البُداءةُ بالبَسْملةِ هِيَ شأْنُ جميعِ المؤلِّفينَ؛ اقْتِداءً بكِتابِ اللَّهِ؛ حَيْثُ أَنْزَلَ الْبَسْملةَ فِي ابْتِداءِ كُلِّ سُورةٍ، واسْتِناداً إلى سنَّةِ الرسولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإعرابُ البَسْمَلةِ ومعناها تكلَّمَ فِيهِ النَّاسُ كثيراً، وفِي متعَلَّقِها، وأحْسَنُ ما يُقالُ فِي ذلِكَ:
أَنَّهَا متعلِّقةٌ بفِعلٍ محذوفٍ مُتأخِّرٍ مُناسِبٍ للمَقامِ؛
فَإِذَا قَدَّمْتَهَا بَيْنَ يَدَيِ الأكْلِ يَكونُ التَّقديرُ: بسمِ اللَّهِ آكُلُ،
وبَيْنَ يَدَيِ القِراءةِ يَكونُ التَّقديرُ: بسمِ اللَّهِ أَقْرَأُ.

نقدِّرُهُ فِعْلاً؛
لأنَّ الأصْلَ فِي العَملِ الأفعالُ لاَ الأسماءُ،
وَلِهَذَا كَانَتِ الأفعالُ تَعملُ بِلاَ شرطٍ، والأسماءُ لاَ تَعملُ إلاَّ بشرطٍ؛
لأنَّ العَملَ أَصْلٌ فِي الأفعالِ، فَرْعٌ فِي الأسماءِ.

ونُقدِّرُهُ متأخِّراً لِفائِدتَيْنِ:
الأُولى: الحَصْرُ؛ لأنَّ تقديمَ المعمولِ يُفِيدُ الحَصْرَ، فيَكونُ: باسمِ اللَّهِ أَقْرَأُ؛ بمنْزِلَةِ: لاَ أقرأُ إلاَّ باسمِ اللَّهِ.
الثَّانِيَةُ: تَيَمُّناً بالبُداءةِ باسمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -.
ونُقَدِّرُهُ خاصاًّ؛ لأنَّ الخاصَّ أَدَلُّ عَلَى المقصودِ مِن العامِّ؛ إذْ مِنَ المُمْكِنِ أنْ أَقولَ: التَّقديرُ: باسمِ اللَّهِ أَبْتَدِئُ، لكنْ (باسمِ اللَّهِ أَبْتَدِئُ) لاَ تدلُّ عَلَى تَعْيينِ المقصودِ، لكنْ (باسمِ اللَّهِ أَقْرأُ) خاصٌّ، والخاصُّ أَدَلُّ عَلَى المَعْنَى مِن العامِّ.
((اللَّهُ)) عَلَمٌ عَلَى نَفْسِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، ولاَ يُسَمَّى بِهِ غيرُه، ومَعْنَاهُ: المَأْلُوهُ؛ أيْ: المعبودُ محبَّةً وتعظيماً، وهو مُشْتَقٌّ عَلَى القولِ الرَّاجِحِ لِقَولهِ - تَعَالَى -: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) [الأنعامُ: 3]؛ فإنَّ (فِي السَّمَاوَاتِ) مُتعَلَّقٌ بلفْظِ الجَلاَلةِ؛ يَعْنِي: وَهُوَ المَأْلُوهُ فِي السَّمَاوَاتِ وفِي الأَرْضِ.
((الرَّحمنُ))، فَهُوَ ذُو الرَّحمةِ الواسعةِ؛ لأنَّ (فَعْلان) فِي اللُّغةِ العربيةِ تدلُّ عَلَى السَّعةِ والامتلاءِ؛ كما يُقالُ: رجلٌ غضبانُ إذَا امتلأَ غضباً.
((الرَّحيمُ)): اسمٌ يَدُلُّ عَلَى الفِعلِ؛ لأنَّه فَعِيلٌ بمعنى فاعِلٍ، فَهُوَ دالٌّ عَلَى الفِعلِ.
فيَجتمعُ مِن ((الرَّحمنِ الرَّحيمِ)): أنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ واسِعةٌ، وَأَنَّهَا واصِلةٌ إِلَى الخَلْقِ،
وَهَذَا هُوَ مَا أَوْمَأَ إليهِ بعضُهمْ بقولِهِ: الرَّحمنُ رَحمةٌ عامَّةٌ، والرَّحيمُ رحمةٌ خاصَّةٌ بالمؤمنينَ،
وَلَمَّا كانَتْ رَحمةُ اللَّهِ للِكافرِ رحمةً خاصَّةً فِي الدُّنْيَا فقطْ؛
فكأَنَّهَا لاَ رحمةَ لَهُمْ؛ لأَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ يَقولُ - تَعَالَى - لهم إِذَا سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِن النَّارِ، وتَوسَّلُوا إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بِرُبوبِيَّتِهِ واعْتِرَافِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ) [المؤمنونَ: 107]؛ فلاَ تُدْرِكُهُم الرَّحمةُ، بلْ يُدْرِكُهُم العَدْلُ، فيقولُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - لَهُمْ: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ)
شرح الواسطية ابن عثيمين

