وَالدَّلِيلُ عَلَى الهِجْرَةِ مِنَ السُّنَّةِ(18) قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ((لا تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ(19)، وَلا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا))(20).
الحاشية :
(1) إِحْرَازًا للدِّينِ، وسُمِّيَ المُهَاجِرُونَ مُهَاجِرِينَ؛ لأَِنَّهُم هَجَرُوا دِيارَهُم، ومَسَاكِنَهُم التي نَشَؤُوا بِهَا للَّهِ، ولَحِقُوا بِدَارٍ لَيْسَ لَهُم فيها أَهْلٌ ولاَ مَالٌ، حِينَ هَاجَرُوا إِلَى المَدِينَةِ، فَكُلُّ مَن فَارَقَ بَلَدَه فهو مُهَاجِرٌ، والمُهَاجَرَةُ في الأَصْلِ: مُصَارَمَةُ الغَيْرِ، ومُقَاطَعَتُه ومُبَاعَدَتُه.
(2) مَعْلُومٌ ثُبُوتُها بالكِتَابِ والسُّنَّةِ والإِجْمَاعِ، مُتَوَعَّدٌ مَن تَرَكَهَا.
وقَدْ حَكَى الإِجْمَاعَ عَلَى وجُوبِهَا، مِن بَلَدِ الشِّرْكِ إِلَى بَلَدِ الإِسْلاَمِ غيرُ واحِدٍ مِن أَهْلِ العِلْمِ، بل فَرَضَها اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصَّحَابَةِ، قَبْلَ فَرْضِ الصَّوْمِ والحَجِّ، كَمَا هو مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِ الأُصُولِ والفُرُوعِ، مَعْلُومٌ بالضَّرُورَةِ مِن الدِّينِ.
(3) باتِّفَاقِ مَن يُعْتَدُّ به مِن أَهْلِ العِلْمِ.
قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ: (لاَ يَسْلَمُ أَحَدٌ مِن الشِّرْكِ، إلاَّ بالمُبَايَنَةِ لأَِهْلِه).
(4) يعني: بالإِقَامَةِ بَيْنَ أَظْهُرِ الكُفَّارِ، نَزَلَتْ في أُنَاسٍ مِن أَهْلِ مَكَّةَ، تَكَلَّمُوا بالإِسْلاَمِ، ولم يُهَاجِرُوا؛ فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلاَئِكَةُ} أَرَادَ مَلَكَ المَوْتِ وأَعْوَانَه، أو مَلَكَ المَوْتِ وحدَه، فإِنَّ العَرَبَ قَدْ تُخَاطِبُ الوَاحِدَ بلَفْظِ الجَمْعِ {ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} بِتَرْكِ الهِجْرَةِ.
(5) أيْ: لِمَ مَكَثْتُم ههنا، وتَرَكْتُم الهِجْرَةَ؟ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وتَوْبِيخٍ وتَقْرِيعٍ، يَعُودُ مَعْنَاه إِلَى: لِمَ مَكَثْتُم ههنا، وتَرَكْتُم الهِجْرَةَ، وفي أيِّ فَرِيقٍ كُنْتُم، والمَلاَئِكَةُ تَعْلَمُ: في أيِّ فَرِيقٍ كَانَ فيه التَّارِكُونَ للهِجْرَةِ، بعدَ ما وَجَبَتْ عَلَيْهِم.
(6) عَاجِزِينَ عن الهِجْرَةِ، لاَ نَقْدِرُ عَلَى الخُرُوجِ مِن البَلَدِ، ولاَ الذَّهَابِ في الأَرْضِ.
(7) يَعْنِي: إِلَى المَدِينَةِ، فتَخْرُجُوا مِن بَيْنِ أَهْلِ الشِّرْكِ، ولَمْ تَعْذُرْهُم المَلاَئِكَةُ، وفي الحديثِ: ((مَنْ جَامَعَ المُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ)) رَوَاهُ أَبُو داودَ وغيرُه في أَحَادِيثَ أُخَرَ.
(8) أيْ: بِئْسَ المَصِيرُ إِلَى جَهَنَّمَ، وهذا فيه: أَنَّ تَارِكَ الهِجْرَةِ بعدَما وَجَبَتْ عَلَيْهِ، مُرْتَكِبٌ كَبِيرَةً مِن كَبَائِرِ الذُّنُوبِ.
(9) العَاجِزُ عن الهِجْرَةِ، والوِلْدَانُ: جَمْعُ ولِيدٍ، وَوَلِيدَةٍ، والوَليِدُ: الغُلاَمُ قبلَ أنْ يَحْتَلِمَ.
(10) أيْ: مِن مُفَارَقَةِ المُشْرِكِينَ، فَلاَ يَقْدِرُونَ عَلَى حِيلَةٍ، ولاَ عَلَى نَفَقَةٍ، ولاَ عَلَى القُوَّةِ للخُرُوجِ.
(11) لاَ يَعْرِفُونَ طَرِيقًا إلى الخُرُوجِ مِن مَكَّةَ إلى المَدِينَةِ، حَيْثُ كَانَتْ هي إِذْ ذَاكَ بَلَدَ الإِسْلاَمِ.
(12) أيْ: يَتَجَاوَزُ عَن المُسْتَضْعَفِي نَ، وأَهْلِ الأَعْذَارِ بتَرْكِ الهِجْرَةِ، و{عَسَى} مِن اللَّهِ واجِبٌ؛ لأَِنَّه للإِطْمَاعِ.
(13) عَفُوًّا يَتَجَاوَزُ عن سَيِّئَآتِهِم، غَفُورًا لِمَنْ تَابَ إليه، لاَ يُكَلِّفُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا؛ قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: (كُنْتُ أَنَا وأُمِّي مِن المُسْتَضْعَفِي نَ، وكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو للمُسْتَضْعَفِي نَ فِي الصَّلاَةِ).
(14) أَمَرَ تَعَالَى عِبَادَه المُؤْمِنِينَ بالهِجْرَةِ، مِن البَلَدِ الذي لاَ يَقْدِرُونَ فيه عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ، إِلَى أَرْضِهِ الوَاسِعَةِ، وأَخْبَرَ أَنَّ الأَرْضَ غَيْرُ ضَيِّقَةٍ بل وَاسِعَةٌ، تَسَعُ جَمِيعَ الخَلاَئِقِ.
فإِذَا كَانَ الإِنْسَانُ في أَرْضٍ، لَمْ يتَمَكَّنْ مِن إِظْهَارِ دِينِه فيها، فإنَّ اللَّهَ قَدْ وَسَّعَ لَهُ الأَرْضَ، ليَعْبُدَه فيها كَمَا أَمَرَ، وكذلك يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَن كَانَ بِبَلَدٍ يُعْمَلُ فيها بالمَعَاصِي، ولاَ يُمْكِنُه تَغْييرُها: أنْ يُهَاجِرَ مِنْها.
(15) أيْ: وحِّدُونِ في أَرْضِي الوَاسِعَةِ، التي خَلَقْتُها ومَا عَلَيْهَا لَكُم، وخَلَقْتُكُم عَلَيْهَا لعِبَادَتِي، وفي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ: ((ابْنَ آدَمَ خَلَقْتُكَ لأَِجْلِي، وَخَلَقْتُ كُلَّ شَيْءٍ لأَِجْلِكَ)).
(16) المُلَقَّبُ: مُحْيي السُّنَّةِ، أَبُو مُحَمَّدٍ الحُسَيْنُ بنُ مَسْعُودٍ الفَرَّاءُ، صَاحِبُ التَّفْسِيرِ، (وشَرْحِ السُّنَّةِ) وغيرِهِمَا، المُتَوفَّى سَنَةَ خَمْسِمِائَةٍ وسِتَّ عَشْرَةَ.
