء، وإذ ذاك أسرع بحمله على ظهره، ونقله إلى منزله الخاص به، والذي كانت تقيم فيه زوجته وأطفاله أيضاً، فأقام له محجراً صحياً هناك، وعاش هو وصديقه المريض إلى أن شفي من مرضه تماماً، دون أن يصاب أحد من أفراد البيت بأذى، نتيجة الرأفة التي أظهرها سيدهم تجاه ذلك المريض، وهناك حادثة مماثلة وقعت أيضاً، عندما هاجم الوباء زوجة أحد المبشرين الانكليز الذي كان يقيم هنا منذ بضعة أشهر، لم يهدأ للزوج بال ولكن كل ما فعله لإنقاذها من المرض، أنه هرب بها من المدينة، لكن صحتها ما لبثت أن تدنت بالتدريج، ومن ثم لفظت أنفاسها بين يديه، لقد امتدت الوقاية لتبسط حمايتها على أمثلة من الإخلاص والوفاء. لقد استطاع ذلك الزوج الثاكل، الذي لم يأبه للحياة وهو في غمرة أحزانه، أن يعيش لفترة مقبلة، وحين عاش بعد عائلته الذي اختطفها الموت، كان يشكر اليد التي غذيته ومن ثم أنقذته من الموت، إنها يد الله"(33) بهذه السطور حشر الصورة الصليبية التي أرادها نقيضاً للصورة المشوهة الممسوخة والتي رسمها عن العرب والمسلمين، من خلال بغداد، مع انه شاهد وعايش آلاف الحالات المشابهة لحالتي الايطالي والانكليزي من العرب أهل بغداد، قد تفوقها في إنسانيتها وعظم تضحياتها، لكنه لم يفعل، رغم انه مكث فيها أشهراً عديدة وتكررت إليها الرحلات، بل اكتفى بذكر الشيخ البدوي الذي رافقه إلى دمشق تجميلاً لصورة من يقدم لهم العون بما يخدم أغراضهم وإن كانت مبهمة غير معلومة.
وبعد كل هذا فإن القسم الخاص ببغداد من الكتاب نشر مترجماً من قبل الاستاذ سليم طه التكريتي في زمن كان العراق ينهض فيه بإعادة قراءة التاريخ، فكان لزاماً عليه أن يتنبه إلى كل هذه الدسائس لينبه القارئ ويُلفت نظره إليها لكي لا يقع في فخاخها، لكنه لم يفعل هو الأخر.
فهذا هو حال التاريخ، الذي ملأه الأعداء وأهل الأهواء تشويها وتحريفاً ومسخاً للعرب والإسلام بأغلفة جميلة وتحت عناوين مثيرة.
------------------------------------------------------------------
سورة الرعد، الآية:11.
الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج2، ص47- 51، ط2، دار المعارف مصر.
المصدر السابق، ص97.
ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ص6، دار الفكر 2001م بيروت.
المصدر السابق، ص12.
المصدر السابق، ص13.
المصدر السابق، ص14.
اندري بارو، بلاد أشور نينوى وبابل، ت د. عيسى سلمان و سليم طه، ص10، ص19، دار الرشيد 1980 بغداد.
المصدر السابق، ص192.
سورة البقرة، الآية:105.
د. حسين مؤنس، تنقية أصول التاريخ الإسلامي، ص195، دار الرشاد، ط1،القاهرة، 1997م.
المصدر السابق، ص195-196.
المصدر السابق، ص69.
ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج3، ص10، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت 1987م.
المصدر السابق، ص11.
المصدر السابق، ص 5.
المصدر السابق، ص44.
المصدر السابق، ص 11.
المصدر السابق، ص11.
المصدر السابق، ص28.
سورة المائدة، من الآية: 64.
الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الجزء الأول، 5951، دار الفكر 1995، بيروت.
ابن الأثير، أسد الغابة في معرفة الصحابة.
ابن هشام، السيرة النبوية،ص320، دار الكتاب العربي، بيروت 2005م.
جيمس ريموند ولستيد، رحلتي إلى بغداد، ترجمة سليم طه التكريتي، ص102، مكتبة النهضة العربية 1984 بغداد.
المصدر السابق، ص103-104.
المصدر السابق، ص104.
المصدر السابق، ص80.
المصدر السابق، ص91.
المصدر السابق.
المصدر السابق.
المصدر السابق.
المصدر السابق، ص108.