تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 34

الموضوع: التوحيد فى الهجرة

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي التوحيد فى الهجرة

    قال الشيخ اسحاق ابن عبد الرحمن بن حسن
    إظهار الدين ،
    هو:
    إظهار التوحيد الذي هو إفراد الله بالعبادة،

    في بلد
    يخفى فيه،
    بل يجعل
    ضده هو الدين؛
    ومن تكلم به هو
    الوهابي الخارجي
    ، صاحب المذهب الخامس، الذي يكفر الأمة
    والحاصل هو.. أن إظهار الدين الذي تبرأ به الذمة،
    هو
    الامتياز عن عباد الأوثان بإظهار المعتقد،
    والتصريح بما هو عليه،
    والبعد عن الشرك، ووسائله؛
    فمن كان بهذه المثابة إن عرف الدين بدليله، وأمن الفتنة، جاز له الإقامة، والله أعلم.


    بقي مسألة العاجز عن الهجرة ما يصنع؟
    قال الوالد رحمه الله،
    لما سئل عنه:

    وأما إذا كان
    الموحد بين ظهراني أناس من المبتدعة والمشركين،ويعجز عن الهجرة،
    فعليه بتقوى الله، ويعتزلهم ما استطاع، ويعمل بما وجب عليه في نفسه،
    ومع من يوافقه على دينه، وعليهم أن يصبروا على أذى من يؤذيهم في الدين؛
    ومن قدر على الهجرة وجبت عليه، انتهى جوابه، وبالله التوفيق؛
    [الدرر السنية]-
    وانظر رسالة الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن على هذا الرابط
    -[رسالة الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن فى حكم بلدان المشركين،]-

    يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن-
    وهل ترك جعفر وأصحابه بلادهم وأرض قومهم
    واختاروا بلاد الحبشة
    ومجاورة الأباعد والأجانب
    وغير الشكل في المذهب والنسب واللسان ،

    إلا لأجل التصريح بعداوة المشركين والبراءة منهم جهارا في المذهب والدين ؟

    ولولا ذلك لما احتاجوا إلى هجرة ،
    ولا اختاروا الغربة
    ،
    ولكن ذلك في ذات الإله ،
    والمعاداة لأجله
    ، وهذا ظاهر لا يحتاج لتقرير لولا غلبة الجهل .


    وامرأة فرعون قصتها وما جرى عليها من المحنة مشهورة في كتب التفسير
    لا يجهله من له أدنى ممارسة .
    وقد حكى الله في سورة التحريم قولها المشتمل على التصريح والبراءة من فرعون وعمله ومن القوم الظالمين .
    والظلم هنا هو الكفر الجلي .


    ومؤمن آل فرعون قام خطيبا في قومه ،
    عائبا لدينهم ، مفنّداً لقيلهم ماقتاً لهم ؛
    داعياً إلى الحق وإلى صراط مستقيم .
    كما ذكر الله قصته وقررها في سورة ( حم المؤمن ) .
    ومن طبع الله على قلبه وحقت عليه كلمة العذاب لم تفد فيه الواضحات ،
    ولم ينتفع بالآيات البينات
    .
    ويقول رحمه الله -
    وإلاَّ فما الذي حمل المسلمين على الصبر على ذلك العذاب والأسر والضرب
    والهجرة
    إلى الحبشة مع أنه صلى الله عليه وسلم أرحم الناس،
    ولو يجد لهم رخصة لأرخص لهم،


  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: التوحيد فى الهجرة

    يقول الشيخ سليمان بن سحمان فى كشف الاوهام-
    قد تقدم عن شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه
    أن أحد الأقسام الأربعة التي قد اشتملت عليها الوجود
    هو القسم الرابع
    وهم الذين عنى الله بقوله
    ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم
    أن تطؤهمهم
    من كان
    كافرا ظاهرا مؤمنا باطنا
    فهؤلاء كانوا يكتمون إيمانهم في قومهم
    ولا يتمكنون من إظهاره
    فهم في
    الظاهر لهم حكم الكفار
    وعلى زعم هذا الجاهل أنه إذا كانت مكة المشرفة قد قسمها الله ثلاثة أقسام
    فلا تكون مع هذا التقسيم بلاد كفر وحرب
    إذ ذاك
    وإلا فما وجه الاستدلال بهذا التقسيم حينئذ
    وإذا كان ذلك كذلك فحكم بلد دبي وأبي ظبي حكم مكة ولا شك أن فيها مسلمين ظالمين لأنفسهم ومستضعفين عاجزين
    وكل بلد من بلاد الكفر فيها نوع من هؤلاء يكون حكمها كذلك عند هذا المتنطع المتمعلم
    سبحان الله ما أعظم شأنه وأعز سلطانه
    كيف لعب الشيطان بعقول هؤلاء حتى قلبوا الحقائق عليهم
    نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن

    وأما حكم العاصي الظالم القادر على الهجرة الذي لا يقدر على إظهار دينه
    فهو على ما ظهر من حاله
    فإن كان ظاهره مع أهل بلده فحكمه حكمهم في الظاهر وإن كان مسلما يخفي إسلامه
    لما روى البخاري في صحيحه من حديث موسى بن عقبة قال ابن شهاب حدثنا أنس بن مالك أن رجالا من الأنصار قالوا يا رسول الله ائذن لنا فنترك لابن أختنا عباس فداءه فقال لا والله لا تذرون منه درهما
    وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان عن عروة عن الزهري عن جماعة سماهم قالوا بعث قريش في فدى أسراهم ففدى في كل قوم أسيرهم بما رضوا

    وقال العباس يا رسول الله قد كنت مسلما
    فقال رسول الله أعلم بإسلامك فإن يكون كما يقول فإن الله يجزيك به
    وأما ظاهرك فقد كان علينا
    فافتد نفسك
    وابنى أخيك وأخويك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب وخليفك عتبة بن عمر وأخي بني الحارث بن فهر
    قال
    ما ذاك عندي يا رسول الل
    ه
    فقال فأين المال الذين دفنته أنت وأم الفضل فقلت لها إن أصبت في سفري هذا فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل وعبد الله وقثم قال والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله هذا لشيء ما علمه غيري وغير أم الفضل
    فأحسب لي يا رسول الله ما أصبتم
    مني عشرين أوقية من مال كان معي
    فقال رسول الله
    لا ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه
    الحديث
    فاستحل رسول الله فداءه والمال الذي كان معه
    لأن ظاهره كان مع الكفار
    بقعوده عندهم
    وخروجه معهم ومن كان مع الكفار فله حكمهم في الظاهر
    [كشف الاوهام-للشيخ سليمان بن سحمان]

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: التوحيد فى الهجرة

    سئل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله :
    أَفتنا عن معنى حديث :
    (مَن سَاكَن الْمشرك وَجَامَعَه فهوَ مِثله).
    وحديث : (أَنا بَرِيءٌ مِن مَسلِم بَات بَين ظهرَاني الْمشرِكِين) .
    فأجاب :
    "حديث : (مَن جَامَعَ الْمشرِك أَو سَكن مَعَه فهوَ مِثله)
    وحديث : (أَنا بَرِيءٌ مِن مسلِم بَات بَين ظهرَاني الْمشرِكِين) هذان الحديثان هما من الوعيد الشديد المفيد غلظ تحريم مساكنة المشركين ومجامعتهم،
    كما هما من أَدلة وجوب الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام،
    وهذا في حق من لم يقدر على إظهار دينه.
    وأَما من قدر على إظهار دينه فلا تجب عليه الهجرة، بل هي مستحبة في حقه. وقد لا تستحب إذا كان في بقائه بين أَظهرهم مصلحة دينية من دعوة إلى التوحيد والسنة وتحذير من الشرك والبدعة علاوة على إظهاره دينه.
    وإظهاره دينه ليس هو مجرد فعل الصلاة وسائر فروع الدين واجتناب محرماته من الربا والزنا وغير ذلك.
    إنما إظهار الدين
    مجاهرته بالتوحيد والبراءة مما عليه المشركون من الشرك بالله في العبادة
    وغير ذلك من أَنواع الكفر والضلال
    " انتهى من "فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم" (1/77)

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: التوحيد فى الهجرة

    إن الله سبحانه من حكمته ولطفه ورحمته،
    لم يترك مدعي الإسلام والإيمان،
    بلا
    محنة يختبر بها الصدق من الكذب، ويميز بها بين المرتاب والمستيقن،
    وله في ذلك حكمة بالغة، ومشيئة نافذة، وحجة دامغة؛
    وقد تعددت
    سنته سبحانه وأيامه في خلقه بذلك،
    قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، رحمه الله تعالى: قوله تعالى:
    {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [سورة العنكبوت آية: 1-2]،
    قال: معناه:
    أظنَّ الذين جزعوا، يا محمد، من أصحابك، من أذى المشركين إياهم
    ،
    أن نتركهم من غير اختبار، ولا ابتلاء وامتحان،
    بأن قالوا: آمنا بك يا محمد، وصدقنا بما جئتنا به من عند الله؟
    كلا!لنختبرنهم، ليتبين الصادق من الكاذب.
    وقوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [سورة العنكبوت آية: 3]. قال: نزلت من أجل قوم كانوا قد أظهروا الإسلام بمكة،
    وتخلفوا عن الهجرة.
    والفتنة التي فتن بها هؤلاء،
    هي الهجرة التي امتحنوا بها.
    ذكر من قال ذلك، ثم ذكر بسنده عن الشعبي قال: إنها نزلت {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} الآيتين [سورة العنكبوت آية: 1-2] في أناس بمكة، قد أقروا بالإسلام،
    فكتب إليهم أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يقبل منكم إسلام حتى تهاجروا،
    فخرجوا عامدين إلى المدينة
    ، فاتبعهم المشركون فردوهم.
    فنـزلت فيهم هذه الآية،
    فكتبوا إليهم أنه قد نزلت فيكم هذه الآية، آية كذا وكذا. فقالوا: نخرج،
    فإن تبعنا أحد قاتلناه. قال: فخرجوا، فاتبعهم المشركون، فقاتلوهم
    ، فمنهم من قتل، ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة النحل آية: 110].
    وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}
    إلى آخر الآية [سورة العنكبوت آية: 10]،
    قال: نزلت في قوم من أهل الإيمان، كانوا بمكة فخرجوا مهاجرين،
    فأدركوا وأخذوا، فأعطوا المشركين لما نالهم أذاهم ما أرادوا منهم، ذكر الخبر بذلك.

    ثم ذكر بسنده عن عكرمة، عن ابن عباس قال:
    "كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستفتحون بإسلامهم، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: كان أصحاب هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم،
    فنـزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} الآية [سورة النساء آية: 97].
    قال: فكتبوا إلى من بقي من المسلمين بمكة بهذه الآية: أن لا عذر لهم.
    فخرجوا، فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة،
    فنـزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} إلى آخر الآية [سورة البقرة آية: 8]،
    فكتب المسلمون إليهم بذلك، فخرجوا وأيسوا من كل خير.
    ثم نزلت فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة النحل آية: 110]،
    فكتبوا إليهم بذلك: أن الله قد جعل لكم مخرجاً. فخرجوا، فأدركهم المشركون، فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقتل من قتل".

    فانظر قول المسلمين:
    كان أصحاب هؤلاء مسلمين، وأكرهوا، فاستغفروا لهم،
    فنـزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} الآية [سورة النساء آية: 97]،
    وظاهرها أنهم نهوا عن الاستغفار والدعاء،
    لمن قد مات مع سواد المشركين، ولو كان مسلماً.
    فما أعز من يتفطن لهذه المسألة! بل ما أعز من يعتقدها ديناً!

    عن سمرة بن جندب: أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
    "من جامع المشرك وسكن معه، فإنه مثله" . وقوله تعالى: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73]
    أي: إن لم
    تجانبوا المشركين، وتوالوا المؤمنين،
    وإلا وقعت الفتنة في الناس؛ وهو التباس الأمر، واختلاط المسلم بالكافر،
    وفي ذلك
    ضعف للدين، وقوة للكافرين.
    وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} [سورة التوبة آية: 23-24]،
    قال: يقول تعالى: لا تتخذوا بطانة وأصدقاء، تفشون إليهم أسراركم،
    وتؤثرون
    المقام معهم على الهجرة.
    قال ابن عباس رضي الله عنه:
    "لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، فمنهم من نفر وبادر، ومنهم من تعلق به أهله وأولاده، يقولون له: ننشدك بالله ألا تضيعنا، فيرق لهم فيقيم عليهم، ويدع الهجرة. فأنزل الله هذه الآية، فنهوا عن القيام مع المشركين، وتكثير سوادهم".
    وأخبر أن إيثار هذه
    الأصناف الثمانية،
    على ما أمر الله به من الهجرة، معصية لله ورسوله، فقال: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة آية: 24]

    . قلت: ظاهر هذا الخطاب، لمن ثبت إسلامه، ولم يصدر منه ما يناقضه، من الموالاة والنصرة، والإعانة بالنفس والمال، والدلالة على عورات المسلمين، وتمجيد المشركين في المنابر والمحافل، والانحناء وخضع الرأس عند رؤيتهم، كل هذه الأشياء، أعظم مما نحن فيه، ويحكم على من فعلها بحكم الله فيه.

    قال تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}
    هذا حكم الله تعالى في هذا الصنف،

    ولكن الكلام في المسلم القادر على الهجرة، التارك لها
    ، فإن انضم إلى ذلك عدم رؤية الذنب والإقرار به،
    والتمس العذر لنفسه واحتج لها،
    فهو أشد خطراً لجحود الفرض المأمور به، المخاطب به كل من ابتلي بمشرك.
    فيا ويح من تصدى لذلك!

    وفيما تقدم من كلام المفسرين كفاية لمن أراد الله هدايته ونجاته.
    ونزيد ذلك إيضاحاً بنقل كلام بعض العلماء وشراح الحديث، لئلا يبهرج على ضعفاء البصائر:
    قال الإمام ابن حجر العسقلاني - رحمه الله- في شرح البخاري:
    قوله
    : باب لا هجرة بعد الفتح، أي: فتح مكة،
    أو المراد ما هو أعم من ذلك، إشارة إلى أن حكم غير مكة في ذلك حكمها، فلا تجب الهجرة من بلد قد فتحها المسلمون.
    أما قبل فتح البلد، فمن به من المسلمين أحد ثلاثة:
    الأول: قادر على الهجرة منها، ولم يمكنه إظهار دينه بها، ولا أداء واجباته، فالهجرة منها واجبة.
    الثاني: قادر يمكنه إظهار دينه بها، وأداء واجباته،
    فالهجرة منها مستحبة، لتكثير المسلمين ومعونتهم، وجهاد الكفار، والأمن من غدرهم، والراحة من رؤية المنكر بينهم.
    الثالث: عاجز بعذر، من أسر، أو مرض، أو غيره، فيجوز له الإقامة، فإن حمل على نفسه وتكلف الخروج منها أجر. انتهى.
    وقال أبو الفوزي نقله عن ابن حجر المكي، وهو من أئمة الشافعية - لما ذكر الأحاديث الدالة على وجوب الهجرة -
    ما ملخصه:
    والمسلم الكائن بدار الكفر، إن أمكنه إظهار دينه،
    وأمن فتنته في دينه، استُحب له الهجرة إلى دار الإسلام،
    لئلا يكثر سواد الكفار، وربما كادوه،
    وإن لم يمكن المسلم الكائن بدار الكفر إظهار دينه فيها، وخاف فتنته في دينه،
    وجبت عليه الهجرة إلى دار الإسلام، وأثم بالإقامة،
    ولو كان المسلم امرأة، وإن لم تجد محرماً يذهب معها إلى دار الإسلام، لكن إذا أمنت على نفسها من فاحشة وغيرها.
    فإن لم يطق الهجرة،
    فمعذور، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [سورة النساء آية: 97]
    أي: ملك الموت وأعوانه، أو أراد: ملك الموت وحده، كما قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [سورة السجدة آية: 11].