(17) حَكَاه عَن جَمَاعَةٍ مِن التَّابِعِينَ، فَأَفَادَ: أنَّ تَارِكَ الهِجْرَةِ بَعْدَمَا وجَبَتْ عَلَيْهِ لَيْسَ بكَافِرٍ، لَكِنَّه عَاصٍ بتَرْكِهَا، فهو مُؤْمِنٌ ناقِصُ الإِيمَانِ، عَاصٍ مِن عُصَاةِ المُوَحِّدِينَ المُؤْمِنِينَ.
(18) أيْ: عَلَى وجُوبِ الهِجْرَةِ، مِن بَلَدِ الشِّرْكِ إلى بَلَدِ الإِسْلاَمِ، مِن سُنَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، التي أَمَرَنا باتِّباعِها.
(19) أيْ: لاَ تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ، مِن بَلَدِ الشِّرْكِ إلى بَلَدِ الإسلامِ، حتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، أيْ: حتَّى لاَ تُقْبَلَ التَّوْبَةُ مِمَّنْ تَابَ.
فَدَلَّ الحديثُ:عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مَا دَامَتْ مَقْبُولَةً، فالهِجْرَةُ واجِبَةٌ بِحَالِهَا.
وأمَّا حَدِيثُ ابنِ عَبَّاسٍ: ((لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ))فالمُرَادُ: لاَ هِجْرَةَ بعدَ فَتْحِ مَكَّةَ منها إلى المَدِينَةِ، حَيْثُ كَانَتْ مَكَّةُ بَعْدَ فَتْحِهَا بَلَدَ إِسْلاَمٍ.
فَإِنَّ أُنَاسًا أَرَادُوا أَنْ يُهَاجِرُوا منها إلى المَدِينَةِ، ظَنًّا مِنْهُم أنَّه مُرَغَّبٌ فيها، فَبَيَّنَ لَهُم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنَّه إنَّما حَثَّ عَلَيْهَا لَمَّا كَانَتْ مَكَّةُ بَلَدَ كُفْرٍ، أَمَا وقَدْ كَانَتْ بَلَدَ إِسْلاَمٍ، فَلاَ، فالمَعْنَى: لاَ هِجْرَةَ مِن مَكَّةَ إلى المَدِينَةِ.
وأَمَّا ثُبُوتُ الهِجْرَةِ مِن بَلَدِ الشِّرْكِ، إِلَى بَلَدِ الإِسْلاَمِ، وبَقَاؤُهَا فمَعْلُومٌ بالنَّصِّ، والإِجْمَاعِ.
(20) فإذا طَلَعَت الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِها، فهو أَوَانُ قِيامِ السَّاعَةِ، وهي أَقْرَبُ عَلاَمَاتِهَا، وإذا طَلَعَتْ لَمْ تُقْبَل التَّوْبَةُ، قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} وجَاءَ في ذلك أَحَادِيثُ كَثِيرَة.
وهذا يُفَسَّرُ بقِيامِ السَّاعَةِ، فَدَلَّ عَلَى أنَّها تُقْبَلُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِن مَغْرِبِهَا، ومَا دَامَتْ تُقْبَلُ التَّوْبَةُ، فَلاَ تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ.
وفي الحَدِيثِ: ((أَنَا بَرِيءٌ مِنْ مُسْلِمٍ بَاتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ المُشْرِكِينَ)).
- وقَالَ: ((لاَ تَرَاءَى نَارَاهُمَا)).
-وقَالَ: ((الهِجْرَةُ بَاقِيَةٌ مَا قُوتِلَ العَدُوُّ)) .
- وقَالَ: ((لاَ يَسْلَمُ لِذِي دِينٍ دِينُهُ، إلاَّ مَنْ فَرَّ مِنْ شَاهِقٍ إِلى شَاهِقٍ)).