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
معنى:
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }

قوله تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم}: الجار والمجرور متعلق بمحذوف؛ وهذا المحذوف يقدَّر فعلاً متأخراً مناسباً؛ فإذا قلت: «باسم الله» وأنت تريد أن تأكل؛ تقدر الفعل: «باسم الله آكل».
قلنا: إنه يجب أن يكون متعلقاً بمحذوف؛ لأن الجار والمجرور معمولان؛ ولابد لكل معمول من عامل.
وقدرناه متأخراً لفائدتين:
الفائدة الأولى: التبرك بتقديم اسم الله عز وجل.
والفائدة الثانية: الحصر؛ لأن تأخير العامل يفيد الحصر، كأنك تقول: لا آكل باسم أحد متبركاً به، ومستعيناً به إلا باسم الله عز وجل.
وقدرناه فعلاً؛ لأن الأصل في العمل الأفعال، وهذه يعرفها أهل النحو؛ ولهذا لا تعمل الأسماء إلا بشروط.
وقدرناه مناسباً؛ لأنه أدلّ على المقصود؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلّم: «ومن كان لم يذبح فليذبح باسم الله»(6)، أو قال صلى الله عليه وسلّم: «على اسم الله». فخص الفعل.(7)
و{الله}: اسم الله رب العالمين لا يسمى به غيره؛ وهو أصل الأسماء؛ ولهذا تأتي الأسماء تابعة له.
و{الرحمن} أي ذو الرحمة الواسعة؛ ولهذا جاء على وزن «فَعْلان» الذي يدل على السعة.

و{الرحيم} أي الموصل للرحمة من يشاء من عباده؛ ولهذا جاءت على وزن «فعيل» الدال على وقوع الفعل. فهنا رحمة هي صفته ـ هذه دل عليها {الرحمن}، ورحمة هي فعله ـ أي إيصال الرحمة إلى المرحوم ـ دلّ عليها {الرحيم}. و{الرحمن الرحيم}: اسمان من أسماء الله يدلان على الذات، وعلى صفة الرحمة، وعلى الأثر: أي الحكم الذي تقتضيه هذه الصفة.
والرحمة التي أثبتها الله لنفسه رحمة حقيقية دل عليها السمع، والعقل؛ أما السمع فهو ما جاء في الكتاب، والسنة من إثبات الرحمة لله ـ وهو كثير جداً؛ وأما العقل: فكل ما حصل من نعمة، أو اندفع من نقمة فهو من آثار رحمة الله.
[الدروس العلمية -ابن عثيمين]
**********

