ماذا لو بقي المعجم التاريخي للغة العربية في حضانة المجامع اللغوية؟

اللغة العربية، أو لغة الضاد، خصائصها سالت من أجلها الأقلام، ويكفي أن نذكر ببعض ما نحتاجه في هذا المقال، فهي اللغة التي قادت العلم والعالم لقرون، وهي اللغة التي يمتد عمرها لأزيد من عشرين قرنا، وهي اللغة التي تتعدى كلماتها الإثني عشر مليون كلمة، في حين أن الإنجليزية التي هي لغة العلوم في عالمنا المعاصر حسب بعض الإحصاءات لا تتعدى كلماتها ستمائة ألف كلمة، والعربية إحدى اللغات العالمية المعتمدة في هيئة الأمم المتحدة منذ سنة 1973م، وهي اللغة التي تعتبر لغة رسمية في أكثر من اثنين وعشرين دولة، فهي "اللغة الأم" لأزيد من 420 مليون نسمة.
والسؤال: هل عبثا أن يرفع من طرف منظمة اليونسكو شعار "مجامع اللغة العربية: ضرورة أم ترف؟" بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية الذي أعلنته هذه المنظمة منذ عام 2012 في 18 ديسمبر من كل عام.
المجامع اللغوية العربية وهي مؤسسات علمية رسمية لا نريد لها أن تكون ضعيفة، تنص قوانينها ومراسيم تأسيسها على أمرين كبيرين هما: الحفاظ على سلامة اللغة العربية، وحمايتها من الأخطار التي تهددها، فهل نجحت المجامع في هذا الشعار؟ أم إنها تعمل وفق مزاج المسؤولين في كل دولة؟
من المجازفة أن نحمل هذه المؤسسات ما لا تطيقه، ومن غير الإنصاف أن نقول إنها لم تقدم أية خدمة للغة العربية، فلها فضل لا ينكر في الموضوع، لكن من المشروع أن يتساءل أي متتبع أسئلة واقعية في هذه النقطة بالذات "المعجم التاريخي للغة العربية" من خلال التتبع التاريخي للفكرة التي تمتد جذورها في ارتباطها بالمجامع اللغوية إلى سنة 1932م تاريخ تأسيس المجمع اللغوي المصري الذي نص على أن من أهدافه إنجاز "المعجم التاريخي للغة العربية".
كان من المفروض خلال هذه المدة الزمنية 92 عاما، أن ينجز شيء من هذا المعجم التاريخي من طرف المجامع اللغوية، وأن توضع لبنات عملية في البناء والإنجاز، وحينها نقول إن هذه المؤسسات قامت بواجبها وبرأت ذمتها، نعم هناك جهودا كمجهودات الجمعية المعجمية العربية التونسية وغيرها، لكن لم يكتب لها النجاح، كما أسس اتحاد المجامع سنة 1971م، وفي سنة 2004م تم تكوين "هيئة المعجم التاريخي للغة العربية" وفي سنة 2006م تعهد السلطان القاسمي حاكم الشارقة ببناء مقر للاتحاد والإنفاق على المشروع من أجل إنجازه، وفي سنة 2014م صدر كتاب: "صناعة المعجم التاريخي للغة العربية" للدكتور علي القاسمي، وهو تفصيل للخطة العملية التي وضعها المؤلف تلبية لطلب اتحاد المجامع اللغوية والعلمية العربية، لاستخدامها في مشروعه الخاص بتأليف المعجم التاريخي للغة العربية.
وللإشارة فمع توالي السنين بدأ البعض يتخلى عن هذه الفكرة تدريجيا، حيث ظهرت في فترة من الفترات فكرة "المعجم الكبير" الذي صدر أول أجزائه سنة 1970م، والذي لم يكتمل لحد الآن، وقد رأى بعض المعجميين أنه يغني عن المعجم التاريخي، ومع مرور الزمن كادت فكرة المعجم التاريخي تتلاشى من الوجود، وهذا ما ظهر جليا حين شرع في العمل على إنجاز مشروع الشارقة، حيث اضطرت الجهة المشرفة إلى إعادة التكوين من أجل توضيح المفاهيم وتوحيد طريقة العمل، والانطلاق من النقطة الصفر، لأن من بقي من الجيل الذي يفهم الفكرة قليل، وهو إما كبر في السن وإما انتقل إلى دار البقاء.
فهذه المعطيات وغيرها تبين طبيعة السير في عمل المجامع، الذي أقل ما يمكن القول عنه أنه سير المستريح، الذي لا يمكن الاعتماد عليه من أجل الوصول إلى المبتغى، كما أن توالي فشل المحاولات المتكررة، وطول الانتظار الممل، كان ولابد أن يخلق حالة من المراجعة النقدية خاصة لدى النخب الحية التي تستبصر المستقبل، ودائما ترفض الاستسلام، ففي سنة 2011م أعلن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة القطرية، عن إطلاق مشروع "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية" الذي سجل التاريخ أنه كان سباقا للعمل والإنجاز، وربما هذه الخطوة لملمت الواقع، ففي سنة 2016م تأسس "المجمع اللغوي بالشارقة" وذلك ثلاث سنوات بعد انطلاق العمل في مشروع "معجم الدوحة التاريخي" وظهر جليا أن حاكم الشارقة تولى بنفسه الإشراف على إنجاز المشروع عبر مجمع الشارقة، الذي أصدر في نونبر 2020م ثمانية مجلدات تشتمل على حرفي الألف والباء من المعجم، وبذلك أنقد الفكرة وأعاد شيئا من الأمل لاتحاد المجامع.
وبهذا المسار التصحيحي الذي وحد الجهود سواء في الدوحة أو في الشارقة، إذ مشروع الدوحة انخرط فيه ممثلين لما يزيد عن خمسة عشر دولة، ومشوع الشارقة جمع عشرة مجامع لغوية، عاد من جديد ظهور بعض مفاهيم الإحياء والتعاون المشترك بين النخب في مختلف البلدان، وأصبح التنافس والتعاون الإيجابي علامة على أهمية المشاريع، وأن هناك فرصا كثيرة يجب استغلالها رغم ضخامة التحديات قصد إعادة بناء الإنسان والدول على قيم التكامل والاتحاد.
إن المعجم التاريخي للغة العربية بالإضافة إلى مميزاته وفوائده التي لا يتسع المقال لشرحها، يعتبر الجمع الثاني للغة العربية في تاريخها، بعد الجمع الأول الذي قام به اللغويون من القبائل، ولذلك فهو عمل يستحق التنويه، ولو بقي على حاله في حضانة المجامع اللغوية التقليدية لاحتاجت الأمة قرنا من الزمان لإنجازه.