    والعرب قد تخاطب الواحد بلفظ الجمع.
    {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} أي:
    في المقام في دار الشرك، وترك الهجرة
    {قَالُوا} أي: الملائكة، توبيخاً لهم:
    {فِيمَ كُنْتُمْ} أي:
    في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [سورة النساء آية: 97]، اعتذروا مما وبخوا به بضعفهم وعجزهم عن الهجرة وعن إظهار الدين وإعلاء كلمته.
    {قَالُوا} أي: الملائكة
    ، تكذيباً لهم وتبكيتاً: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97] إلى قطر آخر. {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 97].
    وذكر ابن حجر عن صاحب المعتمد:
    أن الهجرة كما تجب من بلاد الكفر تجب من بلاد الإسلام،
    إذا أظهر المسلم بها واجباً ولم يقبل منه، ولا قدر على إظهاره.
    قال: ويوافقه قول الإمام البغوي في تفسير سورة العنكبوت، في تفسير قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56]،
    قال: قال سعيد بن جبير: "إذا عمل في أرض بالمعاصي فاخرجوا منها، فإن أرضي واسعة"،
    وقال عطاء: "إذا أُمرتم بالمعاصي فاهربوا، فإن أرضي واسعة"
    . وكذلك يجب على كل من كان ببلد، يُعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغييرها، الهجرة إلى حيثما تتهيأ له العبادة، لقوله تعالى {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [سورة الأنعام آية: 68].
    وقال البيهقي في شعبه، ما نصه:
    اعلم أن الهجرة على ضربين: ظاهر، وباطن
    .
    ثم قال: فالظاهر منها- أي: من الهجرة-:
    الفرار بالجسد من الفتن، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
    "أنا بريء من أهل ملتين؛ لا تتراءى ناراهما" ، فتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم منهم، لعدم هذه الشعبة فيهم
    ،
    وهي: الهجرة؛
    فهي إذاً من أعظم شعب الإيمان، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم -
    وقد ذكر الفتن
    -: "لا يسلم لذي دين دينه، إلامن فر من شاهق إلى شاهق"،
    قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} الآية [سورة النساء آية: 97].
    وفي البخاري: والفرار من الفتن، من الإيمان؛
    فما كان من الإيمان فهو من شعبه بلا شك.

    فالفرار ظاهر من بين ظهراني المشركين،
    واجب على كل مسلم،
    وكذلك كل موضع يخاف فيه الفتنة في الدين، من ظهور بدعة،
    أو ما يجر إلى كفر، في أي بلد كان من بلدان المسلمين،
    فالهجرة منه واجبة إلى أرض الله الواسعة. انتهى ما ذكره البيهقي، رحمه الله تعالى.
    قال الغزالي-
    بعد ذكر كلام كثير من السلف -: فهذا يدل أن من بلي ببلدة قد استولى عليها حكم الكفار، وظهرت فيها أعلامهم وشعائرهم،
    فلا عذر له في المقام بها،بل يجب عليه أن يهاجر،
    كما قال الله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97]
    ؛
    فالبلاء والشر إذا ظهرا في قطر، ولم يحرز المسلم نفسه، شمل العقاب والذم الطائعين والعاصين. انتهى.
    قال الإمام أبو عبد الله الحليمي في شعب الإيمان:
    ومن الشح بالدين: أن يهاجر المسلم من موضع لا يمكنه أن يوفي الدين فيه حقوقه، إلى موضع يمكنه فيه ذلك. فإن أقام بدار الكفر والمعصية، ذليلاً مستضعفاً، مع إمكان انتقاله عنهما، فقد ترك فرضاً في قول كثير من العلماء،
    لقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية [سورة النساء آية: 97].

    وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح" معناه: لا هجرة من مكة بعد أن صارت دار إسلام، فلا يدل على نفي وجوب الهجرة من غيرها، إذا لم يمكن إقامة الدين فيها، فإنها حينئذ كمكة قبل الفتح، ولو صارت مكة - والعياذ بالله - بحيث لا يمكن المقيم بها إقامة دينه، وجبت الهجرة منها أيضاً، لأنها إنما وجبت منها أولاً لهذا المعنى؛ فحيث وجدت هذه العلة ثبت الحكم. وكل بلد ظهر فيه الفساد، وكانت أيدي المفسدين أعلى من أيدي أهل الإصلاح، أو غلب الجهل على أهله، وتشعبت الأهواء بهم، وضعفت العلماء وأهل الحق عن مقاومتهم، واضطروا إلى كتمان الحق خوفاً على أنفسهم من الإعلان به، فهو كمكة قبل الفتح في وجوب الهجرة منها عند القدرة عليها؛ ومن لم يهاجر - والحالة هذه - لم يكن من الأشحاء بدينه، بل من السمحاء المتساهلين فيه. انتهى ما ذكره الحليمي، رحمه الله تعالى. [ الدرر السنية]

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: التوحيد فى الهجرة

    وقال الشيخ اسحاق بن عبد الرحمن بن حسن
    {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآيتين [سورة النساء آية: 97]، وهذه الآية
    نص في وجوب الهجرة، بإجماع المفسرين ; وفيها ترتب الوعيد على مجرد المقام مع المشرك ; والقرآن إذا أناط الحكم بعلة أو وصف، فصرفه عنه من التأويل الذي رده السلف ; وقد ذم الله من أعرض عنه، فكيف بمن عارضه؟!
    وقد قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56]، قال أبو جعفر بن جرير، رحمه الله تعالى: يقول الله تعالى للمؤمنين من عباده: يا عبادي الذين وحدوني، وآمنوا برسولي، إن أرضي واسعة، لم تضق عليكم، فتقيموا بموضع منها لا يحل لكم المقام فيه؛ ولكن إذا عمل بمكان منها بمعاصي الله، فلم تقدروا على تغييره، فاهربوا منه.
    وساق بسنده عن سعيد بن جبير، في قوله تعالى: {إِنَّ

    أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [سورة العنكبوت آية: 56]، قال: إذا عمل فيها بالمعاصي، فاخرج منها ; وساق من طريق وكيع عن سعيد بن جبير مثله أيضا ; وعن عطاء: "إذا مررتم بالمعاصي، فاهربوا"، وعنه: مجانبة أهل المعاصي; وعن مجاهد في قوله: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [سورة العنكبوت آية: 56]، قال: فهاجروا وجاهدوا، وذكر عن آخرين إن ما خرج: من أرضي من الرزق واسع لكم، ورجح الأول.
    وقال محيي السنة البغوي رحمه الله، في تفسيره:وهذه الآية نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة بمكة، وقالوا: نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة؛ وساق كلام سعيد بن جبير وغيره، ثم قال: "ويجب على كل من كان ببلد يعمل فيها بالمعاصي، ولا يمكنه تغييرها، الهجرة إلى حيث تتهيأ له العبادة،". انتهى.
    فسمى تغيير المعاصي عبادة، يجب على المسلم الهجرة إذا لم تتهيأ له، وأطلق العبادة عليها من إطلاق الشيء وإرادة معظمه؛ والمعصية إذا أطلقت وأفردت لا في مقابلة ما هو أعلى، فهي عامة كما قرره شيخ الإسلام في "كتاب الإيمان"، وقرره غيره.
    وقال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [سورة النساء آية: 100]، ومعنى الآية: أن المهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مكانا يسكن فيه، على رغم أنف قومه الذين هاجرهم، ويجد سعة في البلاد وقيل: في الرزق، وقيل:

    في إظهار الدين، أو في تبديل الخوف بالأمن، أو من الضلال إلى الهدى; فهذا تفسير التابعين ومن بعدهم، وهو الذي فهم علماء التفسير.

    فمن غلب الحقائق وجعلها نصا في عدم وجوب الهجرة، على من لم يمنع من عبادة ربه، التي هي فى زعمه: الصلاة، وما يتعلق بالبدن، وحمل إظهار الدين على ذلك، وفهم من قوله تعالى: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56]، أي: في كل مكان من دار إسلام أو كفر، فقد عكس القضية وأخطا في فهمه.
    والحق: أن الحكم فيها منوط بمجرد المقام مع المشركين ومشاهدة المحرمات،
    قال ابن كثير رحمه الله تعالى، في تفسيره على قوله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوه ُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16]: وإذ فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم، في عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضا بأبدانكم؛ فحينئذ هربوا إلى الكهف.
    وقال في تفسير آية النساء، لما ذكر أقوال السلف في سبب نزولها: فهذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراما بالإجماع، وبنص هذه الآية، حيث يقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97]، أي: بترك الهجرة {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [سورة النساء آية: 97]، أي: لم مكثتم ها هنا، وتركتم الهجرة؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ } الآية [سورة النساء آية: 97]. انتهى.
    وقال الحنفي، في تفسيره: وأمر الهجرة حتم، ولا توسعة

    في تركها، حتى إن من تبين اضطراراه - يعني من هو مستضعف - حقه أن يقول: عسى الله أن يعفو عني، فكيف بغيره؟ انتهى ملخصا.
    قلت:
    واستثناء المستضعفين في هذه الآية، يبطل دعوى من قصر إظهار الدين على مجرد العبادة،
    لأنه إذا حمل على ذلك، فقد تساوى المستثنى والمستنى منه،إذ هو مناط الرخصة في زعم المجيز؛ولا يتصور في المستضعف أنه يترك عبادة ربه، فما فائدة تعلق الوعيد بالقادر على الهجرة، دون من لم يقدر؟ وقد علم أن الاستثناء معيار العموم.
    فإن قلت: الفائدة فيه أمن الفتنة، وتكثير سواد المسلمين، والجهاد معهم، قلنا: هذا من فوائد الهجرة، لكن قصرها عليه من القصور، لأن مثل هذا، وإن كان مأمورا به، فلا يحتمل هذا الوعيد الشديد.
    وقد تكون أسباب الحكم الواحد متعددة، وبعضها أعظم من بعض،
    كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} الآية [سورة المائدة آية: 91]،
    فهذه أسباب المنع، وكل سبب منها مستقل بالحكم.
    وقد تحتم المنع من هذا المحرم إلى قيام الساعة، وإن لم توجد الأسباب؛ فلو ادعى أحد أن الخمر لا يسكره، ولا يصده عن طاعة الله، ولا يوقع عداوة، فإنه لا يسلم له ذلك; فعلم

    أنه لا مفهوم للفظ "الفتنة" لتحتم المنع المنوط بسماع الشرك، في الآيات المحكمات، وفي حديث من لا ينطق عن الهوى.
    فمن حمل الآيات والأحاديث، على من فتنه المشركون خاصة، فقد قصر; بل أمن الفتنة قيد إباحة الإقامة لمن أظهر دينه، وصرح بمخالفة ما هم عليه؛ والتنصيص على بعض أفراد العام، معروف في تفسير السلف، لا يقتصر عليه إلا جاهل.
    ولما ذكر الحافظ بن حجر، خصوص السبب، قال: وكذلك المفارقة بسبب فيه صالحه، كالفرار من دار الكفر، وساق كلاما حسنا، ورد على الطيبي قوله: فانقطعت الأولى
    وبقيت الأخريان، حماية لجناب النصوص.
    وقال الحافظ بن رجب، في شرح الأربعين: فمن هاجر إلى دار الإسلام، حماية لله ورسوله، ورغبة في تعلم دين الإسلام، وإظهارا لدينه، حيث يعجز عنه في دار الشرك، فهو المهاجر حقا، انتهى كلامه.
    و
    الدين كلمة جامعة لخصال الخير، أعلاها وأغلاها التوحيد ولوازمه; فمن قصره على العبادات التي يوافق فيها المشرك، بل يواليك عليها، فقد أخطأ.
    وأما الأحاديث فكثيرة جدا، منها: ما رواه أبو داود والحاكم، عن سمرة مرفوعا: "
    من جامع المشرك أو سكن معه فهو مثله"1، ولفظ الحاكم "وساكنهم أو جامعهم فليس منا" وقال: صحيح على شرط البخاري.
    ص -404- ومنها: ما رواه أبو داود والنسائي، والترمذي عن جرير بن عبد الله مرفوعا: "أنا بريء من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين، لا تراءى ناراهما" 1 رواه ابن ماجه أيضا، ورجال إسناده ثقات، وهو إن صح مرسلا، فهو حجة من وجوه متعدده، يعرفها علماء أصول الحديث; منها: أن
    المرسل إذا اعتضد بشاهد واحد، فهو حجة.
    و
    قد اعتضد هذا الحديث بأكثر من عشرين شاهدا، وتشهد له الآيات المحكمات، مع الكليات من الشرع، وأصول يسلمها أهل العلم; ومنها: حديث جرير الذي رواه النسائي وغيره: (أنه بايع النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبد الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويفارق المشركين); وفي لفظ: (وعلى فراق المشركين); ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكفى، لتأخر إسلام جرير.
    ومنها: ما روى الطبراني والبيهقي، عن جرير موفوعا: "من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة"، قال المناوي: حديث حسن، يقصر عن رتبة الصحيح، وصححه بعضهم.
    ومنها: ما رواه النسائي وغيره، من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده مرفوعا: "لا يقبل الله من مشرك عملا بعد ما أسلم، أو يفارق المشركين" 2.
    ومنها: ما رواه النسائي وغيره، عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا: "لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار" 3، وفي معناه حديث معاوية: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة" 4 الحديث،

    وما رواه سعيد بن منصور وغيره: "لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد" 1.
    ففي هذه الأحاديث مع تباين مخارجها، واختلاف طرقها، هيئة اجتماعية يقطع معها بهذا الحكم العظيم، الذي هو من أعظم مصالح الشريع
    ة.
    قال أبو عبد الله الحليمي في المجالس، وهو من أجل علماء الشافعية، وأئمة الحديث في وقته، وهو في طبقة الحاكم، لما ذكر بقاء الهجرة، قال: إنها انتقال من الكفر إلى الإيمان، ومن دار الحرب إلى دار الإسلام، ومن السيئات إلى الحسنات، وهذه الأشياء باقية ما بقى التكليف.
    وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: وقد أفصح ابن عمر بالمراد، فيما ذكره الإسماعيلي، بلفظ: (انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تنقطع ما قوتل الكفار)، أي: ما دام في الدنيا دار كفر، انتهى.
    وكلام أئمة المذهب في ذلك في غاية الوضوح والقوة، قال في الشرح الكبير: وحكم الهجرة باق لا ينقطع إلى يوم القيامة، لحديث معاوية، وما رواه سعيد بن منصور وغيره، مع إطلاق الآيات، والأخبار الدالة عليها، وتحقق المعنى المقتضي لها في كل زمان ومكان.
    وأما الإجماع
    على تحريم الإقامة بين ظهراني المشركين، فحكاه الحافظ بن كثير، ولم ينازع في ذلك أحد فيما نعلم، وقد

    تقدم، وقال ابن هبيرة في الإفصاح:واتفقوا، يعني: الأربعة على وجوب الهجرة من ديار الكفار إن قدر على ذلك.
    وأما ما يدل على ذلك
    لغة ووضعا، فأصل الهجرة: الترك، والهجرة إلى الشيء الانتقال من غيره إليه، ويؤخذ من لفظ العداوة، لأنها وضعت للمجانبة والمباينة; لأن أصل العداوة: أن تكون في عدوة، والعدو في أخرى; وأصل البراءة: الفراق والمباينة أيضا، مأخوذ من براه إذا قطعه; قال الحافظ في الفتح: والعداوة تجر إلى البغضاء، انتهى.
    فعلم: أن العداوة سبب للبغضاء ووسيلة; وبغض الكافر مشروط في الإيمان، محبوب إلى الرحمن، فكانت مطلوبة، لأن وسيلة المطلوب المحبوب مطلوبة محبوبة، فاتفق الشرع والوضع على هذه الشعبة، التي هي من أعظم شعب الإيمان.
    وأما وجوب الهجرة، وفراق المشركين عقلا، فلأن الحب أصل كل عمل من حق وباطل؛ ومن علامة صدق المحبة: موافقة المحبوب فيما أحب وكره، ولا تتحقق المحبة إلا بذلك؛ ومحال أن توجد المحبة مع ملاءمة أعداء المحبوب، هذا مما لا تقتضيه المحبة؛ فكيف إذا كان قد حذرك من عدوه الذي قد طرده عن بابه، وأبعده عن جنابه، واشترطه عليك في عهده إليك،
    هذا والله مما لا يسمح به المحب،
    ولا يتصوره العاقل.

