قال شيخ الاسلام ابن تيمية فى الواسطية
ومِنَ الإِيْمانِ باللهِ: الإِيمانُ بِمَا وَصَفَ بهِ نَفْسَهُ وَ وَصَفَهُ بهِ رَسُولُهُ محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مِنْ غَيْرِ تَحْريفٍ
ولا تَعْطيلٍ
و لا تَكْيِيفٍ
ولا تَمْثيلٍ
*************
الشرح
قولهُ: ( من غير تحريفٍ ): أي تغييرٍ لألفاظِ الأسماءِ والصّفاتِ، أو تغييرٍ لمعانيها، وقد ذَمَّ اللهُ سبحانَه وتعالى الَّذين يحُرِّفُون الكَلِمَ عن مَوَاضِعِه، كما قالَ اللهُ سبحانه وتعالى عن اليهودِ: (مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) أي يُغَيِّرُونَهُ ويُفَسِّرُونَهُ بغيرِ معناهُ،
فالتَّحريفُ لغةً: التَّغييرُ وإِمَالَةُ الشَّيءِ عن وجهِهِ، يُقال انْحَرَفَ عن كذا أي مَالَ وعَدَلَ،
واصطلاحاً: هو التَّغييُر لألفاظِ الأسماءِ والصّفاتِ أو معانيها، كقول الجَهْمِيَّةِ في قولِهِ سبحانه: (الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) أي اسْتَوْلَى، وقوله (وَجَاءَ رَبُّكَ ) أي أَمرُهُ،
فالتَّحريفُ ينقسمُ إلى قسمين:
الأوَّلِ: تحريفُ اللفظِ، كقولِهم في (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) بِنَصْبِ لفظِ الجلالةِ، وكقولِهِم في (استوَى ): استولى، (وَجَاءَ رَبُّكَ ) أي أَمْرُهُ. وَيُرْوَى أنَّ جَهْمِيّاً طلبَ من أبي عمرو بِنِ اِلعلاءِ أحدِ القُرَّاءِ يقرأُ: (وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تَكْلِيماً) بِنَصْبِ لفظِ الجلالةِ، فقال له: هَبْنِي فَعَلْتُ ذلك فما تَصنَعُ بقولِه: (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ) فَبُهِتَ الجَهْمِيُّ.
الثَّاني: التَّحريفُ المعنويُّ: كقولِهم في قوله سبحانه وتعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) أي جَرَّحَهُ بِأَضَافِيِرِ الْحِكْمَةِ تَجْريحاً.
قال ابنُ القيّمِ رحمهُ اللهُ:
والتَّحريفُ نوعان تحريفُ اللفظِ،
وتحريفُ المعنى،
فتحريفُ اللفظِ: العُدُولُ عن جِهَتِهِ إلى غيرِها، إمَّا بزيادةٍ أو نقصانٍ، وإمَّا بتغييرِ حَرَكةٍ إِعْرابيّةٍ أو غيرِ إِعْرابيّةٍ، فهذه أربعةُ أنواعٍ.
وأمَّا تحريفُ المعنى: فهو العُدُولُ بالمعنى عن وجهِه وحقيقتِه، وإعطاءُ اللفظِ معنى لفظٍ آخرَ بِقَدَرٍ مَا مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُما.
قولُه: ( ولا تعطيلٍ ): وهو لغةً: الإخلاءُ، يقالُ جِيدٌ عُطْلٌ، أي خَالٍ مِنَ الزِّينَةِ، قال الشّاعرُ:
وَجِيدٍ كَجِيدِ الرِّيم لَيْسَ بِفاحِشٍ إِذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلاَ بِمُعَطَّلِ
وأمَّا معناهُ هنا فهو جحدُ الصّفاتِ وإنكارُ قِيامِها بذاتِه سبحانَه، ونفيُ ما دلَّت عليه من صفاتِ الكمالِ، وأوَّلُ مَنْ قالَ بالتَّعطيلِ في الإسلامِ: الَجَعْدُ بنُ دِرْهَمٍ، فقتلهُ خالدُ بنُ عبدِ اللهِ القَسْرِيُّ بعدَ استشارةِ علماءِ زمانِه.