: ( الحمد لله ) :
ما معنى الحمد ؟
يقولون : هو : ( وصف المحمود بالكمال على وجه المحبة والتعظيم ) ،
فإن كرر الوصف صار ثناءً ،
ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن الله تبارك وتعالى يقول : ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فإذا قال : { الحمد لله رب العالمين } ( الفاتحة 2 ) قال : حمدني عبدي ، وإذا قال : { الرحمن الرحيم } ( الفاتحة 3 ) قال : أثنى علي عبدي ) [20] ،
فنفسر الحمد بأنه : ( وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم ) ،
قوله : ( الحمد ) : ( أل ) : قالوا : إنها للاستغراق ، يعني جميع المحامد ثابتة لله ،
واللام في قوله : ( لله ) : قالوا : إنها للاستحقاق أو للاختصاص ،
وإن شئنا قلنا : إنها للاستحقاق وللاختصاص ،
للاستحقاق ، لأن الله تعالى مستحق للحمد ،
وللاختصاص ، لأن المحامد كلها لا تكون إلا لله وحده فقط ،
قوله : ( لله ) : الله سبحانه وتعالى علم على الرب سبحانه وتعالى رب العالمين ،

وهو علم مختص به لا يمكن أن يكون لغيره [21] ،
وهذا العلم يكون دائمًا متبوعاً لا تابعاً بمعنى أنه هو الذي يُتبع بالأسماء وليس بتابع ،
فمثلاً : قال الله تعالى : { الحمد لله رب العالمين } ( الفاتحة 2 ) ، { لله ) ثم قال : { رب العالمين } ولم يقل : ( الحمد رب العالمين الله ) ،
وقال : { بسم الله الرحمن الرحيم } ، ولم يقل : ( بسم الرحمن الرحيم الله ) ، فهو دائما هو الذي تلحقه الأسماء ويُلحق بها ،[
مؤلفات العثيمين]