    متى صدقت محبة من يراني من الأعداء في أمر فظيع
    فتسمح أذنه بسماع شتمي
    وتسمح عينه لي بالدموع
    [الدرر السنية]

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: التوحيد فى الهجرة

    وقال الشيخ اسحاق بن عبد الرحمن بن حسن
    وأما قوله:
    البلاد بلاد إسلام، لأن شعائر الإسلام ظاهرة فيها، من غير ذمة من المشركين ولا جوار; ولهذا إذا كانت
    - الغلبة لأهل الإسلام، صارت دار إسلام،
    فكلام متناقض لفظا؛
    وقد تقدم التنبيه على ما مر فيه من
    الوهم معنى
    . وقوله: من غير ذمة ولا جوار
    ،
    فأظنه لاحظ
    ظلم الأموال والأبدان، لأن حب الدنيا قد غلب على النفوس،
    والمصيبة فيها هي المصيبة العظمى
    عندهم؛
    فإذا كان هذا هو المرام،
    فهو
    موجود في جميع الممالك،
    وللنصارى
    لعنهم الله في ذلك الحظ الأوفر.
    وأما ظلم الأديان والخفارة فيها،
    فلا يعرفها إلا من نور الله بصيرته،
    وكان من الأشحاء بدينه
    ؛
    وأي خفارة وذلة أعظم من
    كون الإنسان
    يسمع
    ويرى الكفر البواح في المساء والصباح؟
    ولو أظهر أن هذا هو فعل المشركين
    لقتلوه أو أخرجوه.
    ومن العقوبات القدرية على القلوب:
    عدم
    الإحساس بالشر،
    وهي آلام وجودية يضرب بها القلب،
    تنقطع بها مواد حياته وصلاحه،
    وإذا انقطعت عنه حصل له
    أضدادها بلا شك؛
    وعقوبة
    القلب أشد من عقوبة البدن،
    فلذلك يصير المعروف منكرا، والمنكر معروفا.
    وهل يشك أحد أن المقيم هناك لا يسعه إلا
    الحكومة الضالة،
    وأن مولوده يكون في القرعة
    ،
    وأن جبايات
    أمواله ومعشراته لهم،
    وغير ذلك من البلايا
    التي كلما ازداد مكوثه ازداد تحكما عليه في قلبه وقالبه؛
    فمن ادعى غير ذلك
    فهو
    مباهت،
    ومن له مشاركة فيما قرره المحققون
    ، علم أن البلد بلد شرك، وأن الغلبة فيها للشرك وأهله
    ، وأن الحق مع من حكم النصوص
    القاضية بالمنع، وقال العدل وقام بالشرع.-

    - قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: في اقتضاء الصراط المستقيم - لما ذكر النهي عن مشابهة المشركين -: وقريب من هذا: مخالفة من لم يكمل دينه من الأعراب، لأن كمال الدين بالهجرة، فكان من آمن ولم يهاجر من الأعراب ونحوهم ناقصا.انتهى
    الرابع: أن قوله: هاجر أو جلس،
    هو معنى قوله: جاهد أو جلس;
    يدل على ذلك: ما رواه النسائي وغيره، عن أبي الدرداء مرفوعا:
    "من أقام الصلاة وآتى الزكاة، ومات لا يشرك بالله شيئا، كان حقا على الله أن يغفر له، هاجر أو مات في مولده" ، فقلنا يا رسول الله: أفلا نخبر الناس فيستبشروا، فقال: "إن للجنة مائة درجة، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله" 2 الحديث، ثم قال النسائي بعده: ما لمن آمن وهاجر وجاهد؟ يعني من الأجر.
    فدل على أن الهجرة هناك بمعنى الجهاد،
    وقد جاء في رواية البخاري بلفظ:"جاهد في سبيل الله أو جلس"
    ، وترجم له في الجهاد لأنها تطلق أيضا ويراد بها الجهاد، كما روى أحمد عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه مرفوعا: "أي الهجرة أفضل؟ قال: الجهاد".

    فتبين على كلا التقديرين
    أن المقصود إثبات الإيمان لمن أسلم ولم يهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجاهد،
    وإن انتفى
    كماله;
    فمن أين له: أن الحديث يدل على جواز الإقامة بين ظهراني المشركين؟
    ومن درأ بمثل هذه المحتملات في نحر ما تقدم من
    النصوص الصريحة الصحيحة،
    كحديث حكيم بن حزام مرفوعا: "لا يقبل الله من مسلم عملا بعد ما أسلم، أو يفارق المشركين" رواه النسائي،
    وحديث أبي مالك الأشجعي مرفوعا: "وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن" ، وذكر الهجرة رواه أحمد وغيره، وما في معناها،
    فليس بمنصف.
    الخامس - وهو من أظهرها -:
    أن الاحتجاج بمثل هذه الأحاديث المطلقة
    ، ولو بلغت حد التواتر، يست
    دعي بطلان حكم النصوص المصرحة بفراق المشركين، كما هنا، وكما في حديث نهيك الآتي. ": وعلى زيال المشركين"،
    فيحمل المطلق مما احتج به المجيز
    ،
    ولو صح وتعدد على هذا المقيد من مفهوم الوصف المانع من الإقامة؛ فبزوال هذا المانع الذي تسبب عنه الحكم بفراق الوطن يوجد المقتضي، وإلا فلا،
    وهذا ظاهر بحمد الله،
    يتعين المصير إليه توفيقا بين النصوص،
    إذ لا مجال للرأي في مثل هذا،مع وجود الأخبار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.------------------------
    ومن استدل بقصة الهجرة على هذا، فتصوره فاسد، وذهنه كاسد،
    إذ كل من عقل عن الله شرعه،
    وسبر أحوال الصحابة وما هم عليه،
    من
    نصر الدين وزيال المشركين،
    علم قطعا أن هجرة الحبشة حجة عظيمة في وجوب الهجرة؛
    وهو من باب ارتكاب
    أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما،
    وإطلاق لفظ الهجرة عليها كاف في المطلوب على قدر الوسع،
    وإن لم يتم المقصود كله،
    كما أن النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء دعوته أمر بالإعراض،
    ثم أمر بالصدع،
    ثم أمر بالجهاد.

    وظهور الدين يطلق ويراد به ظهوره بالقهر والغلبة والجهاد، وهذا قد تأخر،
    ويطلق ويراد به ظهوره وشهرته، وعدم منع الداخل فيه؛
    وهذا قد حصل بأرض الحبشة،
    وتسمى هجرة وانتقال
    ،
    كما حكاه النووي في شرح الأربعين له.-----------------------------------------------
    ولما عظمت
    غربة الإسلام،
    ولاذ أكثر
    المتفقهة بالأوهام،
    جعلوا يؤسسون
    عقد المصالحة بين أهل الإسلام، وضدهم اللئام،
    وليت شعري إلى أي شيء
    قاموا به من عداوة المشركين؟
    وأي ثغر رابطوا فيه ولو ساعة لنصر الدين؟
    لقد والله نسجت على الدين عناكب النسيان،
    وسمح دونه بكثرة الهذيان
    ،
    وعد عند الأكثرين في
    خبر كان.
    فنعوذ بالله من الخذلان
    ومن نزغات الشيطان
    [ من الدرر السنية ]

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: التوحيد فى الهجرة

    قال الشيخ (حمد بن علي بن عتيق) رحمه الله:
    وأما المسألة الرابعة: وهي مسألة إظهار الدين، فإن كثيراً من الناس قد ظن أنه إذا قدر على أن يتلفظ بالشهادتين، وأن يصلي الصلوات الخمس، ولا يرد عن المسجد، فقد أظهر دينه وإن كان مع ذلك بين المشركين، أو في أماكن المرتدين، وقد غلطوا في ذلك أقبح الغلط.
    فاعلم أن الكفر له أنواع وأقسام تتعدد بتعدد المكفّرات، وقد تقدم بعض ذلك، وكل طائفة من طوائف الكفران، اشتهر عندها نوع منه، ولا يكون المسلم مظهرًا لدينه حتى يخالف كل طائفة بما اشتهر عندها، ويصرح لها بعداوته والبراءة منه؛ فمن كان كفره بالشرك،فإظهار الدين عنده التصريح بالتوحيد، والنهي عن الشرك والتحذير منه. ومن كان كفره بجحد الرسالة، فإظهار الدين عنده: التصريح بأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم والدعوة إلى اتِّباعه، ومن كان كفره بترك الصلاة، فإظهار الدين عنده: فعل الصلاة والأمر بها. ومن كان كفره بموالاة المشركين والدخول في طاعتهم، فإظهار الدين عنده: التصريح بعداوته والبراءة منه ومن المشركين.
    وبالجملة فلا يكون مظهرًا لدينه إلا من صرح لمن ساكنه من كل كافر ببراءته منه، وأظهر له عداوته لهذا الشيء الذي صار به كافراً، وبراءته منه. ولهذا قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: عاب ديننا، وسفَّه أحلامنا، وشتم آلهتنا.
    وقال الله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ *}[يُونس]؛ فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ..} إلى آخره، أي: إذا شككتم في الدين الذي أنا عليه، فدينكم الذي أنتم عليه أنا بريء منه، وقد أمرني ربي أن أكون من المؤمنين الذين هم أعداؤكم، ونهاني أن أكون من المشركين الذين هم أولياؤكم.
    وقال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ *لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ *وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ *وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ *وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ *لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ *}[الكافِـرون]؛ فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار: دينكم الذي أنتم عليه أنا بريء منه، وديني الذي أنا عليه أنتم براء منه. والمراد: التصريح لهم بأنهم على الكفر، وأنه بريء منهم ومن دينهم.
    فمن كان متَّبعًا للنبي صلى الله عليه وسلم [فعليه] أن يقول ذلك، ولا يكون مظهرًا لدينه إلا بذلك. ولهذا لما عمل الصحابة بذلك، وآذاهم المشركون، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة، ولو وجد لهم رخصة في السكوت عن المشركين لما أمرهم [بالهجرة] إلى بلد الغربة.
    وفي السيرة: أن خالد بن الوليد رضي الله عنه لما وصل إلى العِرْض في مسيره إلى أهل اليمامة لما ارتدّوا، قدَّم مائتي فارس وقال: من أصبتم من الناس فخذوه فأخذوا (مُجَّاعة) في ثلاثة وعشرين رجلاً من قومه، فلما وصل إلى خالد قال له: يا خالد! لقد علمت أني قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فبايعته على الإسلام، وأنا اليوم على ما كنت عليه أمس، فإن يك كذَّابًا قد خرج فينا، فإن الله يقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الأنعـَـام: 164]، فقال: يا مجاعة! تركت اليوم ما كنت عليه أمس، وكان رضاك بأمر هذا الكذّاب وسكوتك عنه وأنت أعز أهل اليمامة - وقد بلغك مسيري-؛ إقرارًا له ورضاءً بما جاء به، فهلاَّ [أبديت] عذرًا وتكلمت فيمن تكلم ؟! فقد تكلم ثُمَامة فرد وأنكر، وتكلم اليشكري.
    فإن قلت: أخاف قومي، فهلاَّ عمدت إليَّ أو بعثت إليَّ رسولاً ؟! فقال: إن رأيت يا ابن المغيرة أن تعفو عن هذا كله ؟ فقال: قد عفوت عن دمك، ولكن في نفسي حرج من تركك. انتهى.
    وسيأتي في ذكر الهجرة قول أولاد الشيخ: إنَّ الرَّجل إذا كان في بلد كفر، وكان يقدر على إظهار دينه حتى يتبرأ من أهل الكفر الذي هو بين أظهرهم، ويصرح لهم بأنهم كفار، وأنه عدوّ لهم، فإن لم يحصل ذلك؛ لم يكن إظهار الدين حاصلاً.[مجموعة التوحيد]