قال ابنُ القيّمِ رحمهُ اللهِ في (( النُّونِيَّةِ )):
وَلِذَا ضَحَّى بِجَعْدٍ خَالِدُ الـ قَسْرِيُّ يَوْمَ ذَبَائِحِ الْقُرْبَانِ
شَكَرَ الضَّحِيَّةَ كُلُّ صَاحِبِ سُنَّةٍ ِلله دَرُّكَ مِنْ أَخِي قُرْبَانِ
وتلقَّى عن الجعدِ مقالةَ التَّعطيلِ: الجَهْمُ بنُ صَفْوانَ التِّرْمِذِيُّ، فنشرها ونَاضَل عنها، فلذا نُسِبَ المذهبُ إليه، فيقالُ: جَهْميَّةٌ بفتحِ الجيمِ، والجهمُ قتَله سَلَمُ بنُ أَحْوَزَ أميرُ خُرَاسَانَ
والتّعطيلُ ينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ،
كما ذكره ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ:
الأوَّلِ: تعطيلُ المَصْنوعِ مِن صَانِعِهِ، كتعطيلِ الفلاسفةِ الَّذين زعَموا قِدَمَ هذه المخلوقاتِ، وأنَّها تتصرَّفُ بطبيعتِهَا.
الثَّاني: تعطيلُ الصَّانعِ مِن كَمَالِهِ المُقَدَّسِ بتعطيلِ أسمائهِ وصفاتهِ، كتعطيلِ الجهميَّةِ وأشباهِهِم من المعتزلةِ وغيرِهِم.
الثَّالثِ: تعطيلُ حَقِّ معاملتِه، بتركِ عبادتِه، أو عبادةِ غيرِهِ معَه.
قال ابنُ القيّمِ رحمه اللهُ: والتَّعطيلُ شرٌّ من الشّركِ، فإنَّ المُعَطِّلَ جاحدٌ للذَّاتِ أو لِكَمَالِها، وهو جَحْدٌ لحقيقةِ الألوهيّةِ، فإنَّ ذاتًا لا تسمعُ ولا تبصِرُ ولا تغضبُ ولا تَرْضى ولا تفعلُ شيئًا وليسَتْ داخلَ العالمِ ولا خارجَه ولا متّصلةً بالعالمِ ولا منفصلةً ولا فوقَ ولا تحتَ ولا يمينَ ولا شِمالَ، هو والعدمُ سواءٌ، والمُشْرِكُ مُقِرٌّ باللهِ، لكنْ عبدَ معه غيرَه، فهو خيرٌ من المعطِّلِ للذَّاتِ والصّفاتِ.
قولـُه: ( ولا تكييفٍ): وهو تعيينُ كُنْهِ الصّفةِ، يُقالُ كَيَّفَ الشّيءَ: أي جَعَلَ له كيفيّةً مَعْلومةً، وكيفيّةُ الشّيءِ صفتُه وحالُه، فالتّكييفُ تعيينُ كُنْهِ الصّفةِ وكيفيّتِها، وهذا ممَّا استأثرَ اللهُ به، فلا سبيلَ إلى الوصولِ إِليه، إذ الصّفةُ تابعةٌ للموصوفِ، فَكما لا يَعلمُ كَيْفَ هُوَ أَلاَّ هُوَ، فكذلك صفاتُهُ فالصّفاتُ يحُذَى فيها حَذْوَ الذّاتِ، وقد سُئِلَ مالكٌ رحمهُ اللهُ تعالى فقيلَ له: (الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) كيف اسْتَوى؟ فقال: الاستواءُ معلُومٌ، والكَيْفُ مَجْهُولٌ، والإِيماَنُ به وَاجِبٌ، والسُّؤالُ عنه بِدْعَةٌ، وكذلك رُوِيَ عن ربيعةَ نحواً من هذه الإجابةِ، وكذلك رُوِيَ عن أمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقوله: الاستواءُ مَعْلومٌ، أي في لغةِ العربِ، وقولُه: والكَيْفُ مجهولٌ، أي كيفيّةُ استوائِهِ سبحانه وتعالى لا يَعْلَمُ كُنْهَها وكيفيَّتـَها إلا هو سبحانَه، وقولُهُ: الإيمانُ به واجبٌ، لتكاثرِ الأدلَّةِ من الكتابِ والسّنـّةِ في إثباتِ ذلك، والسّؤالُ عنهُ، أي عن الكيفيّةِ بِدْعَةٌ، فَفَرَّقَ مالكٌ رحمه اللهُ بين المَعْنى المَعْلُومِ من هذه اللفظةِ، وبين الكَيْفِ الذي لا يَعْقِلُهُ البشرُ.
وإجابةُ مالكٍ رحمه الله تعالى وغيرِهِ جوابٌ كَافٍ شَافٍ في جميعِ مسائلِ الصّفاتِ، فإذا سُئلَ إنسانٌ عن المجيءِ أو النّزولِ أو السّمعِ أو البصرِ أو غيرِ ذلك، أجابَ بجوابِ مالكٍ رحمه اللهُ، فيُقالُ مثلاً: المَجِيءُ معلومٌ والكيفُ مجهولٌ، وكذلك مَنْ سُئِلَ عن الغضبِ والرّضى والضّحكِ وغيرِ ذلك فمعانيها كلُّها مفهومةٌ، وأمَّا كيفيَّتُها فغيرُ معقولةٍ، إذ تَعقُّلُ الكيفيّةِ فَرْعُ العِلْمِ بكيفيّةِ الذّاتِ وكُنْهِها، فإذا كانَ ذلك غيرَ معقولٍ للبشرِ فكيف يُعقلُ لهم كيفيّةُ الصّفاتِ؟!
قولـُهُ: ( ولا تمثيلَ ):
التـَّمثيلُ هو التـَّشبيهُ، يقال مَثَّلَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ سَوَّاهُ وَشَبَّهَهُ بِهِ، وجعله مثلَهُ وعلى مِثَالِهِ، فالشَّبيهُ والمثيلُ والنَّظيرُ ألفاظٌ مُتقاربةٌ، فلا تُمثـّلُ صفاتُهُ بصفاتِ خَلْقِهِ، فإنَّه لا مثلَ له ولا شِبْهَ له ولا نَظِيرَ، لا في ذاتِه وأسمائِه، ولا في صفاتِه وأفعالِه، كما قالَ سبحانه وتعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )
والتَّشبيهُ ينقسمُ إلى قسمين:
الأوَّلِ: تشبيهُ المخلوقِ بالخالقِ، كتشبيهِ النَّصارَى عيسى باللهِ، وكتشبيهِهِم عُزيراً وتشبيهِ المشركين أصنامَهم باللهِ، وهذا النَّوعُ هو الَّذي أُرْسلتِ الرُّسلُ وأُنْزلت الكتبُ في النَّهيِ عنه، وهو أعظمُ الذّنوبِ على الإطلاقِ، ومُحْبِطٌ لجميعِ الأعمالِ.
الثَّاني: تشبيهُ الخالقِ بالمخلوقِ، كقولِ المُشِّبهِ: *للهِ يَدٌ كَأَيْدِينَا، وسَمْعٌ كأسماعِنا، وهذا هو الـَّذي صُنِّفَتْ كتبُ التَّوحيدِ للرَّدِّ على قائلِهِ، وكلا النّوعين كفرٌ، وكلُّ مشبِّهٌ معطِّلٌ وبالعكسِ، فإنَّ المعطِّلَ لم يفهمْ من صِفَاتِ اللهِ إلا ما يليقُ بالمخلوقِ، فأرادَ بزعمِهِ الفاسدِ تنـزيهَهُ عن ذلك فوقعَ في التَّعطيلِ، فَشَبَّهَ أوَّلاً وعَطَّل ثانياً وشبَّههُ ثالثاً بالمعدوماتِ والنَّاقصاتِ، تعالى اللهُ عن قولِهِم.
وكذلك المشبِّهُ عطَّلَ الصّفةَ الَّتي تليقُ باللهِ ووصفَه بصفاتِ المخلوقِ، فعطَّلَ أوَّلاً، وشبَّههُ ثانياً، فكلُّ مُعطِّلٍ مُشبِّهٌ وبالعكسِ.
قال الشّيخُ تقيُّ الدّينِ في (( الحَمَوِيَّةِ )): وكلُّ واحدٍ من فَريقي التَّعطيلِ والتَّمثيلِ فهو جامعٌ بين التَّعطيلِ والتَّمثيلِ، أمَّا المُعَطِّلُون فإنَّهم لم يَفْهَمُوا من أسماءِ اللهِ وصفاتِه إلا ما هو اللائقُ بالمخلوقِ، ثمَّ شَرَعُوا في نفيِ تلك المَفْهُوماتِ، فقد جَمَعوا بين التَّمثيلِ والتَّعطيلِ، مثَّلوا أولاً، وعَطَّلوا آخراً، وهذا تَشبيهٌ وتَمثيلٌ منهم للمفهومِ من أسمائهِ وصفاتِه بالمفهومِ من أسماءِ خلقِه وصفاتهِم، وتَعطيلٌ لما يَسْتَحقُّه هو من الصّفاتِ اللائقةِ باللهِ سبحانه، ومذهبُ السّلفِ بين التَّعطيلِ والتَّمثيلِ فلا يُمَثلِّون صفاتِ اللهِ بصفاتِ خلقِه، كما لا يُمثِّلون ذاتَه بِذواتِ خَلْقِهِ، فلا يَنفُون عنه ما وَصَف به نفسَه، أو وَصَفَهُ به رسولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُعَطِّلُون أسماءَه الحسنى وصفاتِه، ويُحرِّفُون الكلمَ عن مواضِعه، ويُلحدُونَ في أسماءِ اللهِ وآياتِه. انتهى.
[ التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد]