دعوة لإصلاح الفوضى الأخلاقية والقلمية


مما يسترعي الأذهان في هذه البلاد كثرة الجمعيات، وكثرة المجلات، وكثير منها يدعي خدمة الدين والتمسك به.

والدعاوي ما لم تقيموا عليها *** بينات أبناؤها أدعياء

والأمر الواقع على عكس ما يدَّعون؛ نرى تلك الجماعات والمجلات كمن وصفهم الله عز وجل {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} [الحشر: 14]، في الجدل والمراء والسب والشتم للمتقدمين والمتأخرين، وكلهم يتلو قول الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]، ويقرأ الحديث الشريف: «ما ضلَّ قوم بعد هدًى كانوا عليه إلا أوتوا جدلاً».

والجدل - أعاذني الله وإياكم منه - إن هو إلا كلام مقابل كلام؛ يربأ بأنفسهم عنه العقلاء المخلصون؛ لأنه لا يوصل المجادلين إلى حق أو صواب وهم لا يطلبونهما به.

وإن الحالة التي عليها تلك المجلات من المطاعن والفضائح لَمِن أسوأ الحالات، وإنها وهي متسترة بستار الدين تنهش الأعراض، وتُلبِسُ الحق بالباطل وتكتم الحق - لأشدُّ أذًى على النفوس من تلك الصحف التي تحارب الفضيلة (على المكشوف).

وإن تلك المجلات بلباسها الديني ومخالفتها للدين بالقول والعمل، فتنة لضِعاف الإيمان والمخالفين تصدهم بسيرة القائمين عليها السيئة عن التدين، والله أمرنا أن ندعوه بقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا } [الممتحنة: 5].

وإن تلك المجلات تعطي القاعدين للدين بالمرصاد لمحاربته سلاحًا ماضيًا يحاربونه وأهلَه به، فهي حرب على الدين بخطتها المعوجة لا مثيل لها.

بالله عليكم أيها القائمون على تلك المجلات، لا تغلوا في عصبيتكم، واربأوا بأنفسكم أن تكونوا سببًا في تفرقة الأمة زيادة على تفرُّقها وانحلالها؛ وتذكروا أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل؛ ألم تشعروا بحال النشء الحديث من بنين وبنات كيف أمسى أكثرهم متفلِّتًا من كل صلة توصله إلى ربه، وكل صلة أدبية تصله بأبويه وأقاربه ومعلميه؟ كل واحد يدعي أنه يعيش في بحبوحة الحرية، وما الحرية التي يدعيها ويتبجح بها إلا الخروج على الآداب والأنظمة؛ فالبيوت والمدارس خالية من قرة الأعين، وأماكن اللهو والخلاعة محشوة بروَّادها؛ ولذا غلبت على نشئنا الميوعةُ التي يشكو منها الحكماء، ويحذرون سوءَ عاقبتها.

أيها المجادلون بما اختلف فيه، انظروا إلى الأمر الواقع فإنكم تتبينون أن الأحكام المعروفة من الدين بالضرورة لا يُعمَل بها، ولم يبقَ - كما يقول خطباء المساجد - من القرآن إلا رسمُه، ومن الدين إلا اسمه.

كنا نشكو من تخريف المخرفين من علماء الدين، وصرنا نشكو من هجر بعضهم للدين والاستهتار بآدابه.

أيها الكُتَّاب، عليكم أنفسَكم لا تضركم إساءة المسيئين بأقلامهم وألسنتهم إذا أحسنتم، ولم تؤذوا الأحياء ولا الأموات بأقلامكم وألسنتكم.

أيها المجادلون، اعتبروا بحالكم التي وصلتم إليها، فإنك صرتم لا تملكون إلا الكلام فلا تسلطوه على أنفسكم للإجهاز عليها، بل اجعلوه عونًا لكم لإصلاح شأن أمتكم؛ وانتبهوا إلى أن الكلام صفة المتكلم، وكل إناء بالذي فيه ينضح، ولا تدعوا الأمر يتطور حتى تُقام عليكم الحجة بالأثر المشهور "قد يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، واللبيب تكفيه الإشارة.

أيها القارئ الكريم، إن هذه الحال أعظم مما يحسبه الغافلون؛ إنها انحلال وتقطيع لأواصر الأمة وروابطها، وقد بلغ السَّيْل الزُّبَى، والمفكرون في إصلاح الأمة في حيرة من أمرها، ولا بد من تعاون على الإصلاح، ومن قطعِ دابر الفوضى الأخلاقية والقلمية، ولا يصلح الحال بنصيحة تنشر في صحيفة، بل بنصيحة تُوجَّه من كبار الرجال في أخلاقهم وعلو همتهم، وفي مقدمتهم الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي وسماحة مفتي الديار المصرية الشيخ عبد المجيد سليم وهما مسؤولان عن رعيتهما.

أيها العلماء الكرام، تدبروا قول الله الحكيم: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، بل تتعداهم إلى غيرهم ممن يحاولون الوقوف على الحياد، أو الذين يتهربون من القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويصيبهم من ضروب التجريح ما أصاب الذين ظلموا {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون} [النحل: 33].

______________________________ _______
الكاتب: السيد عبدالرحمن عاصم