اللغة العربية رافعة المشروع العربي النهضوي

بقلم : فتحي الحمود

تعد اللغة العربية ذاكرة الأمة، وخزّان تراثها وقيمها، فهي حاضنة تجارب الأمة الثقافية والحضارية كما أنها الوسيلة الأهم لتطور الأمة، وتجديد كيانها المعاصر، فهي العنصر الأساسي للهوية القومية، حيث عكست عبر مسيرتها الطويلة تجارب ومظاهر حياة الأمة الفكرية والعملية والأدبية والفنية والسياسية والاقتصادية، من خلال مواكبتها لتجارب الأمم الأخرى، وإقامة الحوار البناء مع الحضارات، والتفاعل معها دون تفريط بشخصيتها المميزة....‏
لقد كانت الحضارة الإسلامية عربية الروح والجوهر والبنية، لأن العربية لسانُها الذي عرفت به، ونقلت عنها الحضارة الغربية باللسان نفسه. كما أن العرب استطاعوا بعد أقل من قرن على بداية العصر العباسي أن يدوّنوا خلاصة الحضارات اليونانية والهندية والفارسية باللغة العربية كترجمات أرسطو وأفلاطون، كليلة ودمنة، المؤلفات الفلسفية ... ، ولو لم تكن العربية قادرة على النقل والترجمة ، لما أتيح لهذه الثقافات أن تنتقل إلى تراثنا، حيث أقام المترجمون جسوراً بين العلوم والآداب والفلسفة الوافدة والأصلية، وتخلصوا من حاجز اللغة، ومزجوا هذه العلوم المختلفة بالحضارة العربية، فتجاوز العرب إرساء اللغة، وانطلقوا إلى آفاق الابتكار والتجديد والتعديل، والإضافة..
ويتخذ الترصد المنظم للغة العربية شكل الحروب الصامتة، منذ بدايات الهجمات الاستعمارية على الوطن العربي، ولهذا الترصد أسبابه الموضوعية، حيث يعلم المتربصون أن التماهي بين الهوية واللغة لم يبلغ تمامه الأقصى في الثقافات الإنسانية كما بلغه عند العرب عبر التاريخ، بكل تواتر فكرى واجتماعي ونفسي"، حيث لم يبق من اللغات البشرية إلا أربع لغات قادرة على الحضور العالمي، والتداول الإنساني، هي: الإنجليزية والإسبانية والعربية والصينية....
واللغة العربية لغة مُوَحّدة البُنى الدلالية والقومية والشعورية، وهذا عامل أساسي في كونها لغة ثرية، مواكبة للتطور، فاعلة في الحياة، متّصفة بالنماء، قادرة على استيعاب معارف العصر ومخترعاته.‏ والتراث العربي حافل بمصطلحات العلوم الإنسانية والتطبيقية والأساسية، التي استخدمت في ظل حضارة كانت الوحيدة في العالم القديم، كذلك فإن جهود مجامع اللغة العربية والجامعات ومراكز البحث تعد إسهامات طيبة وفاعلة في إثراء اللغة، وبيان مدى أصالتها، دليلنا على هذا: ظهور المعجمات المختلفة المتعلقة بالحروف والعلوم المختلفة، والتعريب، والترجمة والنشر.. مما يبرهن على قدرة اللغة العربية على أداء المفاهيم الجديدة المرتبطة بالاستعمال الفعلي في التعبير عن هذه المعارف..‏
إلا أنه لا يمكن تأصيل العلوم وانتشار المعارف في أي أمة من الأمم إلا بلغتها، ولذلك فإن إلحاق الأقطار العربية بالحضارة الغربية ومواكبتها يجب أن يبدأ باستخدام اللغة العربية، كلغة للتدريس وإعداد المصطلحات العلمية الموجودة، وقبل ذلك كلّه تحديد الهوية الثقافية، وتعزيز دورها في المشروع الحضاري العربي، الأمل الوحيد المتبقي، وبصيص النور في عالم تسوده الظلمة، حيث تكتسح الكلمات والمصطلحات الأجنبية جميع وسائل الإعلام، وعندما تصبح حالة غياب الوعي متفاقمة فلا بد من إجراءات حاسمة، كما تفعل دول مثل فرنسا لحماية لغتها وهويتها، حيث تم سنّ قوانين حاسمة يتم مقاضاة من يخالفها.
و لعل أهم ما يميز لغتنا العربية بين اللغات العالمية الحية، أنها قديمة حديثة في آن واحد. عاصرت اليونانية واللاتينية والفارسية والسنسكريتية، واستطاعت أن تستمر بفضل ما تتسم به من مرونة وخصائص متنوعة كالترادف والاشتقاق والقياس ... إضافة إلى أنها أفادت من لغات الحضارات التي قامت قبل الإسلام، وهضمت الكثير من معطياتها.‏ وهو ما اكسب اللغة العربية ميزات الديمومة والقوة والقدرة على الانتشار، لأنها لغة الدين الإسلامي ولغة القرآن الكريم، ولغة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فكانت المنزلة الدينية ذات الأبعاد الإنسانية والعالمية من أسباب ترسيخ أركانها وتقدير مكانتها، فأضحت لغة عالمية، استوعبت تجارب أمم وشعوب، من خلال تعدد مصادرها الثقافية والفكرية...