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: التوحيد فى الهجرة

    قال الشيخ اسحاق بن عبد الرحمن بن حسن
    ليس هذا بمستغرب في هذا الزمان، الذى ضعف فيه الإسلام والإيمان، وعظمت فيه الفتنة بعباد الأوثان، ومن على سبيلهم من كل منافق شيطان، حتى بلغت الشبهات من أكثر الناس كل مبلغ، فهم كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكميل بن زياد: "والناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق أو حامل حق لا بصيرة له في إحيائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا يدري أين الحق، إن قال أخطأ، وإن أخطأ لم يدر، مشغوف بما لا يدري حقيقته، فهو فتنة بمن فتن به".
    والمسألة - بحمد الله -، لا تخفى على من عرف أصل دين الإسلام ومبانيه، وما تضمنته شهادة أن لا إله إلا الله، أو تقتضيه ; ولأئمة هذه الدعوة في ذلك ما يشفي العليل، ويروي الغليل، مستدلين له من السمع، بما لو جمع لقارب حد التواتر المعنوي ; ................
    فمن حاد عن طريقهم وتخلف عن رفيقهم، فلسوء حظه في الدين، ولجناية منه على نفسه....
    واعلم: أنه بعد التسليم لحكم السنة والقرآن، ووجوب الرد إليهما على كل فرد من أفراد نوع هذا الإنسان، فقد أجمع علماء السنة أنه إذا تواطأ الكتاب والسنة وصريح العقل على إثبات حكم، فلا يمكن أن يعارض ثبوته بدليل صحيح صريح البتة.
    بل إن كان المعارض سمعيا كان كذبا قطعا، أو كان المعارض به أخطأ في فهمه، أو عقليا فكذلك.....
    إذا تقرر هذا الأصل، فالسؤال عن حكم الدار، ليترتب عليه ما زعم المجيز فاسد الاعتبار، من وجهين.
    الأول: أن أهل العلم رتبوا حكم الهجرة، على وجود الشرك، والبدع، والمعاصي، لمن لا يستطيع إنكارها.
    ومن المعلوم بالضرورة: أن الشرك بالأموات والغائبين، والتعلق على الأنبياء والصالحين، بل: على المجاذيب والمجانين، قد ظهر في ديارهم شعاره، وتطاير فيها شراره، وثار فيها قتامه وغباره، وعدم فيها للتوحيد أعوانه وأنصاره، مع ما هم عليه من البدع في العبادات والاعتقادات، وأصناف المعاصي التي تشيب اللمم والنواصي.
    فالسؤال عن الدار: هل هي دار إسلام أم لا؟ بمعنى أن المقيم فيها، كالمقيم في بلد سالمة من ذلك، خطأ ظاهر ; وقد تقرر في عبارات أئمتنا الحنابلة وغيرهم: أنهم يوجبون الهجرة بمشاهدة ما هو دون ذلك، حتى من بلد تظهر فيها عقائد أهل البدع، كالمعتزلة والخوارج والروافض.
    وقد حكى ابن العربي المالكي، عن ابن القاسم، قال: سمعت مالكا يقول: لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يُسب فيها السلف ; وقال في "الإقناع وشرحه" - لما ذكرها -: فيخرج منها وجوبا، إن عجز عن إظهار مذهب أهل السنة فيها، فعلق الحكم بالوصف الذي هو وجود البدع، والمعاصي، لمن لا يستطيع إنكارها، لا بالدار.
    الوجه الثاني: أن المجيز علق حكم إباحة الإقامة فيما نقلت عنه، بما إذا لم يمنعوك عن واجبات دينك، مصرحا بأنها هي النطق بالشهادتين، والصلاة، والعبادات البدنية، التي يوافقك عليها المشرك في هذا الزمان; فإذا كان كذلك فالمدعى أوسع من الدليل.
    إذ عدم المنع من العبادات البدنية، والدعاء بداعي الفلاح موجود في أكثر أقطار الأرض، فالسؤال مطرح من أصله؛ ولعل السائل جعله بئرا في الطريق، وعلى نفسها تجني براقش، وعلينا أن نقول الحق، لا تأخذنا في الله لومة لائم، وهذا جوابنا على المسألة الأولى.
    وأما المسألة الثانية، وهي: ما إظهار الدين؟
    فالجواب - وبالله التوفيق -: أن إظهار الدين على الوجه المطلوب شرعا، تباح به الإقامة بقيد أمن الفتنة، ولا تعارض نصوص الهجرة المنوطة بمجرد المساكنة، إذ هي الأصل;
    وإبطال دليل الإباحة، ودليل التحريم، ممتنع قطعا ; فيتعين الجمع بما تقرر في الأصول، من أن العام يبنى على الخاص ولا يعارضه.
    وإذا كان كذلك، فلا بد من ذكر طرف منها قبل الكلام عليها. فأقول: قد دل الكتاب والسنة والإجماع، مع صريح العقل، وأصل الوضع على وجوب الهجرة من دار الشرك والمعاصي، وتحريم الإقامة فيها.
    أما الكتاب، فقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآيتين [سورة النساء آية: 97]، وهذه الآية نص في وجوب الهجرة، بإجماع المفسرين ; وفيها ترتب الوعيد على مجرد المقام مع المشرك ; والقرآن إذا أناط الحكم بعلة أو وصف، فصرفه عنه من التأويل الذي رده السلف ; وقد ذم الله من أعرض عنه، فكيف بمن عارضه؟!
    وقد قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56]، قال أبو جعفر بن جرير، رحمه الله تعالى: يقول الله تعالى للمؤمنين من عباده: يا عبادي الذين وحدوني، وآمنوا برسولي، إن أرضي واسعة، لم تضق عليكم، فتقيموا بموضع منها لا يحل لكم المقام فيه؛ ولكن إذا عمل بمكان منها بمعاصي الله، فلم تقدروا على تغييره، فاهربوا منه.
    وساق بسنده عن سعيد بن جبير، في قوله تعالى: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [سورة العنكبوت آية: 56]، قال: إذا عمل فيها بالمعاصي، فاخرج منها ; وساق من طريق وكيع عن سعيد بن جبير مثله أيضا ; وعن عطاء: "إذا مررتم بالمعاصي، فاهربوا"، وعنه: مجانبة أهل المعاصي; وعن مجاهد في قوله: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [سورة العنكبوت آية: 56]، قال: فهاجروا وجاهدوا، وذكر عن آخرين إن ما خرج: من أرضي من الرزق واسع لكم، ورجح الأول.
    وقال محيي السنة البغوي رحمه الله، في تفسيره: وهذه الآية نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة بمكة، وقالوا: نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة؛ وساق كلام سعيد بن جبير وغيره، ثم قال: "ويجب على كل من كان ببلد يعمل فيها بالمعاصي، ولا يمكنه تغييرها، الهجرة إلى حيث تتهيأ له العبادة،". انتهى.
    فسمى تغيير المعاصي عبادة، يجب على المسلم الهجرة إذا لم تتهيأ له، وأطلق العبادة عليها من إطلاق الشيء وإرادة معظمه؛ والمعصية إذا أطلقت وأفردت لا في مقابلة ما هو أعلى، فهي عامة كما قرره شيخ الإسلام في "كتاب الإيمان"، وقرره غيره.
    وقال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [سورة النساء آية: 100]، ومعنى الآية: أن المهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مكانا يسكن فيه، على رغم أنف قومه الذين هاجرهم، ويجد سعة في البلاد وقيل: في الرزق، وقيل: في إظهار الدين، أو في تبديل الخوف بالأمن، أو من الضلال إلى الهدى; فهذا تفسير التابعين ومن بعدهم، وهو الذي فهم علماء التفسير.
    فمن غلب الحقائق وجعلها نصا في عدم وجوب الهجرة، على من لم يمنع من عبادة ربه، التي هي فى زعمه: الصلاة، وما يتعلق بالبدن، وحمل إظهار الدين على ذلك، وفهم من قوله تعالى: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56]، أي: في كل مكان من دار إسلام أو كفر، فقد عكس القضية وأخطا في فهمه.
    والحق: أن الحكم فيها منوط بمجرد المقام مع المشركين ومشاهدة المحرمات، قال ابن كثير رحمه الله تعالى، في تفسيره على قوله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوه ُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16]: وإذ فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم، في عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضا بأبدانكم؛ فحينئذ هربوا إلى الكهف.
    وقال في تفسير آية النساء، لما ذكر أقوال السلف في سبب نزولها: فهذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراما بالإجماع، وبنص هذه الآية، حيث يقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97]، أي: بترك الهجرة {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [سورة النساء آية: 97]، أي: لم مكثتم ها هنا، وتركتم الهجرة؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ } الآية [سورة النساء آية: 97]. انتهى.
    وقال الحنفي، في تفسيره: وأمر الهجرة حتم، ولا توسعة

    ص -402- في تركها، حتى إن من تبين اضطراراه - يعني من هو مستضعف - حقه أن يقول: عسى الله أن يعفو عني، فكيف بغيره؟ انتهى ملخصا.
    قلت: واستثناء المستضعفين في هذه الآية، يبطل دعوى من قصر إظهار الدين على مجرد العبادة، لأنه إذا حمل على ذلك، فقد تساوى المستثنى والمستنى منه، إذ هو مناط الرخصة في زعم المجيز؛ ولا يتصور في المستضعف أنه يترك عبادة ربه، فما فائدة تعلق الوعيد بالقادر على الهجرة، دون من لم يقدر؟ وقد علم أن الاستثناء معيار العموم.
    فإن قلت: الفائدة فيه أمن الفتنة، وتكثير سواد المسلمين، والجهاد معهم، قلنا: هذا من فوائد الهجرة، لكن قصرها عليه من القصور، لأن مثل هذا، وإن كان مأمورا به، فلا يحتمل هذا الوعيد الشديد.
    وقد تكون أسباب الحكم الواحد متعددة، وبعضها أعظم من بعض،
    كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} الآية [سورة المائدة آية: 91]، فهذه أسباب المنع، وكل سبب منها مستقل بالحكم.
    وقد تحتم المنع من هذا المحرم إلى قيام الساعة، وإن لم توجد الأسباب؛ فلو ادعى أحد أن الخمر لا يسكره، ولا يصده عن طاعة الله، ولا يوقع عداوة، فإنه لا يسلم له ذلك; فعلم
    أنه لا مفهوم للفظ "الفتنة" لتحتم المنع المنوط بسماع الشرك، في الآيات المحكمات، وفي حديث من لا ينطق عن الهوى.
    فمن حمل الآيات والأحاديث، على من فتنه المشركون خاصة، فقد قصر; بل أمن الفتنة قيد إباحة الإقامة لمن أظهر دينه، وصرح بمخالفة ما هم عليه؛ والتنصيص على بعض أفراد العام، معروف في تفسير السلف، لا يقتصر عليه إلا جاهل.
    ولما ذكر الحافظ بن حجر، خصوص السبب، قال: وكذلك المفارقة بسبب فيه صالحه، كالفرار من دار الكفر، وساق كلاما حسنا، ورد على الطيبي قوله: فانقطعت الأولى وبقيت الأخريان، حماية لجناب النصوص.
    وقال الحافظ بن رجب، في شرح الأربعين: فمن هاجر إلى دار الإسلام، حماية لله ورسوله، ورغبة في تعلم دين الإسلام، وإظهارا لدينه، حيث يعجز عنه في دار الشرك، فهو المهاجر حقا، انتهى كلامه.
    والدين كلمة جامعة لخصال الخير، أعلاها وأغلاها التوحيد ولوازمه; فمن قصره على العبادات التي يوافق فيها المشرك، بل يواليك عليها، فقد أخطأ.
    وأما الأحاديث فكثيرة جدا، منها: ما رواه أبو داود والحاكم، عن سمرة مرفوعا: "من جامع المشرك أو سكن معه فهو مثله"1، ولفظ الحاكم "وساكنهم أو جامعهم فليس منا" وقال: صحيح على شرط البخاري.
    ومنها: ما رواه أبو داود والنسائي، والترمذي عن جرير بن عبد الله مرفوعا: "أنا بريء من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين، لا تراءى ناراهما" 1 رواه ابن ماجه أيضا، ورجال إسناده ثقات، وهو إن صح مرسلا، فهو حجة من وجوه متعدده، يعرفها علماء أصول الحديث; منها: أن المرسل إذا اعتضد بشاهد واحد، فهو حجة.
    وقد اعتضد هذا الحديث بأكثر من عشرين شاهدا، وتشهد له الآيات المحكمات، مع الكليات من الشرع، وأصول يسلمها أهل العلم; ومنها: حديث جرير الذي رواه النسائي وغيره: (أنه بايع النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبد الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويفارق المشركين); وفي لفظ: (وعلى فراق المشركين); ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكفى، لتأخر إسلام جرير.
    ومنها: ما روى الطبراني والبيهقي، عن جرير موفوعا: "من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة"، قال المناوي: حديث حسن، يقصر عن رتبة الصحيح، وصححه بعضهم.
    ومنها: ما رواه النسائي وغيره، من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده مرفوعا: "لا يقبل الله من مشرك عملا بعد ما أسلم، أو يفارق المشركين" .
    ومنها: ما رواه النسائي وغيره، عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا: "لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار" 3، وفي معناه حديث معاوية: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة" 4 الحديث،
    وما رواه سعيد بن منصور وغيره: "لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد" 1.
    ففي هذه الأحاديث مع تباين مخارجها، واختلاف طرقها، هيئة اجتماعية يقطع معها بهذا الحكم العظيم، الذي هو من أعظم مصالح الشريعة.
    قال أبو عبد الله الحليمي في المجالس، وهو من أجل علماء الشافعية، وأئمة الحديث في وقته، وهو في طبقة الحاكم، لما ذكر بقاء الهجرة، قال: إنها انتقال من الكفر إلى الإيمان، ومن دار الحرب إلى دار الإسلام، ومن السيئات إلى الحسنات، وهذه الأشياء باقية ما بقى التكليف.
    وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: وقد أفصح ابن عمر بالمراد، فيما ذكره الإسماعيلي، بلفظ: (انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تنقطع ما قوتل الكفار)، أي: ما دام في الدنيا دار كفر، انتهى.
    وكلام أئمة المذهب في ذلك في غاية الوضوح والقوة، قال في الشرح الكبير: وحكم الهجرة باق لا ينقطع إلى يوم القيامة، لحديث معاوية، وما رواه سعيد بن منصور وغيره، مع إطلاق الآيات، والأخبار الدالة عليها، وتحقق المعنى المقتضي لها في كل زمان ومكان.
    وأما الإجماع على تحريم الإقامة بين ظهراني المشركين، فحكاه الحافظ بن كثير، ولم ينازع في ذلك أحد فيما نعلم، وقد
    تقدم، وقال ابن هبيرة في الإفصاح: واتفقوا، يعني: الأربعة على وجوب الهجرة من ديار الكفار إن قدر على ذلك.
    وأما ما يدل على ذلك لغة ووضعا، فأصل الهجرة: الترك، والهجرة إلى الشيء الانتقال من غيره إليه، ويؤخذ من لفظ العداوة، لأنها وضعت للمجانبة والمباينة; لأن أصل العداوة: أن تكون في عدوة، والعدو في أخرى; وأصل البراءة: الفراق والمباينة أيضا، مأخوذ من براه إذا قطعه; قال الحافظ في الفتح: والعداوة تجر إلى البغضاء، انتهى.
    فعلم: أن العداوة سبب للبغضاء ووسيلة; وبغض الكافر مشروط في الإيمان، محبوب إلى الرحمن، فكانت مطلوبة، لأن وسيلة المطلوب المحبوب مطلوبة محبوبة، فاتفق الشرع والوضع على هذه الشعبة، التي هي من أعظم شعب الإيمان.
    وأما وجوب الهجرة، وفراق المشركين عقلا، فلأن الحب أصل كل عمل من حق وباطل؛ ومن علامة صدق المحبة: موافقة المحبوب فيما أحب وكره، ولا تتحقق المحبة إلا بذلك؛ ومحال أن توجد المحبة مع ملاءمة أعداء المحبوب، هذا مما لا تقتضيه المحبة؛ فكيف إذا كان قد حذرك من عدوه الذي قد طرده عن بابه، وأبعده عن جنابه، واشترطه عليك في عهده إليك، هذا والله مما لا يسمح به المحب، ولا يتصوره العاقل.
    متى صدقت محبة من يراني من الأعداء في أمر فظيع
    فتسمح أذنه بسماع شتمي وتسمح عينه لي بالدموع

    إذا تقرر ذلك، فالكلام على إظهار الدين الذي هو مقصود السؤال، والذي قد وقع فيه الإشكال في مقامين:
    الأول: وهو أعلاها، الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ وقد تقدم بعض التنبيه عليه، فيما نقله ابن جرير وغيره من السلف، ويأتيك له مزيد بسط، في كلام الحنابلة والشافعية وغيرهم، وإليه يومئ كلام الماوردي رحمه الله.
    الثاني: الامتياز عن عبادة الأوثان والأصنام، وتصريح المسلم بما هو عليه من دين الإسلام، والبعد عن الشرك ووسائله، وهو دون الأول. فاصغ سمعك لبرهان هذين المقامين، لعل الله أن ينفعك به.
    واعلم: أن الدين كلمة جامعة لخصال الخير، وأعلاها التوحيد، كما تقدم؛ وهو على القلب بالاعتقاد، والصدق والمحبة، وعلى اللسان بتقريره وتحقيقه والدعوة إليه واللهجة به، وعلى الجوارح بالعمل بمقتضاه، والسعي في وسائله والبعد عن مضاده.
    قال الوالد رحمه الله، في رسالته لأهل الأحساء: فإن الإنسان لا يصلح له إسلام ولا إيمان، إلا بمعرفة هذا التوحيد، وقبوله، ومحبته، والدعوة إليه، وتطلب أدلته، واستحضارها ذهنا وقولا وطلبا ورغبة; انتهى بحروفه.
    وقد أوضح ذلك القرآن أي إيضاح، وضمن لمن قام به ودعا إليه، وصبر عليه، السعادة والفلاح; قال تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يونس آية: 105]، وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ} [سورة الشورى آية: 13].
    فقوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} [سورة الشورى آية: 13] أمر عام، وقد اقتبسه العماد ابن كثير فيما تقدم من قوله: وليس متمكنا من إقامة الدين.
    وقال تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْر إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر آية: 1-2-3]؛ فأقسم سبحانه بالعصر - وهو الزمن أو الوقت - على خسران جميع هذا النوع الإنساني، إلا من استثنى، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، بأن دعوا إليه وصبروا على الأذى فيه؛ وهذا أصل الأصول، وهو طريق الرسول; والصلاة وسائر العبادات فروعه.
    وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4].
    ففي هذه الآية أعظم دلالة: على أعلى مقامات إظهار الدين، لأن الله بين هذا الحكم العميم، وأكد هذا المشهد العظيم،
    الذي هو مشهد الأسوة بالأنبياء والرسل، معبرا بصيغة الماضي، وبقد التحقيقية الدالة على لزوبه، ولزومه على البرية، ووصفه بالحسن، وضد الحسن القبيح; وأزال دعوى الخصومة بقوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4]، ترغيبا في معية أوليائه.
    ثم صرح: بأنها هي القول باللسان، مع العداوة، والبغضاء; خلافا لمن قال: أبغضهم بقلبي، وأتبرأ من العابد والمعبود جميعا; وقدّم البراءة من العابد، تنويهاً بشناعة فعله، ثم أعادها بلفظ آخر أعم من البراءة، وهو قوله: {كَفَرْنَا بِكُمْ} [سورة الممتحنة آية: 4]، أي: جحدناكم، وأنكرنا ما أنتم عليه; وكشف الشبهة بقوله: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ} [سورة الممتحنة آية: 4]. ومعنى: {وَبَدَا} [سورة الممتحنة آية: 4]، ظهر؛ وقرن بين العداوة والبغضاء إشارة إلى المباعدة والمفارقة، بالباطن والظاهر معا، وأكد العداوة، وأيدها بقوله: {أَبَداً} [سورة الممتحنة آية: 4]، معبرا بالظرف الزماني المستقبل المستمر، إلى غاية وهي الإيمان، وأتى بحتى الغائية، الدالة على مغايرة ما قبلها لما بعدها، المعنى: إن لم تؤمنوا فالعداوة باقية..... والآيات في بيان الدعوة إلى الله، ومباينة المشركين، والبعد عنهم، وجهادهم بالحجة واللسان، والسيف والسنان، كثيرة جدا؛ وهذا المقام العظيم، للنفس فيه مغالطات، وللشيطان فيه ركضات، قد غلط فيه أكثر الناس، وأشكل أمره حتى على العباس.
    فتدبر القرآن إن رمت الهدى فالعلم تحت تدبر القرآن
    قال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى، على قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-27-28] أي: هذه الموالاة لله، والمعادة التي هي معنى شهادة أن لا إله إلا الله، باقية في عقبه، يتوارثها الأنبياء وأتباعهم إلى يوم القيامة، انتهى ملخصا.
    وهو من تفسير الشيء بلازمه؛ والمعاداة والموالاة، من باب المفاعلة الدالة على المشاركة، كالمبايعة والمقاتلة والمعاهدة; المعنى: أن كلا منهما أظهر العداوة للآخر، واشتركا فيها، لأن الاشتراك هو الأصل، كما هو معلوم عن علماء الصرف، وليس مع المنازع ما يدفع هذه الآيات المحكمات، والقواطع البينات، إلا دعوى الخصوصية، وأنى له ذلك؟!..... وفي الحديث الصحيح: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، إلى يوم القيامة" 1.
    وقد هاجر جعفر وأصحابه إلى الحبشة؛ وتسمى هجرة الانتقال عن دار الخوف، وصبروا على الغربة وفراق الوطن، ومجاورة غير الشكل، وما ذاك إلا لأجل هذه البراءة، والتصريح بما هم عليه من الدين.
    "ولما قالت قريش لابن الدغنة، بعد إرجاعه أبا بكر إلى مكة، وإجارته إياه: مره أن يعبد ربه بداره ولا يستعلن، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، أبى إلا الاستعلان بالقرآن، ونبذ إلى ابن الدغنة ذمته، ورضي بجوار الله. ولم يزل على ذلك إلى أن هاجر" والقصة مشهورة مبسوطة في دواوين الإسلام.......قد بنى العلامة ابن قدامة، وابن أبي عمر وغيرهما، كالحافظ وغيره حكم الإباحة على مقدمتين: إظهار الدين، وأداء الواجبات; والحكم إذا علق بوصفين لم يتم بدونهما، خصوصا إذا أعيدت الأداة، وتكررت الصيغة; وقد أعيدت الأداة وتكررت، وأعيدت الصيغة هنا، حيث قالوا: ولا يمكنه إظهار دينه، ولا يمكنه إقامة واجبات دينه، وهذا يدل على أن لكل جملة معنى غير الذي للأخرى.
    ولو كان إظهار الدين هو أداء الواجبات البدنية فقط - كما

    فهم المجيز - لما طابق مقتضى الحال، وحاشا الأئمة من ذلك; فالفهم فاسد والمحصل كاسد; نعم: لو سلمنا أن إظهار الدين هو أداء الواجب، فأوجب الواجبات: التوحيد وما تضمنه، وهو أوجب من الصلاة وغيرها؛ وهو الذي ما زالت الخصومة فيه، وهذا اللفظ يصدق عليه.
    فإظهاره هو الإعلان بمباينة المعتقد، والبعد عن ضده، دع الدعوة إليه فإنه أمر وراء ذلك؛ فلو استقل الحكم بما زعمه المجيز - هداه الله - من أن العلة عدم المنع من العبادة، لبقيت نصوص الشارع عديمة الفائدة، لأنه لا يمنع أحد من فعل العبادات الخاصة في أكثر البلاد، فبطل ما زعمه وسقط ما فهمه. ...
    وكلام أبي عبد الله الحليمي في هذا المقام واضح، فإنه قال: وكل بلد ظهر فيها الفساد، وكانت أيدي المفسدين أعلى من أيدي أهل الصلاح، وغلب الجهل، وسمعت الأهواء فيهم،
    وضعف أهل الحق عن مقاومتهم، واضطروا إلى كتمان الحق، خوفا على أنفسهم من الإعلان، فهو كمكة قبل الفتح في وجوب الهجرة منها، لعدم القدرة عليها؛ ومن لم يهاجر فهو من السَّمحَاء بدينه.
    وقال: ومن الشح بالدين أن يهاجر المسلم من موضع لا يمكنه أن يوفي الدين فيه حقوقه إلى موضع يمكنه فيه ذلك؛ فإن أقام بدار الجهالة ذليلا مستضعفا، مع إمكان انتقاله عنها، فقد ترك فرضا في قول كثير من العلماء، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآيتين [سورة النساء آية: 97]؛ لا يقال ليس في الآية تصريح بذكر المؤمنين، فيجوز أن يكون المراد بها الكافر، لأنا نقول: ذكر العفو عمن استثنى يرد ذلك، فإن الله لا يعفو عن الكافرين، وإن عزم على الإيمان ما لم يؤمن، انتهى.
    وهو صريح في بيان المقصود; بهذا كله تعرف أن من عبر من أهل العلم بأمن الفتنة، أو القدرة على أداء الواجبات، أو إطلاق لفظ العبادة، فكلامه مجمل، يرد إلى صريح الظاهر الذي قد قال به السلف الصالح من سلف هذه الأمة وأئمتها، ممن قدمنا ذكرهم وغيرهم.
    وقد ذكر صاحب المعتمد - وهو من أجلاء الشافعية - أن الهجرة كما تجب من دار الشرك، تجب من بلد إسلام أظهر بها حقا، أي: واجبا ولم يقبل منه، ولا قدرة له على إظهاره; وهو موافق لقول البغوي الذي قدمنا: يجب على من كان ببلد

    يعمل فيها بالمعاصي، ولا يمكنه تغييرها، الهجرة إلى حيث تتهيأ له العبادة، نقله عنهما ابن حجر في شرح المنهاج.
    وقال به جمع من الشراح، منهم: الأذرعي والزركشي، وأقروه؛ ومن متأخريهم البلقيني، ذكر ابن حجر أنه صرح به، وبأن شرط ذلك: أن يقدر على الانتقال إلى بلد سالمة من ذلك; فإظهار الدين هو ما صرح به هؤلاء الأئمة، وكلامهم لا يختلف فيه; والقول بأن الشارع رتب الوعيد على مجرد المساكنة والمجامعة، هو الذي يعطيه ظاهر الدليل، وقد قال به طائفة من أهل العلم; والقول بأن إظهار الدين يبيح الإقامة، رخصة; ومن الجناية على الشرع: أن تفسر هذه الرخصة بما يوافق الرأي والهوى، ثم يدفع به في نحر النصوص الواضحة البينة; وأما متأخرو الحنابلة فكلامهم في الباب أشهر من نار على علم.
    قال في الإقناع وشرحه: وتجب الهجرة على من يعجز عن إظهار دينه بدار الحرب، وهو ما يغلب عليها حكم الكفر، زاد جماعة وجزم في المنتهى أو بلد بغاة، أو بدع مضلة، كالرافضة والخوارج، فيخرج منها إلى دار أهل السنة وجوبا، إن عجز عن إظهار مذهب أهل السنة فيها.
    فعلم: أن إظهار الدين في عبارة الموفق ومن قبله ومن بعده من الأصحاب، هو: إظهار التوحيد الذي هو إفراد الله بالعبادة، في بلد يخفى فيه، بل يجعل ضده هو الدين؛ ومن تكلم به هو الوهابي الخارجي، صاحب المذهب الخامس، الذي يكفر الأمة.

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: التوحيد فى الهجرة

    كتمان الدين شئ واظهار الكفر شئ اخر لكل منهما احكامه الخاصة
    فأعذار كتمان الدين اعم من اعذار اظهار الكفر، فاظهار الكفرإنما يكون في حالةٍ خاصة وهى الاكراه
    اما كاتم الدين إذا كان بين كفار ولا يستطيع أن يظهر دينه ، حينئذٍ يكتم ، وهذا لا إشكال فيه
    ، فمن عصى الله بترك إظهار العداوة فهو عاصٍ لله ، فإذا كان أصل العداوة في قلبه فله حكم أمثاله من العصاة ، فإذا انضاف إلى ذلك ترك الهجرة ، فله نصيب من قوله تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ [ النساء : 97] الآية ، لكنه لا يكفر ؛ لأن الآية فيها الوعيد لا التكفير ،
    وأما الثاني الذي لا يوجد في قلبه شيءٌ من العداوة فيصدق عليه قول السائل لم يعادِ المشركين --
    فهذا هو الأمر العظيم والذنب الجسيم ، وأي خيرٍ يبقى مع عدم عداوة المشركين
    . .

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: التوحيد فى الهجرة

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمدعبداللطيف مشاهدة المشاركة
    كتمان الدين شئ واظهار الكفر شئ اخر. .
    يقول شيخ الاسلام بن تيميه رحمه الله-فى الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح-ص-385-وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}. .
    وقد ذكر أكثر العلماء أن هذه الآية الأخرى في آل عمران نزلت في النجاشي ونحوه ممن آمن بالنبي لكنه لم تمكنه الهجرة إلى النبي ولا العمل بشرائع الإسلام. لكون أهل بلده نصارى لا يوافقونه على إظهار شرائع الإسلام وقد قيل أن النبي إنما صلى عليه لما مات لأجل هذا فإنه لم يكن هناك من يظهر الصلاة عليه في جماعة كثيرة ظاهرة كما يصلي المسلمون على جنائزهم.
    ولهذا جعل من أهل الكتاب مع كونه آمن بالنبي بمنزلة من يؤمن بالنبي في بلاد الحرب ولا يتمكن من الهجرة إلى دار الإسلام ولا يمكنه العمل بشرائع الإسلام الظاهرةبل يعمل ما يمكنه ويسقط عنه ما يعجز عنه كما قال تعالى. {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}. فقد يكون الرجل في الظاهر من الكفار وهو في الباطن مؤمن كما كان مؤمن آل فرعون.
    قال تعالى. {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ }
    *******
    وقال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله

    يقول شيخ الاسلام بن تيمية رحمه الله -وكتمان الدين شيء ، وإظهار الدين الباطل شيء آخر ويقول بل المسلم يكون أسيرا أو منفردافي بلاد الكفر ، ولا أحد يكرهه على كلمة الكفر ، ولا يقولها ، ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، وقد يحتاج إلى أن يلين لناس من الكفار ليظنوه منهم ، وهو مع هذا لا يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، بل يكتم ما في قلبه .

    وفرق بين الكذب وبين الكتمان . فكتمان ما في النفس يستعمله المؤمن حيث يعذره الله في الإظهار ، كمؤمن آل فرعون .-
    ويقول شيخ الاسلام بن تيميه رحمه الله-فى الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح-ص-385-وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}. .
    وقد ذكر أكثر العلماء أن هذه الآية الأخرى في آل عمران نزلت في النجاشي ونحوه ممن آمن بالنبي لكنه لم تمكنه الهجرة إلى النبي ولا العمل بشرائع الإسلام. لكون أهل بلده نصارى لا يوافقونه على إظهار شرائع الإسلام وقد قيل أن النبي إنما صلى عليه لما مات لأجل هذا فإنه لم يكن هناك من يظهر الصلاة عليه في جماعة كثيرة ظاهرة كما يصلي المسلمون على جنائزهم.
    ولهذا جعل من أهل الكتاب مع كونه آمن بالنبي بمنزلة من يؤمن بالنبي في بلاد الحرب ولا يتمكن من الهجرة إلى دار الإسلام ولا يمكنه العمل بشرائع الإسلام الظاهرة بل يعمل ما يمكنه ويسقط عنه ما يعجز عنه كما قال تعالى. {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}. فقد يكون الرجل في الظاهر من الكفار وهو في الباطن مؤمن كما كان مؤمن آل فرعون.
    قال تعالى. {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ -----------}
    فقد أخبر سبحانه أنه حاق بآل فرعون سوء العذاب وأخبر أنه كان من آل فرعون رجل مؤمن يكتم إيمانه وأنه خاطبهم بالخطاب الذي ذكره فهو من آل فرعون باعتبار النسب والجنس والظاهر وليس هو من آل فرعون الذين يدخلون أشد العذاب وكذلك امرأة فرعون ليست من آل فرعون هؤلاء قال الله قوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. وامرأة الرجل من آله بدليل قوله: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ}. وهكذا أهل الكتاب فيهم من هو في الظاهر منهم وهو في الباطن يؤمن بالله ورسوله محمد يعمل بما يقدر عليه ويسقط عنه ما يعجز عنه علما وعملا و{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} وهو عاجز عن الهجرة إلى دارالإسلام كعجز النجاشي وكما أن الذين يظهرون الإسلام فيهم من هم في الظاهر مسلمون وفيهم من هو منافق كافر في الباطن أما يهودي وإما نصراني وإما مشرك وإما معطل.
    كذلك في أهل الكتاب والمشركين من هو في الظاهر منهم ومن هو في الباطن من أهل الإيمان بمحمد يفعل ما يقدر على علمه وعمله ويسقط ما يعجز عنه في ذلك وفي حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال لما مات النجاشي قال النبي: "استغفروا لأخيكم" فقال بعض القوم تأمرنا أن نستغفر لهذا العلج يموت بأرض الحبشة فنزلت: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} ذكره ابن أبي حاتم وغيره بأسانيدهم وذكره حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن البصري أن رسول الله قال استغفروا لأخيكم النجاشي فذكر مثله. -وقد ذكر أكثر العلماء أن هذه الآية الأخرى في آل عمران نزلت في النجاشي ونحوه ممن آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لكنه لم تمكنه الهجرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا العمل بشرائع الإسلام لكون أهل بلده نصارى لا يوافقونه على إظهار شرائع الإسلام وقد قيل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما صلى عليه لما مات لأجل هذا ، فإنه لم يكن هناك من يظهر الصلاة عليه في جماعة كثيرة ظاهرة كما يصلي المسلمون على جنائزهم .

    ولهذا جعل من أهل الكتاب مع كونه آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة من يؤمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في بلاد الحرب ولا يتمكن من الهجرة إلى دار الإسلام ولا يمكنه العمل بشرائع الإسلام الظاهرة بل يعمل ما يمكنه ويسقط عنه ما يعجز عنه كما قال - تعالى - : فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة فقد يكون الرجل في
    الظاهر من الكفار وهو في الباطن مؤمن كما كان مؤمن آل فرعون .
    -
    ويقول ايضا- كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يغزو جيش هذا البيت، فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خُسِفَ بهم " ، فقيل : يا رسول الله، وفيهم المُكْرَه، قال : " يبعثون على نياتهم " . وهذا في ظاهر الأمر، وإن قتل وحكم عليه بما يحكم على الكفار فالله يبعثه على نيته، كما أن المنافقين منا يحكم لهم في الظاهر بحكم الإسلام ويبعثون على نياتهم .والجزاء يوم القيامة على ما في القلوب لا على مجرد الظواهر؛ ولهذا روي أن العباس قال : يا رسول الله، كنت مكرهًا . قال : [ أما ظاهرك فكان علينا، وأما سريرتك فإلى الله ] .ويقول رحمه الله--وقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمن في الباطن يكتم إيمانه من لا يعلم المسلمون حاله، إذا قاتلوا الكفار، فيقتلونه ولا يغسل ولا يصلى عليه ويدفن مع المشركين، وهو في الآخرة من المؤمنين أهل الجنة، كما أن المنافقين تجري عليهم في الدنيا أحكام المسلمين وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، فحكم الدار الآخرة غيراحكام الدار الدنيا.[درء تعارض العقل والنقل]

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: التوحيد فى الهجرة

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمدعبداللطيف مشاهدة المشاركة
    كتمان الدين شئ واظهار الكفر شئ اخر.
    يقول شيخ الاسلام بن تيمية رحمه الله-

    المؤمن إذا كان بين الكفار والفجار لم يكن عليه أن يجاهدهم بيده مع عجزه ، ولكن إن أمكنه بلسانه وإلا فبقلبه ، مع أنه لا يكذب ويقول بلسانه ما ليس في قلبه ، إما أن يظهر دينه وإما أن يكتمه ، وهو مع هذا لا يوافقهم على دينهم كله ، بل غايته [5] أن يكون كمؤمن [ آل ]فرعون - وامرأة فرعون - وهو لم يكن موافقا لهم على جميع دينهم ، ولا كان يكذب ، ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، بل كان يكتم إيمانه .

    وكتمان الدين شيء ، وإظهار الدين الباطل شيء آخر . فهذا لم يبحه الله قط إلا لمن أكره ، بحيث أبيح له النطق بكلمة الكفر . والله تعالى قد فرق بين المنافق والمكره .

    والرافضة حالهم من جنس حال المنافقين ، لا من جنس حال المكره الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، فإن هذا الإكراه لا يكون عاما من جمهور بني آدم ، بل المسلم يكون أسيرا أو منفردا
    في بلاد الكفر ، ولا أحد يكرهه على كلمة الكفر ، ولا يقولها ، ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، وقد يحتاج إلى أن يلين لناس من الكفار ليظنوه منهم ، وهو مع هذا لا يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، بل يكتم ما في قلبه .

    وفرق بين الكذب وبين الكتمان . فكتمان ما في النفس يستعمله المؤمن حيث يعذره الله في الإظهار ، كمؤمن آل فرعون . وأما الذي يتكلم بالكفر ، فلا يعذره إلا إذا أكره . والمنافق الكذاب لا يعذر بحال ، ولكن في المعاريض مندوحة عن الكذب . ثم ذلك المؤمن الذي يكتم إيمانه يكون بين الكفار الذين لا يعلمون دينه ، وهو مع هذا مؤمن عندهم يحبونه ويكرمونه ; لأن الإيمان الذي في قلبه يوجب أن يعاملهم بالصدق والأمانة والنصح ، وإرادة الخير بهم ، وإن لم يكن موافقا لهم على دينهم ، كما كان يوسف الصديق يسير في أهل مصر وكانوا كفارا ، وكما كان مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه ، ومع هذا كان يعظم موسى ويقول : ( أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ) [ سورة غافر : 2 ] .

    وأما الرافضي فلا يعاشر أحدا إلا استعمل معه النفاق ، فإن دينه الذي في قلبه دين فاسد ، يحمله على الكذب والخيانة ، وغش الناس ، وإرادة السوء بهم ، فهو لا يألوهم خبالا ، ولا يترك شرا يقدر عليه إلا فعله بهم ، وهو ممقوت عند من لا يعرفه ، وإن لم يعرف أنه رافضي تظهر على وجهه سيما النفاق وفي لحن القول ، ولهذا تجده ينافق ضعفاء الناس ومن لا حاجة به إليه ، لما في قلبه من النفاق الذي يضعف قلبه .

    والمؤمن معه عزة الإيمان فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين
    [منهاج السنة النبوية]

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: التوحيد فى الهجرة

    قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن فى مصباح الظلام
    قال المعترض :
    { فظاهر كلامه أن النجاشي ملك الحبشة الذي صلى عليه النبي
    صلى الله عليه وسلم بأصحابه رضي الله عنهم حين أخبره جبريل عليه السلام بموته أنه بكلامه هذا كافر ليس بمسلم ،
    حيث لم يصرح بعداوة قومه الذين يجعلون الله ثالث ثلاثة ،
    وكذلك إمـرأة فرعون التي قالت : { رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين }
    ومؤمن آل فرعون الذي يكتم إيمانهفهو والنجاشي والصحابة جعفر وأصحابه الذي هاجروا إلى الحبشة رضي الله عنهم كفار بهذه العبارة ، كما ترى عند هذا الرجل ،
    إذ لم يصح إسلامهم على قوله ،
    حيث لم يصرح بعداوة الحبشة .
    }
    انتهى كلام المعترض----

    الحواب من الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن
    فيقال :

    الله أكبر ،
    ما أكثر ما في هذه الكلمات اليسيرة من الكذب والظلم والتحريف والجهل .


    وجوابها من وجوه :

    الأول أن يقال : ليس ظاهر كلامه أن النجاشي ومن ذكر بعده لم يصح إسلامهم .
    هذا كذب بحت ،
    وافتراء ظاهر ؛
    لأنه قد ثبت أن النجاشي قد صرح بعداوتهم والبراءة من مذهبهم وراغمهم ،
    زيادة على التصريح بالعداوة .
    وقد قال :
    ( وإن نخرتم ) لما صرح بعبودية عيسى عليه السلام حين قرأ جعفر صدر سورة مريم وما فيها من ذكر عيسى ،
    فقال النجاشي : ( والله ما زاد عيسى على هذا ) .
    فنخـرت بطارقته
    ، فقال :
    ( وإن نخرتم )
    فأي جهاد وتصريح وعداوة أبلغ من هذا ؟!

    ومع ذلك نصر المهاجرين ومكنهم مـن بلاده ؛
    وقال : ( أنتم سيوم بأرضي ) ـ أي آمنون ـ ( من سبكم ندم ، ومن ظلمكم غرم )

    فقد صرح بأنه يعاقب من سب دينهم وسفه رأيهم فيه ،
    وهذا قدر زائد على التصريح بعداوتهم .


    ولا يقول إن جعفراً وأصحابه يكتمون دينهم ببلاد الحبشة ولا يصرحون بعداوة الكفار والمشركين
    إلا أجهل الورى
    ، وأعظم كذبا وافتراء
    ،
    وهل ترك جعفر وأصحابه بلادهم وأرض قومهم واختاروا بلاد الحبشة ومجاورة الأباعد والأجانب وغير الشكل في المذهب والنسب واللسان ،
    إلا لأجل التصريح بعداوة المشركين والبراءة منهم جهارا في المذهب والدين ؟
    ولولا ذلك لما احتاجوا إلى هجرة ،
    ولا اختاروا الغربة ،
    ولكن ذلك في ذات الإله ،
    والمعاداة لأجله ، وهذا ظاهر لا يحتاج لتقرير لولا غلبة الجهل .


    وامرأة فرعون قصتها وما جرى عليها من المحنة مشهورة في كتب التفسير لا يجهله من له أدنى ممارسة . وقد حكى الله في سورة التحريم قولها المشتمل على التصريح والبراءة من فرعون وعمله ومن القوم الظالمين . والظلم هنا هو الكفر الجلي .

    ومؤمن آل فرعون قام خطيبا في قومه ، عائبا لدينهم ، مفنّداً لقيلهم ماقتاً لهم ؛ داعياً إلى الحق وإلى صراط مستقيم . كما ذكر الله قصته وقررها في سورة ( حم المؤمن ) .

    ومن طبع الله على قلبه وحقت عليه كلمة العذاب لم تفد فيه الواضحات ، ولم ينتفع بالآيات البينات .

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: التوحيد فى الهجرة

    قال الشيخ حمد ابن عتيق رحمه الله
    وبذلك عارضوا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في أصل هذه الدعوة؛
    ومن له مشاركة فيما قرره المحققون، قد اطلع على أن البلد، إذا ظهر فيها الشرك، وأعلنت فيها المحرمات، وعطلت فيها معالم الدين، تكون بلاد كفر، تغنم أموال أهلها، وتستباح دماؤهم. وقد زاد أهل هذا البلد، في إظهار المسبة له ولدينه، ووضعوا قوانين ينفذونها في الرعية، مخالفة لكتاب الله وسنة نبيه؛ وقد علمت أن هذه كافية وحدها، في إخراج من أتى بها من الإسلام; هذا ونحن نقول: قد يوجد فيها من لا يحكم بكفره في الباطن، من مستضعف ونحوه، وأما في الظاهر فالأمر - ولله الحمد - واضح.
    ويكفيك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، مع أن فيهم مستضعفين، وكذلك ما فعله أصحابه بكثير ممن ارتد عن الإسلام، من استباحة الدم والمال والسبي؛ وكل عاقل وعالم يعلم أن ما أتى به هؤلاء، من الكفر والردة، أقبح وأفحش، وأكثر مما فعله أولئك؛ فارجع البصر في نصوص الكتاب والسنة، وفي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، تجدها بيضاء نقية، لا يزيغ عنها إلا هالك؛ تحر فيما ذكر العلماء، وارغب إلى الله في هداية القلب، وإزالة الشبهة، وما كنت أظن أن هذا يصدر من مثلك، ولا تغتر بما عليه الجهال، وما يقوله أهل الشبهات.
    فإنه قد بلغني أن بعض الناس يقول: إن في الأحساء من هو مظهر دينه، لأنه لا يرد عن المساجد والصلاة، وأن هذا عندهم هو إظهار الدين، وهذه زلة فاحشة، غايتها: أن أهل بغداد وأهل بنبي وأهل مصر، قد أظهر من هو عندهم دينه، فإنهم لا يمنعون من صلى، ولا يردون عن المساجد. فيا عباد الله أين عقولكم؟ فإن النّزاع بيننا وبين هؤلاء، ليس هو في الصلاة، وإنما هو في تقرير التوحيد والأمر به، وتقبيح الشرك والنهي عنه، والتصريح بذلك،).

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: التوحيد فى الهجرة

    قال الشيخ صالح ال الشيخ قال بعض العلماء
    -
    الدار إذا ظهر فيها الأذان وسُمع وقت من أوقات الصلوات فإنها دار إسلام, لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن يغزو قوما أن يصبحهم, قال لمن معه: «انتظروا» فإن سمع أذانا كفّ، وإن لم يسمع أذانا قاتل،وهذا فيه نظر,
    لأن الحديث على أصله،
    وهو أن العرب حينما يُعلون الأذان،
    معنى ذلك أنهم يقرون ويشهدون شهادة الحق لأنهم يعلمون معنى ذلك، وهم يؤدون حقوق التوحيد الذي اشتمل عليه الأذان، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله ورفعوا الأذان بالصلاة،
    معنى ذلك أنهم انسلخوا من الشرك وتبرؤوا منه، وأقاموا الصلاة،
    وقد قال جل وعلا ?فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ?[التوبة:11]، (فَإِنْ تَابُوا) من الشرك، (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)
    ،
    ذلك لأن العرب كانوا يعلمون معنى التوحيد،
    فإذا دخلوا في الإسلام وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله،دل ذلك أنهم يعملون بمقتضى ذلك،
    أما في هذه الأزمنة المتأخرة

    فإن كثيرين من المسلمين، يقولون لا إله إلا الله، محمد رسول الله
    ، ولا يعلمون معناها، ولا يعملون بمقتضاها
    ،
    بل تجد الشرك فاشيا فيهم،
    ولهذا نقول إن هذا القيد أو هذا التعريف
    وهو أن دار الإسلام هي الدار التي يظهر فيها الأذان بالصلوات
    ،
    أنه في هذه الأزمنة المتأخرة أنه
    لا يصح أن يكون قيدا،
    والدليل على أصله وهو أن العرب كانوا ينسلخون من الشرك، ويتبرؤون منه ومن أهله، ويقبلون على التوحيد، ويعملون بمقتضى الشهادتين،
    بخلاف أهل هذه الأزمان المتأخرة
    [شرح الاصول الثلاثة للشيخ صالح ال الشيخ]

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: التوحيد فى الهجرة

    يقول الشيخ اسحاق بن عبد الرحمن بن حسن فى توضيح المقصود بكلام الشيخ ابا بطين قال-إذا كان من المعلوم: أن مصر دار إسلام، فتحها عمرو بن العاص، زمن الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه، فأين إجماع الناس على أنها دار حرب، أيام بني عبيد القداح؟! وكذلك جزيرة العرب أيام الردة، مع أن الدار دار إسلام، لا دار كافر أصلي بالإجماع.
    لكن لما قام بهم الوصف الذي يبيح الدم والمال، لم يكن لتسميتها دار إسلام حكم ; وصار الحكم لهذا الوصف الطارئ، تعريف على محل طاهر تلوث به المحل؛ وللشيء حكم نظيره، فكيف بما هو أقبح وأشد؟! فبطل ما طرده المجيز من التعلق باسم الدار.
    أما تعريف الدار من حيثية الأحكام المرتبة عليها، فإن كان المستولى عليها هو الكافر الأصلي، فيتعلق به أحكام يخالف فيها المرتد، كحكم اللقيط والأموال وغيرهما؛ وعلى هذا تفاريع

    ذكرها الفقهاء، وجعل بعضهم الدار ضابطا لأشياء نوزع في بعضها.
    قال في التنقيح: فإن وجد اللقيط في بلد كفار حرب، لا مسلم فيه، أو فيه مسلم، كتاجر وأسير، فكافر رقيق، أي: اللقيط; فإن كثر المسلمون فمسلم؛ ومثله ما صرح به الحنابلة وغيرهم: أن البلدة التي تجري عليها أحكام الكفر، ولا تظهر فيها أحكام الإسلام بلدة كفر.
    وما حكاه ابن مفلح، عن الشيخ تقي الدين: أن البلدة التي تظهر فيها أحكام الكفر وأحكام الإسلام، لا تعطى حكم الإسلام من كل وجه، ولا حكم الكفر من كل وجه؛ وهو الذي عنى الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين.

