"أدومه وإن قل" سمة الناجح


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله.
اتفَق الناس أن الرجل الناجح هو الذي يتغلَّب على العوائق وينتصر، والذي بعد سقوطه يقوم ويجاهد ظروفه، واختلَفوا في صفاته، فقال قوم: هو كذا وكذا، وقال آخرون: لا بد أن يكون فيه كذا وكذا من الصفات، وفي هذا الموضوع لن أخوض في صفاته المختلفة، بل سأتكلَّم عن أمر آخَرَ، وهو صفة عامة يشترك فيها كلُّ الناجحين، بل والفاشلين كذلك، كالمركب الذي تركبه لتفوز بمعركة أو تخسر، وهذه الصفة لا تكون بذاتها مؤثِّرةً، بل لابد أن تتكئ عليها صفة محدَّدة ليقوى أو يضعُف، فإن كانت الصفة ضعيفة ضعُف ومشى نحو الهلاك، وإلا انتصر.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَحَبُّ العمل إلى الله أَدْوَمُهُ وإنْ قَلَّ»، فهذا الحديث يغرس في المؤمن أن الاستمرارية في العمل القليل خيرٌ وأحَبُّ إلى الله من الكثير المنقطع، وأنك إن وطَّنتَ نفسك على هذه الاستراتيجية في العبادة، ومن ثَمَّ في سائر أمورك، ستجد أنك بلَغتَ الفلاح في الدارين، وهذه الصفة العامة التي تعني الاستمرارية في الشيء وعدم الانقطاع عنه.

وأزعمُ أن كل سُبل النجاح في الدنيا قد أتتْ في التشريعات والأوامر والنواهي في الإسلام، لم تأتِ بصيغة: (افعل كذا في الدنيا؛ ليعلوَ شأنك وتنجح فيها)؛ فما الدنيا بتلك القيمة في الإسلام، ولكن أتت بصيغة: (افعل كذلك؛ لتفوز في الآخرة، افعل كذا؛ لتتزكَّى وتطهر)، وربما رُغِّب فيها بشيء من النفع الدنيوي؛ لتنطلق النفوسُ الشبيهة بالمؤلَّفةِ قلوبُهم حتى يرسخ الإيمان فيها، وينغرس فيها التلذُّذُ بالطاعات، فتنصرف طالبةً رضا ربها.

فتجد في الإسلام مثلًا أنه يُؤمر الرجل بأن يعمل ليجد قُوتَه ولو في أقل الأعمال وأسهلها مثل الاحتطاب والتكسب منه؛ فهذا خيرٌ من أن يَسأل الناسَ أعطَوْه أو منَعُوه، ليست المسألة حماية المسلم من مذلة أن يَسأل ثم يُرفض وما فيها من كسرة له، بل قفل باب السؤال والنظر للناس ليُعينوه وتحميلهم مسؤولية نهوضه ونجاحه، قفل السؤال أن يلتفت لأحدٍ من الخلق مهما كان يحبه وأن يطلب مساعدته، بل ينظر للسماء ويستمدُّ قوته من خالقه، وينهض بنفسه يجمع شتاته حجرًا حجرًا حتى يصبح جبلًا، وظاهره لو أبصره الكافر مثلًا لرأى ظاهر الأمر العجيب، رجل يحتاج فلا ينتظر أحدًا أن يساعده فينهض ويقاوم الضعف ويبحث عن أيِّ عمل يقتات منه، وآخر يمشي يزيح أذى عن طريق الناس، ربما لن يمرَّ على الطريق مرة أخرى، ولكنه يعلم أنه سيؤذي الناس بعده فيُزيله، وعقليته تعمل على أن كل أذى ينال الناسَ سيزيله إن استطاع، وكلُّهم يُحرِّكه دِينٌ، فلا شك بأن هذا المجتمع المقاوم هو الأقوى مطلقًا على مر التاريخ.

يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 5، 6]، فاستمرار المؤمن في فعل الخير يؤدي به إلى الخير المتتابع، من حيث إن الخير يجرُّ بعضُه بعضًا، ويسهل فعله في النفس القابلة للتكيُّف، ومن حيث إن الله سيَهديه ويُسدِّده.

الاستمرارية تعني أن تفعل الفعل وتصبر عليه، تأتيك أيام سوداءُ لا ترى لفعلك أية فائدة، أو لا تذوق فيه أيةَ حلاوة، تغُضُّ الطَّرْفَ عن ألَمِك وتمضي، لو أن كل الناس وجدوا في وقت عملهم ثمرته لما توقَّف أحد، ولكن لمَّا كان الأمر يُدرك بالعقل فاز من يستحق، ونال الفلاح من اجتهد وضحَّى بالقليل لأجل الكثير، والمؤمن في كل حياته ينتظر ثواب الآخرة ويُؤْثِرُه على ثواب الدنيا، وهذا أعظم صبر مر على الناس، فما بالك وهو ينتظر ثوابًا بعد مدة قصيرة في حياته.