وقال ابن عثيمين رحمه الله

قال: (( الحمد لله )) " أل " هنا للاستغراق أي جميع الحمد من كل وجه ثابت لله عزوجل ، واللام في قوله: (( لله )) إما للاختصاص وإما للاستحقاق ، ولا تنافي بين المعنيين ، وعلى هذا فتكون للاستحقاق والاختصاص ، لأن " أل " في قوله: (( لله )) للعموم ولا أحد يستحق الحمد على العموم إلا الله عزوجل ، فتكون اللام للاستحقاق وللاختصاص أيضا ، ولكن ما هو الحمد ؟ الحمد كثير من الناس يفسره بالثناء ، الثناء على الجميل الاختيار ، ولكن هذا ليس بصحيح ، لأن الثناء يكون تكرار الحمد والدليل على هذا قوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: ( إذا قال العبد (( الحمد لله رب العالمين )) قال الله حمدني عبدي وإذا قال (( الرحمن الرحيم )) قال أثنى علي ) وهذا يدل على أن الثناء هو تكرار الوصف الكامل ، والاشتقاق يدل عليه لأن الثناء من الثني وهو إعادة أو رد الشيء بعضه إلى بعض ، وأما قوله على جميل اختياره فهو بالنسبة لله عزوجل غير صحيح ، لأن الله يحمد على ما يفعله عزوجل وهو يختار من يشاء ويحمد على كمال صفاته اللازمة التي لا تتعدى إلى أحد ، فهو محمود على كمال حياته ومحمود على كمال قيوميته ، الأول وصف لازم ، والثاني وصف متعدي ولازم أيضا كما سبق تفسيره ، إذا الصواب أن حمد الله يكون على أفعاله التي يختاره الله وعلى صفاته الكاملة اللازمة له ، فبماذا نعرفه ؟ نقول: " الحمد " وصف المحمود بالكمال حبا وتعظيما ، الحمد وصف المحمود بالكمال اللازم والمتعدي حبا وتعظيما ، لأن وصف الكمال قد تصف شخصا ما بالكمال لا محبة له لكن رجاء لما سيجازيك ذلك ، وقد تحبه وقد تمدحه لا على سبيل المحبة والتعظيم ولكن خوفا من شره ، فالحمد إذا لابد أن يقيد بأنه على وجه المحبة والتعظيم ، فإن لم يكن على وجه المحبة والتعظيم فهو مدح ، وانظر إلى عمق اللغة العربية كيف فرقت بين الحمد والمدح مع تساويهما في الحروف نوعا وعدلا ، الحروف ؟ ثلاثة ، هذا العدل ، النوع ؟ نفس الحرف: هاء ، ميم ، دال ، لكن اختلف في ترتيب الحروف ، حمد ومدح باختلاف هذا الترتيب اختلف معناهما ، والنسبة بينهما الخصوص والعموم ، فكل حمد مدح وليس كل مدح حمدا ، لأن الحمد كما قلنا لابد أن يكون على وجه المحبة والتعظيم والمدح بخلاف ذلك ، قد يمدح الرجل سلطانا أو وزيرا أو ما أشبه ذلك لا محبة له ولا تعظيما لكن يرجوا عطائه أو يخاف منه ، أما الحمد فلا ،
وقال رحمه الله
فما معنى الحمد؟ الحمد وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيما وإجلالا، فإذا وصفت ربك بالكمال فهذا هو الحمد، لكن لا بد أن يكون مصحوبا بالمحبة والتعظيم والإجلال، لأنه إن لم يكن مصحوبا بذلك سمي مدحا لا حمدا، ومن ثم نجد بعض الشعراء يمدحون بعض الأمراء مدحا عظيما بالغا، لكن لو فتشت عن قلبه لوجدت أنه خال من محبة هذا الأمير ولكن يمدحه إما لرجاء منفعة أو لدفع مضرة، أما حمدنا لله عز وجل فإنه حمد محبة وتعظيم وإجلال، إذ أن محبة تعالى فوق كل محبة، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق محبة كل مخلوق، ولهذا يجب علينا أن يكون الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما، ويجب علينا أن تكون محبة رسول الله صلى الله عليه وعلى وسلم فوق محبة أنفسنا، وأهلنا، ووالدينا، وأولادنا، لأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هو أعظم الناس حقا علينا، به هدانا الله، به أرشدنا، به دلنا على كل خير، به بين لنا كل شر، به نقتدي على منهاج ربنا عز وجل، الموصل إلى دار كرامته ورضوانه، فلهذا من لم يكن قلبه مملوءا من محبة الله ورسوله، من لم يكن مقدما بين محبة الله ورسوله على من سواهما فليعلم أن في قلبه مرضا، وليحرص على أن يصحح هذا المرض، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) إذا الحمد هو وصف المحمود بماذا ؟ بالكمال مع المحبة والتعظيم والإجلال، هذا هو الحمد إذا كررت هذا الوصف سمي ثناء وعليه فالثناء تكرار وصف المحمود بالكمال، ويدل على هذا الفرق ما ثبت في الصحيح من حديث أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ( قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال : الحمد لله رب العالمين، قال : الله حمدني عبدي، وإذا قال : الرحمن الرحيم قال : أثنى علي عبدي، وإذا قال : مالك يوم الدين قال مجدني عبدي ) تصور يا أخي يناجيك الله عز وجل وأنت في صلاتك يسمعك من فوق سبع سماوات ويرد عليك ، إذا قلت : الحمد لله رب العالمين، قال الله : حمدني عبدي، إذا قلت الرحمن الرحيم، قال : أثنى علي عبدي، إذا قلت : مالك يوم الدين، قال : مجدني عبدي، والتمجيد التعظيم، فهل نحن نشعر ونحن نصلي بهذا، الشكوى لله عز وجل، أكثرنا وأكثر أوقاتنا أننا لا نشعر بذلك نقرأ الفاتحة على أنها ركن لا تصح الصلاة إلا بها لكننا لا نشعر بهذه المعاني العظيمة أننا نناجي الله سبحانه وتعالى، الحمد لله رب العالمين، يقول الله عز وجل فوق سماواته حمدني عبدي، من يشعر بهذا يجد لذة عظيمة للصلاة ويجد أن قلبه استنار بها وأنه خرج منها بقلب غير القلب الذي دخل فيها به، الحمد لله نحمده، جملة نحمده جملة فعلية والحمد لله جملة اسمية فجاءت الجملة الفعلية بعد الجملة الاسمية لتأكيد تكرار الحمد، كأننا مستمرون بحمد الله عز وجل [اللقاء الشهرى ]