    فإنه لما سأله الوالد - قدس الله روحه - عن حكم ما باعوه، أو وهبوه، مما استولوا عليه في نجد؟ أجاب: بأنهم مرتدون، دارهم دار إسلام، والمرتد لا يملك عند جمهور العلماء ; ونص كلامه: فهؤلاء العدو الذين استولوا على نجد، من حكمنا بكفره منهم، فحكمه حكم المرتدين، لا الأصليين، لأن دارهم دار إسلام، وحكم الإسلام غالب عليها ; هذا حاصل كلامه، وهو عندنا بخطه.
    ومعناه: أن الإسلام غالب عليها، بمعنى: أنا نغلب جانب الإسلام فيما استولوا عليه،[مهم جدا] فلا يملكون والحالة هذه لأنهم مرتدون، والمرتد لا يملك مال المسلم؛ فأخذ الناقل

    بمطلق كلامه، ولم يفهم أصل المأخذ، فأين حكم الهجرة وفراق المشركين، المنوط بسماع الشرك والبدع، والمعاصي، ممن لا يستطيع تغييرها، من هذا، لو كانوا يعلمون؟!
    يوضحه: أن متأخري الشافعية، صرحوا به; قال ابن حجر، في شرح المنهاج: والظاهر أن بلد الإسلام التي استولوا عليها، لها حكم بلد الكفر، انتهى؛ فسماها دار إسلام نظرا إلى الأصل، وأعطى الطارئ حكمه-
    [الدررالسنية المجلد12]-هذا توضيح من الشيخ اسحاق ابن عبد الرحمن لما اشكل من كلام الشيخ ابا بطين موضح بأبسط عباره

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: التوحيد فى الهجرة

    قال الشيخ عبد الرحمن ابن قاسم على شرح الاصول الثلاثة
    المتن :


    وَالهِجْرَةُ: الاِنْتِقَالُ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلى بَلَدِ الإِسْلاَمِ(1)، وَالهِجْرَةُ: فَرِيضَةٌ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلى بَلَدِ الإِسْلاَمِ(2)، وَهِيَ بَاقِيَةٌ إِلى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ(3).

    وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ(4) قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ(5) قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ في الأَرْضِ(6) قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا(7) فَأُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً(8) (97) إِلاَّ المُسْتَضْعَفِي نَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ(9) لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً(10) وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً(11) (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ(12) وَكَانَ اللهُ عَفُوَّاً غَفُورًا(13)}.

    وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يا عبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ(14) فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ(15)}.
    قَالَ البَغَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-(16): (سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ في المُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِمَكَّةَ لَمْ يُهَاجِرُوا؛ نَادَاهُـمُ اللهُ باسْمِ الإِيمَانِ)(17).



    وَالدَّلِيلُ عَلَى الهِجْرَةِ مِنَ السُّنَّةِ(18) قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ((لا تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ(19)، وَلا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا))(20).




    الحاشية :


    (1) إِحْرَازًا للدِّينِ، وسُمِّيَ المُهَاجِرُونَ مُهَاجِرِينَ؛ لأَِنَّهُم هَجَرُوا دِيارَهُم، ومَسَاكِنَهُم التي نَشَؤُوا بِهَا للَّهِ، ولَحِقُوا بِدَارٍ لَيْسَ لَهُم فيها أَهْلٌ ولاَ مَالٌ، حِينَ هَاجَرُوا إِلَى المَدِينَةِ، فَكُلُّ مَن فَارَقَ بَلَدَه فهو مُهَاجِرٌ، والمُهَاجَرَةُ في الأَصْلِ: مُصَارَمَةُ الغَيْرِ، ومُقَاطَعَتُه ومُبَاعَدَتُه.
    (2) مَعْلُومٌ ثُبُوتُها بالكِتَابِ والسُّنَّةِ والإِجْمَاعِ، مُتَوَعَّدٌ مَن تَرَكَهَا.
    وقَدْ حَكَى الإِجْمَاعَ عَلَى وجُوبِهَا، مِن بَلَدِ الشِّرْكِ إِلَى بَلَدِ الإِسْلاَمِ غيرُ واحِدٍ مِن أَهْلِ العِلْمِ، بل فَرَضَها اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصَّحَابَةِ، قَبْلَ فَرْضِ الصَّوْمِ والحَجِّ، كَمَا هو مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِ الأُصُولِ والفُرُوعِ، مَعْلُومٌ بالضَّرُورَةِ مِن الدِّينِ.
    (3) باتِّفَاقِ مَن يُعْتَدُّ به مِن أَهْلِ العِلْمِ.
    قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ: (لاَ يَسْلَمُ أَحَدٌ مِن الشِّرْكِ، إلاَّ بالمُبَايَنَةِ لأَِهْلِه).
    (4) يعني: بالإِقَامَةِ بَيْنَ أَظْهُرِ الكُفَّارِ، نَزَلَتْ في أُنَاسٍ مِن أَهْلِ مَكَّةَ، تَكَلَّمُوا بالإِسْلاَمِ، ولم يُهَاجِرُوا؛ فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلاَئِكَةُ} أَرَادَ مَلَكَ المَوْتِ وأَعْوَانَه، أو مَلَكَ المَوْتِ وحدَه، فإِنَّ العَرَبَ قَدْ تُخَاطِبُ الوَاحِدَ بلَفْظِ الجَمْعِ {ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} بِتَرْكِ الهِجْرَةِ.
    (5) أيْ: لِمَ مَكَثْتُم ههنا، وتَرَكْتُم الهِجْرَةَ؟ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وتَوْبِيخٍ وتَقْرِيعٍ، يَعُودُ مَعْنَاه إِلَى: لِمَ مَكَثْتُم ههنا، وتَرَكْتُم الهِجْرَةَ، وفي أيِّ فَرِيقٍ كُنْتُم، والمَلاَئِكَةُ تَعْلَمُ: في أيِّ فَرِيقٍ كَانَ فيه التَّارِكُونَ للهِجْرَةِ، بعدَ ما وَجَبَتْ عَلَيْهِم.
    (6) عَاجِزِينَ عن الهِجْرَةِ، لاَ نَقْدِرُ عَلَى الخُرُوجِ مِن البَلَدِ، ولاَ الذَّهَابِ في الأَرْضِ.
    (7) يَعْنِي: إِلَى المَدِينَةِ، فتَخْرُجُوا مِن بَيْنِ أَهْلِ الشِّرْكِ، ولَمْ تَعْذُرْهُم المَلاَئِكَةُ، وفي الحديثِ: ((مَنْ جَامَعَ المُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ)) رَوَاهُ أَبُو داودَ وغيرُه في أَحَادِيثَ أُخَرَ.
    (8) أيْ: بِئْسَ المَصِيرُ إِلَى جَهَنَّمَ، وهذا فيه: أَنَّ تَارِكَ الهِجْرَةِ بعدَما وَجَبَتْ عَلَيْهِ، مُرْتَكِبٌ كَبِيرَةً مِن كَبَائِرِ الذُّنُوبِ.
    (9) العَاجِزُ عن الهِجْرَةِ، والوِلْدَانُ: جَمْعُ ولِيدٍ، وَوَلِيدَةٍ، والوَليِدُ: الغُلاَمُ قبلَ أنْ يَحْتَلِمَ.
    (10) أيْ: مِن مُفَارَقَةِ المُشْرِكِينَ، فَلاَ يَقْدِرُونَ عَلَى حِيلَةٍ، ولاَ عَلَى نَفَقَةٍ، ولاَ عَلَى القُوَّةِ للخُرُوجِ.
    (11) لاَ يَعْرِفُونَ طَرِيقًا إلى الخُرُوجِ مِن مَكَّةَ إلى المَدِينَةِ، حَيْثُ كَانَتْ هي إِذْ ذَاكَ بَلَدَ الإِسْلاَمِ.
    (12) أيْ: يَتَجَاوَزُ عَن المُسْتَضْعَفِي نَ، وأَهْلِ الأَعْذَارِ بتَرْكِ الهِجْرَةِ، و{عَسَى} مِن اللَّهِ واجِبٌ؛ لأَِنَّه للإِطْمَاعِ.
    (13) عَفُوًّا يَتَجَاوَزُ عن سَيِّئَآتِهِم، غَفُورًا لِمَنْ تَابَ إليه، لاَ يُكَلِّفُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا؛ قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: (كُنْتُ أَنَا وأُمِّي مِن المُسْتَضْعَفِي نَ، وكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو للمُسْتَضْعَفِي نَ فِي الصَّلاَةِ).
    (14) أَمَرَ تَعَالَى عِبَادَه المُؤْمِنِينَ بالهِجْرَةِ، مِن البَلَدِ الذي لاَ يَقْدِرُونَ فيه عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ، إِلَى أَرْضِهِ الوَاسِعَةِ، وأَخْبَرَ أَنَّ الأَرْضَ غَيْرُ ضَيِّقَةٍ بل وَاسِعَةٌ، تَسَعُ جَمِيعَ الخَلاَئِقِ.
    فإِذَا كَانَ الإِنْسَانُ في أَرْضٍ، لَمْ يتَمَكَّنْ مِن إِظْهَارِ دِينِه فيها، فإنَّ اللَّهَ قَدْ وَسَّعَ لَهُ الأَرْضَ، ليَعْبُدَه فيها كَمَا أَمَرَ، وكذلك يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَن كَانَ بِبَلَدٍ يُعْمَلُ فيها بالمَعَاصِي، ولاَ يُمْكِنُه تَغْييرُها: أنْ يُهَاجِرَ مِنْها.
    (15) أيْ: وحِّدُونِ في أَرْضِي الوَاسِعَةِ، التي خَلَقْتُها ومَا عَلَيْهَا لَكُم، وخَلَقْتُكُم عَلَيْهَا لعِبَادَتِي، وفي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ: ((ابْنَ آدَمَ خَلَقْتُكَ لأَِجْلِي، وَخَلَقْتُ كُلَّ شَيْءٍ لأَِجْلِكَ)).
    (16) المُلَقَّبُ: مُحْيي السُّنَّةِ، أَبُو مُحَمَّدٍ الحُسَيْنُ بنُ مَسْعُودٍ الفَرَّاءُ، صَاحِبُ التَّفْسِيرِ، (وشَرْحِ السُّنَّةِ) وغيرِهِمَا، المُتَوفَّى سَنَةَ خَمْسِمِائَةٍ وسِتَّ عَشْرَةَ.
    (17) حَكَاه عَن جَمَاعَةٍ مِن التَّابِعِينَ، فَأَفَادَ: أنَّ تَارِكَ الهِجْرَةِ بَعْدَمَا وجَبَتْ عَلَيْهِ لَيْسَ بكَافِرٍ، لَكِنَّه عَاصٍ بتَرْكِهَا، فهو مُؤْمِنٌ ناقِصُ الإِيمَانِ، عَاصٍ مِن عُصَاةِ المُوَحِّدِينَ المُؤْمِنِينَ.
    (18) أيْ: عَلَى وجُوبِ الهِجْرَةِ، مِن بَلَدِ الشِّرْكِ إلى بَلَدِ الإِسْلاَمِ، مِن سُنَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، التي أَمَرَنا باتِّباعِها.
    (19) أيْ: لاَ تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ، مِن بَلَدِ الشِّرْكِ إلى بَلَدِ الإسلامِ، حتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، أيْ: حتَّى لاَ تُقْبَلَ التَّوْبَةُ مِمَّنْ تَابَ.
    فَدَلَّ الحديثُ:عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مَا دَامَتْ مَقْبُولَةً، فالهِجْرَةُ واجِبَةٌ بِحَالِهَا.
    وأمَّا حَدِيثُ ابنِ عَبَّاسٍ: ((لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ))فالمُرَادُ: لاَ هِجْرَةَ بعدَ فَتْحِ مَكَّةَ منها إلى المَدِينَةِ، حَيْثُ كَانَتْ مَكَّةُ بَعْدَ فَتْحِهَا بَلَدَ إِسْلاَمٍ.
    فَإِنَّ أُنَاسًا أَرَادُوا أَنْ يُهَاجِرُوا منها إلى المَدِينَةِ، ظَنًّا مِنْهُم أنَّه مُرَغَّبٌ فيها، فَبَيَّنَ لَهُم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنَّه إنَّما حَثَّ عَلَيْهَا لَمَّا كَانَتْ مَكَّةُ بَلَدَ كُفْرٍ، أَمَا وقَدْ كَانَتْ بَلَدَ إِسْلاَمٍ، فَلاَ، فالمَعْنَى: لاَ هِجْرَةَ مِن مَكَّةَ إلى المَدِينَةِ.
    وأَمَّا ثُبُوتُ الهِجْرَةِ مِن بَلَدِ الشِّرْكِ، إِلَى بَلَدِ الإِسْلاَمِ، وبَقَاؤُهَا فمَعْلُومٌ بالنَّصِّ، والإِجْمَاعِ.
    (20) فإذا طَلَعَت الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِها، فهو أَوَانُ قِيامِ السَّاعَةِ، وهي أَقْرَبُ عَلاَمَاتِهَا، وإذا طَلَعَتْ لَمْ تُقْبَل التَّوْبَةُ، قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} وجَاءَ في ذلك أَحَادِيثُ كَثِيرَة.
    وهذا يُفَسَّرُ بقِيامِ السَّاعَةِ، فَدَلَّ عَلَى أنَّها تُقْبَلُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِن مَغْرِبِهَا، ومَا دَامَتْ تُقْبَلُ التَّوْبَةُ، فَلاَ تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ.
    وفي الحَدِيثِ: ((أَنَا بَرِيءٌ مِنْ مُسْلِمٍ بَاتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ المُشْرِكِينَ)).
    - وقَالَ: ((لاَ تَرَاءَى نَارَاهُمَا)).
    -وقَالَ: ((الهِجْرَةُ بَاقِيَةٌ مَا قُوتِلَ العَدُوُّ)) .
    - وقَالَ: ((لاَ يَسْلَمُ لِذِي دِينٍ دِينُهُ، إلاَّ مَنْ فَرَّ مِنْ شَاهِقٍ إِلى شَاهِقٍ)).

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: التوحيد فى الهجرة

    [بيان معنى الهجرة]
    لما أتى لهذا الموضع فسر الهجرة فقال: (والهجرة: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام) هذا تعريفها الاصطلاحي.

    والهجرة في اللغة:الترك.
    وفي الشرع:ترك ما لا يحبه الله ويرضاه إلى ما يحبه ويرضاه.
    ويدخل في هذا المعنى الشرعي:
    -هجر الشرك.
    - يدخل فيه: ترك محبة غير الله ورسوله.
    - يدخل فيه:ترك بلد الكفر؛ لأن المقام فيها لا يرضاه الله - جل وعلا - ولا يحبه.
    أما في الاصطلاح قال: (الهجرة: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام) الانتقال يعني: ترك بلد الشرك والذهاب إلى بلد الإسلام.
    وسبب الهجرة -
    يعني:
    سبب إيجاب الهجرة أو سبب مشروعية الهجرة -
    أن المؤمن يجب عليه أن يظهر دينه معتزاً بذلك مبيناً للناس مخبراً أنه يشهد شهادة الحق؛
    لأن الشهادة لله -جل وعلا- بالتوحيد،
    ولنبيه بالرسالة؛ فيها إخبار الغير،
    وهذا الإخبار يكون بالقول والعمل،
    فإظهار الدين به يكون إخبار الغير عن مضمون الشهادة ومعنى الشهادة،
    فلهذا كانت الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام واجبة،
    إذا لم يستطع المسلم إظهار دينه؛
    لأن إظهار الدين واجبٌ في الأرض،
    وواجب على المسلم أن يظهر دينه وأن لا يستخفي بدينه،
    فإذا كان إظهاره لدينه غير ممكن في دارٍ وجب عليه أن يتركها
    ، يعني: وجب عليه أن يُهاجر.