وللحصول على نتائج غير تقليدية، يجب إتباع عقلية غير تقليدية، ومن هنا لابد من طرح قضية تطوير اللغة العربية كمشروع، ولحماية هذه اللغة وتطويرها لا يكفي الرجوع فقط إلى العبارات الجزلة أو المعجمية و إعادة تداولها في الحياة العامة ، بل إن التطوير اللغوي يتأتى من خلال إحياء اللغة ككيان في حد ذاته وإعطائه المزيد من الحيوية والروح، ليصبح مواكباً للمعطيات الحياتية الحديثة، والمعروف أن الدراسات اللغوية قبل تشومسكي ونظرائه من المحدثين كانت مزيجا من الفلسفة، والأدب، والتاريخ، والمنطق...
وقلما تم النُظر إلى اللغة من حيث هي لغة، أما علم اللغة الحديث، أواللسانيات، فقد اختلف عن علم اللغة التقليدي، ومن مظاهر ذلك الاختلاف والتباين، الاهتمام باللغة المنطوقة، والكلام المحكيّ، أكثر من الاهتمام بالمكتوب منه، لأنَّ الكتابة مشتقة من الكلام، ولا تخلو من تنقيح، وتصنّع، ينتج عنهما التشويه في أكثر الأحيان، فالكتابة تقدم للباحث والدارس، عينة ليست صحيحة، والنتائج التي تبنى عليها ليست دقيقة بالضرورة... فاللغة هي الكيان الحقيقي الذي يحفظ ذاكرة الشعوب، وعليه الحفاظ على اللغة العربية لا يقع على اللغويين فقط بل على الكتاب والفلاسفة ، والفنانين ، وكل من يهتم بإبراز قيم الأمة وحضارتها .
وتؤثر الضغوط العالمية للاندماج والاستيعاب تأثيرا حاسما على اللغات التي يوجد منها في العالم الآن من خمسة آلاف إلى عشرين ألف لغة، وتعبّر كل منها عن نظرة فريدة للعالم ونمطا من أنماط التفكير والثقافة، لكن العديد من هذه اللغات تتعرض لخطر الانقراض في المستقبل المنظور، ويقل عدد الأطفال الذين يتكلمون بها، كما تترك (مكانها) لاتخاذ (إحدى) اللغات العالمية بديلا عنها، وهى اللغات التي يتسم متكلموها بالشراسة الثقافية، فضلا عن أنهم أقوياء اقتصاديا. والعديد من اللغات المهددة قد ماتت بالفعل، ويعنى اختفاء أية لغة إفقارا لمخزون الإنسانية من المعرفة وأدوات الاتصال داخل الثقافات وبينها.
وتلقى اللغة العربية بتاريخها تحديا كبيرا أمام العلم الإنساني، وهذا التحدي يبتهج به العلماء الذين أخلصوا للعلم ، ولكنه يغيظ سدنة التوظيف الأممي ويستفز سماسرة الثقافة الكونية، لا سيما منذ بدأت المعرفة اللغوية المتقدمة على المستوى العالمي، وفي الجامعات الأمريكية خصيصا تكتشف ما في التراث العربي من مخزون هائل يتصل بآليات الوصف اللغوي... وفرضية كاميلو سيلو (تتمثل) في تصنيف اللغات المنتشرة في العالم اليوم، والتي لها سيادة في حقول العلاقات الدولية إلى لغات تكتسب الأمومة، ولغات تكتسب لاحقا...، قد تصنّفت اللغة العربية ضمن الألسنة التي يرتبط بها الطفل ارتباطا أموميا.
واللغة العربية لغة عالمية - سواء أجاء بها الخطاب كحقيقة حاصلة أم كحقيقة افتراضية- لدس الحلم المزعج الذي يقض مضاجع المخططين الاستراتيجيين للثقافة الكونية. فاللغة العربية كما الهوية العربية كيان مهدد بالتهميش والتغييب تحت مسميات شتى، كعولمة الهوية ، المجتمع العالمي ، الشرق الأوسط الكبير ، وهنا لابد أن نعي أن محافظتنا على الوجود العربي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمحافظة على لغتنا لأنها، وبها ومنها بدأ تاريخنا وبها يستمر .
وفي نهاية الفترة العثمانية ظهرت كتابات عديدة ممن تناولوا موضوع دور اللغة في تعريف الأمة. ف(عبد الله العلا يلي ) رفض التعريفات الغربية للأمة، الأمر الذي شاطره فيه القوميون العرب , ممن اهتموا أيضاً بوظيفة اللغة الاتصالية وبصفتها مميزا ومحددا للحدود. فمن جهة الأمة، تجتمع نتيجة لتبادل الأفكار والمشاعر، وهذه الأفكار والمشاعر تميز الأمة عن غيرها، ومن هنا جاءت أفكار جواز ترجمة القرآن حرصاً على خصوصيته العربية.
ويعتبر المفكر القومي البارز ( ساطع الحصري -1880-1968) , أحد أهم ممثلي الأيديولوجية القومية العربية, الذي كان يرى في التعليم تحديثا للأمة، وقد أصر على أن تكون اللغة العربية، لغة التعليم الوحيدة في مرحلة ما بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، وعلى تعريب المصطلحات العلمية. ويركز الحصري في تعريفه للأمة على العامل الثقافي أكثر من السياسي، فهو لا يرى الدولة شرطا ضروريا أو كافيا لتكوين الأمة. ويهتم الحصري بالعامل الداخلي للروابط العربية دون كبير انشغال بالأمم الأخرى. ويرفض الحصري العامية بديلا للفصحى، لذا يرفض الربط بين الدول القائمة واللهجات العامية واعتبارها أساساً للتقسيم، كما رفض أفكار استبدال الأبجدية الرومانية بالعربية. لأن التنكر للغة العربية معناه ضياع الشخصية العربية وإبعادها عن مسارها التاريخي، لتبدو الأمة بلا هوية.
وبعد,
فأي حديث عن القومية العربية من دون الإهتمام بلغة الأمة الأم ...وهي لغة القرآن الكريم أيضا وقد كرمنا الله تعالى بها فأنزله على نبيه العربي الأمي الصادق الأمين سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات والتسليم , هو حديث ناقص بعد أن غزتنا الثقافة الغربية بلغاتها المختلفة فبتنا لا نعرف قواعدها ولا إملاءها , ولا نحوها ولا صرفها .
شيء مخجل هذا الذي نقرؤه كل يوم من مقالات ومداخلات سواء أكانت في الصحف المطبوعة أو على المواقع الأردنية ...وفيه الكثير من الإسفاف والضعف , والجهل !

وهو نفس الحال في مؤتمرات القمة العربية حيث معظم القادة العرب يخطئون بشكل " معيب " عند إلقاء الكلمات ...وهو الحال يتكرر في باقي المؤتمرات العربية الوطنية أو القومية ...مما يدفع المستمع والمتلقي إلى النفور من المتحدث ...وهو الأمر نفسه يتكرر في نشرات الأخبار والندوات الحوارية حتى أن الكثيرين يهربون منها للتحدث بالعامية واللهجة الدارجة ...وبالتالي هذا الشيء زاد الطين بلة ...وهاهي الإعلانات التجارية تتجاهل اللغة الفصحى وتلجأ إلى أضعف أنواع العامية...!
لابد من العودة إلى اللغة العربية التي حاول العثماني طمسها لولا أن قدر لها ظهور منظري الحركة القومية العربية مسلمين ومسيحيين , ومعهم الإسلاميون في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في لبنان وسورية والعراق ومصر وتونس , وباقي أقطار المغرب العربي !
لاشك أن للأخوة المسيحيين في كل من سورية ولبنان دورا مهما , وبارزا في المحافظة على اللغة العربية وآدابها في الفترة المذكورة يقدر لهم بمزيد من الشكر والعرفان والإمتنان , في الوطن والمهجر.
هذه المعلومات عن اللغة العربية أضعها أمام شبابنا وواضعي مناهجها , في المدارس والجامعات للتأكيد على ضرورة إعطاء اللغة العربية الأولوية على أي شيء آخر ...آخذين بالإعتبار أن تعلم اللغات الأجنبية – وهو شيء ضروري وأساس – يجب أن لايكون على حساب لغتنا الأم التي بها نعتز ونفخر حتى قيام الساعة , وتبقى الهوية الأساس لكل من يعيش في الوطن العربي الكبير !
لا تبخسوا اللغة العربية شأنها وأهميتها وقيمتها وحقها في صناعة الحاضر والمستقبل العربي . وعلى جامعة الدول العربية أن تسعى بكل طاقاتها لتثبيت الهوية العربية في بلاد العرب من المحيط إلى الخليج , كأمة واحدة وإن فرقتها حدود وهمية صنعها المستعمر لعقود ...!.
وإذا ما بقي الحال على ما هو عليه فإن الهوية العربية مهددة بالضياع , وفقدان أهم عنصر في تكوينها كأمة واحدة تسعى إلى الوحدة أو الإتحاد في يوم من الأيام مهما طال الزمان ....!
فالوحدة العربية ليست ترفا سياسيا وإقتصاديا وإجتماعيا ...ولكنها ضرورة حتمية لتقف الأمة العربية في الصفوف الأولى بين العالم المتحضر والمتقدم ...خذوا الصين والهند وأندونيسيا وماليزيا أمثلة ...وكوريا واليابان ...كيف كانت وكيف أصبحت !

عكس الوحدة الفرقة في وجه تحديات عالمية تهدد هويتنا وثقافتنا ...وبالتالي نفقد كل شيء معهما !