الاستمرارية تعني التغلب على العوائق المتتابعة، لا ينهزم المرءُ ويضعُف لها، وأن يمضي ولا يلتفت، لا يلتفت لما يفتنه ويُضعِفه ويَشغَلُه عن سيره، الاستمرارية هي التوبة والاستغفار، ترى الفرد يجاهد كي لا يذنب، وإنْ أذنَبَ يستغفر ويتوب ويتوقف، دوام توبته أهمُّ عنده من ألا يخطأ، رغم أنه يجاهد نفسه حتى لا يذنب ألبتة، ولكنه يعلم أن الكل خطَّاءٌ، وخير الخطَّائين التوَّابون.

ولكن لكي يستمر المرء في أي فعل يحتاج لدافع، وأغلبُ أسباب التوقف وعدم الإكمال هو اعتقاد عدم وجود منفعة وعدم نيلها، وينبغي إيضاح هذه النقطة ببيان "النتيجة التراكمية"، فكثير من الأمور التي نقوم بها في حياتنا نتيجتُها لا تكون فورية أو واضحة خلال مدة زمنية قصيرة، بل هي كالحجر الذي تضعه بعضه فوق بعض حتى يغدو جبلًا، فربما لم يُلاحظ عمَلَه صاحبُه بل يلاحظه من غاب عنه ثم رأى.

وهذا المبدأ تجده موجودًا في الإسلام، حيث من المقرَّر فيه أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فكلما فعل العبدُ طاعة لله أَوْرَثَ ذلك زيادة في الإيمان بشكل تراكمي، وإن تأمَّلَ أحدنا نفسه إن التزَمَ بطاعة بعد سنة منها مثلًا وجد تغيُّرات شتى، وانتبَهَ لها من يصاحبه.

وما زال الإسلام يعلِّم النفس البشرية طريقةَ التفكير الصحيحة، والسبل السهلة للعيش الأكمل، وكثير من الأمم تتخَّبط قرونًا حتى تصل لبعض ما وصل إليه الإسلام؛ فلذلك تجد كثيرًا من العلماء الذين رسخت أقدامُهم في معاني الدِّين وأسراره يقولون بأن السعادة كلَّ السعادة في التزام الدين، السعادة الدنيوية قبل الأخروية، ولو أن رجلًا كافرًا التزم بشرائع الإسلام وأحكام معاملاته، لَعاش بأحكم نظام عرَفتْه البشرية يومًا، فما بالك بمن يجمع الأمرين وقلبُه مطمئنٌّ بالله؟!

الإسلام يغيِّر من تفكير معتنقيه، ولا تجد طريقًا مبتدعًا للسعادة إلا وله في الإسلام أمر، فهذا سلك سُبُلًا شتى حتى وصل لنتيجته، ولا تكون كاملة، ربما بل يكمِّلها من يخلفه، والإسلام كامل منذ ألف وأربعمائة سنة، يضع لك كلَّ السبل لتحيا الحياة بكل ما فيها من معنى.

فإذًا.. عليك أن تؤمن بنفع فكرة أولًا، إما بيقينٍ جازم كمؤمن بديانة، يعتقد بخيرِ كلِّ ما أمَرتْ به وشرِّ ما نهَتْ عنه، سواء عَلِم نفْعَه الحاضر أو نفع ما يستقبله أو ضرَرَه أو لم يعلم، أو يكون منصتًا لمجرِّب أو عالم يتكلم بعِلمٍ، فيعلم أن التدخين يضرُّه أشد الضرر مثلًا على كافة الأصعدة، ويلزم نفسه بذلك ويعقلها عقل من لا يسمع أنين المعقول.
______________________________
الكاتب: محمد بن عبدالرب آل نواب

وهذا الإيمان يحتاج لاستمرارية كذلك، ففي أول الأمر تنقدح في ذهنك حماسةُ البدايات وتبدأ، حتى إذا عُصرت وضاقت بك الحيل، شكَّكتَ نفسك في صحة الأمر حتى تتفلَّت منه، أو في الضرر الحاصل بتركه، أو تُقنِعُك نفسُك بتأجيله حتى تقْوى، أو أنك أضعف من ذلك الآن؛ فظروفك لا تساعد وسوف تفعل إن حصل لك كذا وكذا، فتعلِّق الأمر على ظرف مستقبليٍّ سيتهيأ إن لم تستطع دفعه في الحال، فالتأجيل من أنواع الضعف الخفيِّ.