    [تعريف بلد الشرك]
    قال: (الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام) بلد الشرك: هي كل بلد يظهر فيها الشرك ويكون غالباً.
    إذا ظهر الشرك في بلد وصار غالباً، يعني: كثيراً أكثر من غيره صارت تسمى بلد شرك، سواءً كان هذا الشرك في الربوبية، أو كان في الإلهية، أو كان في مقتضيات الإلهية من الطاعة والتحكيم ونحوها.
    بلد الشرك: هي البَلَدُ التي يظهر فيها الشرك ويكون غالباً، هذا معنى ما قرره الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - حينما سئل عن دار الكفر، ما هي؟ قال: (دار الكفر: هي الدار التي يظهر فيها الكفر ويكون غالباً).
    إذاً: إذا ظهر الشرك في بلدة وصار ظهوره غالباً - ومعنى ذلك: أن يكون منتشراً ظاهراً بيناً، غالباً الخير - فإن هذه الدار تسمى بلد شرك، هذا باعتبار ما وقع وهو الشرك.
    أما باعتبار أهل الدار: فهذه مسألة فيها خلاف بين أهل العلم، هل يُنظر في تسمية الدار بدار إسلام ودار شرك إلى أهلها ؟
    وقد سئل شيخ الإسلام - رحمه الله - عن بلد تظهر فيها أحكام الكفر، وتظهر فيها أحكام الإسلام، فقال: (هذه الدار لا يحكم عليها أنها دار كفر، ولا أنها دار إسلام، بل يعامل فيها المسلم بحسبه، ويعامل فيها الكافر بحسبه).
    وقال بعض العلماء: (الدار إذا ظهر فيها الأذان، وسُمِع أوقاتَ الصلوات، فإنها دار إسلام؛ لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان إذا أراد أن يغزو قوماً - أن يُصَبِّحهم - قال لمن معه: انتظروا، فإن سمع أذاناً كف، وإن لم يسمع أذاناً قاتل).
    وهذا فيه نظر؛ لأن الحديث على أصله، وهو أن العرب حينما يعلون الأذان معنى ذلك أنهم يُقرون ويشهدون شهادة الحق؛ لأنهم يعلمون معنى ذلك، فهم يؤدون حقوق التوحيد الذي اشتمل عليه الأذان، فإذا شهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ورفعوا الأذان بالصلاة فمعنى ذلك أنهم انسلخوا من الشرك، وتبرؤوا منه، وأقاموا الصلاة.
    وقد قال - جل وعلا -: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}.
    {فَإِنْ تَابُوا} يعني من الشرك {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} ذلك بأن العرب كانوا يعلمون معنى التوحيد، فإذا دخلوا في الإسلام، وشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، دل ذلك على أنهم يعملون بمقتضى ذلك.
    أما في هذه الأزمنة المتأخرة، فإن كثيرين من المسلمين يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولا يعلمون معناها، ولا يعملون بمقتضاها، بل تجد الشرك فاشياً فيهم، ولهذا نقول: إن هذا القيد أو هذا التعريف، وهو أن دار الإسلام هي الدار التي يظهر فيها الأذان بالصلوات، أنه في هذه الأزمنة المتأخرة أنه لا يصح أن يكون قيداً، والدليل على أصله، وهو أن العرب كانوا ينسلخون من الشرك، ويتبرؤون منه ومن أهله، ويقبلون على التوحيد، ويعملون بمقتضى الشهادتين، بخلاف أهل هذه الأزمان المتأخرة.
    *****************
    [بيان الهجرة العامة، والهجرة الخاصة]

    قال: (الهجرة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام)
    الهجرة من حيث مكانها تنقسم إلى:
    هجرة عامة، وهجرة خاصة.
    -الهجرة العامة: هي التي عرفها الشيخ هنا: ترك بلد الشرك إلى بلد الإسلام، الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام.
    بلد الشرك أي بلد إلى أن تطلع الشمس من مغربها، أي بلد ظهر فيها الشرك، وظهرت فيها أحكام الشرك، وكان ذلك غالباً، فإن الهجرة منها تسمى هجرة، وهذه هجرة عامة من حيث المكان يمكن أن تكون متعلقة بأي بلد.
    -أما الهجرة الخاصة: فهي الهجرة من مكة إلى المدينة، ومكة لما تركها النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ تركها وهي دار شرك، وذهب إلى المدينة؛ لأنه فشى فيها الإسلام، فصار كل بيت من بيوت المدينة دخل فيه الإسلام، فصارت دار إسلام فانتقل من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، هاجر هجرة خاصة، وهذه الهجرة الخاصة هي التي جاء فيها قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((لا هجرة بعد الفتح بل جهاد ونية))كما ثبت في الصحيح، فقوله: ((لا هجرة بعد الفتح)) يعني: لا هجرة من مكة، الهجرة الخاصة - هذه - من مكة إلى المدينة.
    أما الهجرة العامة: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، فهي باقية إلى طلوع الشمس من مغربها، إلى قيام الساعة، إذا وجد بلد شرك ووجد بلد إسلام توجد الهجرة، هذا من حيث المكان.
    [بيان حكم الهجرة]
    ومن حيث الحكم:
    -فإن الهجرة تارة تكون واجبة.
    -وتارةً تكون مستحبة.
    تكون الهجرة واجبة - يعني: من بلد الشرك إلى بلد الإسلام - تكون واجبة إذا لم يُمكن المسلم المقيم بدار الشرك أن يظهر دينه، إذا ما استطاع أن يظهر التوحيد، وأن يظهر مقتضيات دينه من الصلاة واتباع السنة، كل بلد بحسبه، بحسب ما فيه من الشرك يظهر ما يخالف به أهل البلد، ويكون متميزاً فيهم، إذا لم يستطع ذلك، فإن الهجرة تكون واجبة عليه.
    وعليه حُمل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} يعني: لم نستطع إظهار الدين، الاستضعاف هنا بمعنى عدم استطاعة إظهار الدين {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} فدل هذا على أنها واجبة؛ لأنه توعدهم عليها بجهنم، فمعنى هذا أن ترك الهجرة إذْ لم يستطع إظهار الدين أنه محرمٌ، وأن الهجرة واجبة.
    القسم الثاني:
    المستحب
    ، وتكون الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام مستحبة،
    إذا كان المؤمن في دار الشرك يستطيع أن يظهر دينه، تكون مستحبة، وذلك لأن القصد الأول من الهجرة أن يتمكن المؤمن من إظهار دينه، وأن يعبد الله ـ جل وعلا ـ على عزةٍ، وقد قال - جل وعلا -: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} نزلت فيمن ترك الهجرة، وناداهم باسم الإيمان، هذه الأحكام متعلقة بالهجرة من دار الكفر والشرك إلى دار الإسلام.

    وهناك هجرة أخرى
    من دار يكثر فيها المعاصي والبدع إلى دار ليس فيها معاصٍ وبدع، أو تقل فيها المعاصي والبدع، وهذه ذكر الفقهاء - فقهاء الحنابلة - رحمهم الله ذكروا أنها مستحبة،
    وأن البلد إذا كثر فيها البدع، أو كثرت فيها الكبائر والمعاصي، فإنه يستحب له أن يتركها إلى دار يقل فيها ذلك، أو ليس فيها شيء من ذلك؛ لأن بقاءه على تلك الحال مع أولئك يكون مع المتوعدين بنوع من العذاب الذي يحيق بأهل القرى الذين ظلموا.


    وقد هاجر جمع من أهل العلم من بغداد، لما علا فيها صوت المعتزلة، وصوت أهل البدع، وكثُرت فيها المعاصي والزنا وشرب الخمر، تركوها إلى بلدٍ أخرى، وبعض أهل العلم بقي لكي يكون قائماً بحق الله في الدعوة، وفي بيان العلم، وفي الإنكار، ونحو ذلك.
    أيضاً كثير من العلماء تركوا مصر لما تولت عليها الدولة العُبيدية، وخرجوا إلى غيرها؛ وهذا قد يُحمل على أنها من الهجرة المستحبة، أومن الهجرة الواجبة، بحسب الحال في ذلك الزمان.
    [شرح قوله: (والهجرة فريضة على هذه الأمة...) ]
    قال هنا ـ رحمه الله ـ:
    (والهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام)
    فرض بقيد ألا يستطيع إظهار دينه، فإن كان يستطيع، فإن الهجرة في حقه مستحبة.

    قال: (وهي باقية إلى أن تقوم الساعة)
    يريد: إلى قرب قيام الساعة، وهو طلوع الشمس من مغربها،
    كما جاء في الحديث: ((لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)).

    [تفسير قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية]
    قال - رحمه الله تعالى - مستدلاً (والدليل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} ) ظلم النفس بترك الهجرة؛ لأنهم عصوا الله -جل وعلا- بترك الهجرة، ومكة لم يعد في إمكان المؤمنين أن يظهروا دينهم فيها، فقد تسلط الكفار على أهلها فلم يستطيعوا - أعني: المؤمنين - أن يظهروا دينهم، وهذا كان قائماً من أول الدعوة، تسلطوا فترة، وكان إظهار الدين في أول الدعوة ليس واجباً، ثم أُمرو بذلك بقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِ ينَ}.
    فابتلي من ابتلي من المؤمنين، فلم يستطيعوا إظهار دينهم، فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلى الحبشة، فأذن بالهجرة إلى الحبشة الهجرة الأولى، ثم الثانية، وقيل: ثَم هجرة ثالثة.
    ثم لما لم يعد بالإمكان أن يَظهَر الدين في مكة، وقد قامت بلد الإسلام في المدينة، صارت الهجرة متعينة وفرضاً من مكة إلى المدينة، لهذا قال - جل وعلا - هنا: {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا} يعني: الملائكة مخاطبين لهؤلاء الذين توفتهم الملائكة وقد تركوا الهجرة {فِيمَ كُنْتُمْ}، يعني: على أي حال كنتم {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} فأجابت الملائكة {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} وهذا إنكار عليهم {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} لأن الاستفهام هنا في (ألم) استفهام للإنكار، وضابطه: أن يكون ما بعده باطلاً، يعني إذا أزلت الهمزة وقرأت ما بعده فإذا كان ما بعده غير صحيح صارت الهمزة إذاً للإنكار، إذا تركت الهمزة صار الكلام: (لم تكن أرض الله واسعةً)، هل هذا صحيح ؟
    ليس بصحيح، فأرض الله - جل وعلا - واسعة، فلما أتى الاستفهام بالهمزة بعد كلام بدون الهمزة يكون باطلاً، تصير الهمزة للإنكار كما هو مقررٌ في موضعه، في كتب حروف المعاني في اللغة.
    [واستدل بعضهم] بهذه الآية على أن من ترك الهجرة مع القدرة على ذلك، أنه كافر من جنس من أقام معهم، وهذا ليس بصحيح.
    قال: إن هذه الآية في المؤمنين؛ لأنه قال في أولها: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} فهؤلاء ظلموا أنفسهم ليس الظلم الأكبر، ولكن الظلم الأصغر بترك الهجرة، قال - جل وعلا - بعدها: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِ ينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} رجال مستضعفون لا يمكنهم أن يعرفوا الطريق، لا يهتدون سبيلاً إلى البلد الآخر {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} ، ليس عندهم ما يركبون، وليس عندهم مال ينقلهم، فهم مستضعفون يريدون الهجرة، ولكنهم مستضعفون من جهة عدم القدرة على الهجرة بالمال، والمركب، والدليل ونحو ذلك.
    فقال - جل وعلا - في هؤلاء: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً} ويلحق بهؤلاء من لم يستطع الهجرة في هذا الزمن بالمعوقات القائمة من أنواع التأشيرات وأشباهها تلحق بهؤلاء؛ لأن هذا لا يستطيع حيلةً، هو يرغب أن يترك بلد الشرك إلى بلد الإسلام، لكن لا يمكنه ذلك لوجود المعوقات، لا يستطيع حيلة، ولا يهتدي سبيلاً وطريقاً إلى بلد الإسلام، فهؤلاء قال الله - جل وعلا - في حقهم:{فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً} .
    [تفسير قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} ]
    ثم ساق دليلاً آخر وهو قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}قال البغوي - رحمه الله -: (سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين في مكة لم يهاجروا، ناداهم الله باسم الإيمان).تركوا الهجرة فناداهم الله باسم الإيمان، فدل على أن ترك الهجرة لا يسلب الإيمان، فمعنى ذلك: أن ترك الهجرة ليس شركاً أكبر، وليس كفراً أكبر، وإنما هو معصية من المعاصي؛ لأنه نادى من ترك الهجرة باسم الإيمان: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} قال البغوي: (نزلت هذه الآية في الذين لم يهاجروا من مكة، ناداهم الله باسم الإيمان) فدل على أن تركهم الهجرة من مكة ليس كفراً ولا شركاً، وأن قوله تعالى في الآية التي قبلها: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} أن هذا لأجل أنهم تركوا واجباً من الواجبات، وارتكبوا كبيرةً من الكبائر، لكن لا يُسلب عنهم اسم الإيمان بترك الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.
    [شرح قوله: (والدليل على الهجرة من السنة...) ]
    قال: (والدليل على الهجرة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتىتطلع الشمس من مغربها)) ) هذا واضح، التوبة لا تنقطع إلا إذا طلعت الشمس من مغربها، وطلوع الشمس من مغربها هو المراد في قوله تعالى في آخر سوره الأنعام: {لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} .
    قال المفسرون: إن معنى قوله: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} أنه طلوع الشمس من مغربها، فإذا طلعت {لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} فلا تنفع التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها، كما قال هنا: ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها، فالهجرة لا تنقطع حتى تنقطع التوبة، والتوبة لا تنقطع حتى تطلع الشمس من مغربها؛ وذلك لأن تارك الهجرة حتى طلعت الشمس من مغربها، قد ترك فرضاً عليه، وإذا طلعت الشمس من مغربها ليس ثمَّ عمل يحدثه العبد، قال: {لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} والعمل بعض الإيمان.
    شرح ثلاثة الأصول للشيخ صالح ال الشيخ

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: التوحيد فى الهجرة

    هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم سنة قديمة في حياة الرسل
    لإيجاد دولة ووسط لاقامة التوحيد و نشره، والذود عنه،
    فهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان قد هاجر من مكة إلى المدينة من أجل ذات الهدف؛
    ذلك أن بقاء النبي صلى الله عليه وسلم في أرض يلقى من أهلها الأذى ويتوعدونه بالقتل،
    لا يخدم الدعوة إلى التوحيد، بل يعوق مسارها ويشل حركتها،
    وقد يعرضها للانتكاس،
    ولهذا فقد فرض الله عز وجل الهجرة على النبي صلى الله عليه وسلم،
    وقد كانت أعظم حدث حول مجرى التاريخ،
    وغيَّر مصار ومنهج حياة شبه الجزيرة العربية،
    من: عقائد وعبادات، وقوانين ونظم، وأعراف وعادات، وأخلاق وسلوك،
    وللهجرة النبوية أهداف وغايات كثيرة،ومنها بناء الدولة للنشر التوحيد

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: التوحيد فى الهجرة

    هجرة الأنبياء و الصالحين قبل عصر النبى صلى الله عليه وسلم :

    هجرة ابراهيم عليه السلام بعدما أخرجه قومه، فقال : ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ 9
    أي: مهاجر من أرض الكفر إلى الإيمان، وقد هاجَر عليه الصلاة والسلام ببعض ذريته إلى الشام؛ حيث البلاد المقدسة والمسجد الأقصى، والبعض الآخر إلى بلاد الحجاز؛ حيث البلد الحرام ؛ كما جاء في دعائه لربه: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ

    هجرة النبي لوط عليه السلام بأهله إلى الشام،: «قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم :إنَّ عثمان لأوَّلُ مَن هاجَر إلى اللهِ بأهلِه بعدَ لوط

    قاتل المائة نفس الذي خرج إلى قرية صالحة بعدما قال له العالم :«اخرُج منَ القَريةِ الخبيثَةِ الَّتي أنتَ فيها إلى القريةِ الصَّالحةِ قَريةِ كذا وَكَذا، فاعبُدْ ربَّكَ فيها»

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •